التفكير بلا خوف: كيف ترى شركتك بعين شركة ناشئة لا تخشى الخسارة؟
حين يتحرّر القادة من إرث نجاحاتهم السّابقة، يبدأون في رؤية شركاتهم بعيون المنافسين الجدد، فيكتشفون مكامن الضّعف التي كانت تختبئ خلف مظاهر الاستقرار
بصفتي مدرّباً استراتيجيّاً، أعتبر أنّ من أهم أهدافي تحفيز الابتكار داخل فرق القيادة. غير أنّ أغلب الشّركات الرّاسخة تواجه صعوبةً في تحقيق ذلك، لا لافتقارها إلى الذّكاء أو الكفاءات، بل لأنّ نجاحها ذاته يتحول إلى قيدٍ يحاصرها. فاستثماراتها الحاليّة، وشبكات علاقاتها، وإجراءاتها الدّاخليّة تُنشئ حدوداً غير مرئيّةٍ تقيد التّفكير الاستراتيجيّ وتحدّ من حريّة اتّخاذ القرار.
لقد أجريت تمريناً يُعنى بالابتكار الاستراتيجي مع عشرات الفرق في مراحل النّموّ المختلفة، وكانت النّتائج دائماً مدهشةً. يقوم التّمرين على فكرةٍ بسيطةٍ لكنّها غير مريحةٍ: أن تتخلّى الفرق مؤقّتاً عن ارتباطها العاطفيّ بما أنشأته، وتفكّر بعقليّة شركةٍ ناشئةٍ منافسةٍ لا تملك ما تخسره.
تنبع الفكرة من نظريّة “معضلة المبتكر” لعالم الإدارة كلايتون كريستنسن، والّتي تشرح كيف تتعرّض الشّركات الكبرى للاضطراب لأنّها تركّز على الحفاظ على عملائها الحاليّين واستثماراتها الرّاسخة، بينما تدخل الشّركات النّاشئة بخفّةٍ وحريّةٍ تُتيح لها إعادة تخيّل طرقٍ جديدةٍ لحلّ المشكلات. كما أنّ آليّة التّمرين بسيطة: أقسم الفريق إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ، نحدّد مقدار رأس المال المبدئيّ، ثم أمهلهم ثلاثين دقيقةً لتصميم خطّة عملٍ لشركةٍ ناشئةٍ هدفها إسقاط شركتهم الحاليّة من السّوق. وبعد انتهاء الوقت، تقدّم كلّ مجموعةٍ استراتيجيّتها “الهجوميّة”، كاشفةً نقاط ضعف الشّركة وفرص التّطوير الكامنة.
وعندما يتوقّف القادة عن الدّفاع ويبدؤون في التّفكير كمنافسين، تتبّدل المعادلات: تتحوّل القيود إلى خياراتٍ، والاستثمارات إلى أعباءٍ، والعلاقات إلى عوائق. ومن خلال هذا التّمرين، تنكشف 6 مناطق رئيسيّةٍ يتسبّب فيها التّفكير التّقليديّ في تعطيل الابتكار.
أولًا: الشّرائح المهملة من العملاء
حين تصمّم الفرق نموذج “الشّركة المنافسة”، تكتشف سريعاً شرائح من العملاء تم تجاهلها تماماً؛ فالشّركات الرّاسخة تميل إلى تحسين عمليّاتها لخدمة عملائها الأكثر ربحيّةً، فتبني تسعيرها ونماذجها التّشغيليّة بما يتناسب مع هذه الفئة الأساسيّة. ولكن هذا التّركيز الضّيق يُنتج نقاطاً عمياء تُغفل الأسواق الأصغر أو العملاء ذوي الاحتياجات المختلفة.
أمّا الفرق الّتي تفكّر كالشّركات النّاشئة، فتلاحظ على الفور تلك الفرص المهدورة لأنّها غير مقيّدةٍ بالبنية الحاليّة ولا تخشى التّأثير على السّوق القائم. على سبيل المثال، قد تدرك شركة خدمات مهنيّة أنّها تجاهلت عملاء مستعدّين لإنفاق ما بين 5 و15 ألف دولارٍ سنويّاً لأنّها بنت أنظمتها فقط لخدمةٍ من يدفعون خمسين ألفاً وأكثر.
شاهد أيضاً: كيف تحقق أرباحاً من خلال الابتكار المستدام؟
ثانياً: المواهب المعرّضة للقرصنة
يدفع التّمرين الفرق إلى مواجهة موضوعٍ حسّاسٍ عادةً ما تتجنّبه القيادة: هشاشة الكفاءات الأساسيّة. فعندما يفكر الفريق كمنافسٍ، يحدّد بسرعة الأفراد الذين يمتلكون معرفة حرجة أو مهارات يصعب تعويضها. ويكتشف أن استقطاب عدد قليل من هؤلاء يمكن أن ينقل ميزته التنافسية إلى جهة أخرى دون الحاجة لبناء منظمة كاملة من الصّفر.
هذا الوعي يُظهر أنّ كثيراً من الشّركات تفترض استقرار موظّفيها كأمرٍ مسلمٍ به، دون أن توثق المعرفة أو تنشرها أو تدرّب بدائل قادرةً على حملها. على سبيل المثال، قد تكتشف شركة تصنيع أنّ استقطاب ثلاثة مهندسين كبار فقط يكفي لنسخ كامل نظامها الإنتاجيّ داخل مصنعٍ منافسٍ.
ثالثاً: الأصول غير المستثمرة
تُظهر النّتائج أنّ الشّركات غالباً ما تُبقي على أصولٍ وعلاقاتٍ وأنشطةٍ لا تضيف قيمةً حقيقيّةً. وعندما تبني الفرق نموذج الشّركة المنافسة “الأنحف”، تدرك الحدّ الأدنى من الموارد الكافية لمنافسةٍ فعّالةٍ.
تكشف هذه الرّؤية كيف تواصل الشّركات تشغيل مواقع متدنيّة الأداء أو الاحتفاظ بمخزونٍ بطيء الحركة أو علاقاتٍ تجاريّةٍ محدودة الجدوى لمجرّد أنّ التّخلص منها يبدو معقّداً. على سبيل المثال، قد تدرك شركة توزيعٍ أنّ منافساً أصغر يمكنه العمل بكفاءةٍ أعلى مستخدماً جزءاً بسيطاً فقط من مستودعاتها ومورّديها وخطوط إنتاجها.
رابعاً: التكنولوجيا التي أصبحت عبئاً
غالبًا ما تبرّر الشّركات استمرار اعتمادها على البنية التّقنيّة القديمة بأنّها “ما زالت تعمل”، لكن التّمرين يكشف أنّ هذا الدّفاع في الحقيقة إقرارٌ بالعجز عن التّغيير. فحين تصمّم الفرق شركتها المنافسة، تدرك أنّ الوافدين الجدد سيستخدمون أحدث المنصّات السّحابيّة والأنظمة المتكاملة الّتي توفّر أداءً أفضل بتكلفةٍ أقلّ.
وهنا تضطرّ الفرق للاعتراف بأنّ تمسّكها بالبنى القديمة ليس خياراً استراتيجيّاً بقدر ما هو تبريرٌ للرّاحة؛ فيكتشفون أن الهوّة بين توقّعات العملاء وقدرات البنية التّحتيّة الموروثة تتّسع بشكلٍ لا يمكن تجاهله. مثلاً، قد تدرك شركةٌ لوجستيّةٌ أنّ نظامها الّذي يبلغ عمره اثني عشر عاماً لا يمكنه توفير التّتبع اللّحظيّ أو التّكامل مع شركاء الشّحن كما تفعل الأنظمة الحديثة.
خامساً: أنماط التّفكير التي تعيق التّغيير
تكتشف الفرق أنّ كثيراً من الممارسات مستمرّة لأنّها مألوفةٌ، لا لأنّها فعّالةٌ. فعندما تُمنح الحريّة لتصميم المنافس، تتضّح الصّورة: المنافس الجديد سيجرّب أنماط تسعيرٍ مختلفةً، أو عقوداً مرنةً، أو طرقاً جديدةً لتقديم الخدمة تفضّلها السّوق.
هذا يكشف أنّ بعض الشّركات تفضّل الحفاظ على الاستقرار التّشغيليّ على حساب تلبية احتياجات العملاء الحقيقيّة؛ فشركة خدمات ماليّة مثلاً قد تكتشف أن عملاءها يفضّلون عقوداً قصيرة الأمد ولوحات بياناتٍ فوريّةً بدلاً من التزاماتٍ سنويّةٍ وتقارير فصليّةٍ متأخّرةٍ.
سادساً: المرونة التّشغيليّة المفقودة
تُظهر التّمارين أنّ الإجراءات المصمّمة للانضباط والاتّساق قد سلبت الشّركات قدرتها على التّكيّف؛ فعند التّفكير كشركةٍ ناشئةٍ، تلاحظ الفرق أنّ منافساً جديداً يمكنه التّحرّك بسرعةٍ لأنّه غير مثقلٍ بالعمليّات البيروقراطيّة المتوارثة. وهكذا يتضّح الفرق بين العمليّة كأداة تمكينٍ وبينها كعبءٍ إداريٍّ يبطّئ التّفاعل مع احتياجات السّوق؛ فوكالة تطوير برمجيات مثلاً قد تدرك أن منهجيّتها الصّارمة، رغم تنظيمها العاليّ، تجعلها أقلّ قدرةً على الاستجابة من منافسٍ يستخدم أساليب أكثر مرونةً وتجريبيّةً.
لكن القيمة الكبرى لهذا التّمرين لا تكمن في اكتشاف نقاط الضّعف فحسب، بل في القدرة على معالجتها. فالفهم الحقيقيّ يأتي من إدراك كيف تحدّ الافتراضات والعلاقات والاستثمارات من التّفكير الاستراتيجيّ. وعندما تبدأ في التّفكير كشركةٍ ناشئةٍ لا تخشى الخسارة، ستبدأ برؤية الفرص الّتي تجاهلتها والقيود الّتي ظننتها حتميّةً.
الفرق الأكثر استفادةً من هذا النّهج هي الّتي تُحوّل الاكتشافات إلى خطواتٍ عمليّةٍ؛ فهي تطلق برامج تجريبيّةً، وتعيد تقييم شرائح العملاء، وتسرّع تحديث التّقنيات، وتبسّط الهياكل التّشغيليّة؛ فالمنافس الحقيقيّ ليس الشّركة التي لم تسمع عنها بعد، بل نقاطك العمياء، وافتراضاتك التي لم تختبرها، والقيود الّتي قبلت بها كحقائق نهائيّةٍ.
وتبقى الأسئلة الكبرى التي يجب أن يطرحها القادة على أنفسهم:
- ما فئات العملاء التي تجاهلناها لأن نموذج أعمالنا لا يخدمها؟
- أي من عمليّاتنا يخدم ماضي الشّركة أكثر من حاضر السّوق؟
- ولو بدأنا هذا العمل من جديدٍ، فبمَ كنّا سنفعل الأمور على نحوٍ مختلفٍ تماماً؟
العبرة الأهمّ هي أنّ التّهديد الأكبر لا يأتي من المنافسين، بل من داخل الشركة نفسها -من نقاط العمى الّتي لا تُرى؛ فمعظم فرق القيادة تظنّ أنّها تدرك مكامن ضعفها، لكنّها لم تجرّب أبداً التّفكير في كيفيّة مهاجمة منافسٍ ذكيٍّ لأعمالها. ويجبر تمرين “الانقضاض” الفرق التّنفيذيّة على أن تصبح هي نفسها المزعزِعة لنظامها، لتكشف ما لم تلمسه الخطط التّقليديّة.
تكمن أهميّة هذا الطّرح في أنّه يأتي في زمنٍ تسارعت فيه “معضلة المبتكر”؛ فالشّركات الرّاسخة تتعرّض اليوم للتّقويض بسرعةٍ غير مسبوقةٍ لأنّها متشبّثةٌ باستثماراتها وأساليبها القديمة. أمّا الشّركات الّتي تتحدّى فرضيّاتها دوريّاً وتعيد اختبارها من خلال محاكاة التّهديدات التّنافسيّة، فهي وحدها الّتي تحافظ على تقدّمها بينما تُفاجأ الأخرى بمنافسين أكثر خفةً وجرأةً.
ومن هنا يظهر الإطار المفاهيميّ الّذي يمكن اعتماده: “التقييم الاستراتيجي للهشاشة” -وهو نهجٌ منظّمٌ لاستكشاف النّقاط العمياء في التّنافس عبر: تحديد شرائح العملاء المهملة، وإعادة تعريف المشكلات لتقليص الفجوة بين ما تقدّمه الشّركات وما يحتاجه العملاء، وتحليل مخاطر استقطاب المواهب الحيويّة، وتقييم الفجوات التّكنولوجيّة، ومراجعة تخصيص الموارد، وأخيراً تبنّي تفكير الشّركات النّاشئة لكسر الجمود التّنظيميّ.
أمّا النّتيجة العمليّة، فهي أنّ هذا النّهج يمكّن القادة من رؤية شركاتهم كما يراها المنافس؛ فيتعرفون على مواطن الضّعف والفرص الخفيّة، ويحوّلونها من ثغرات دفاعيّة إلى مزايا تنافسيّةٍ عبر قراراتٍ استراتيجيّةٍ واعيةٍ ومبنيّةٍ على فهمٍ أعمق لذواتهم قبل سوقهم.
رأي خبير بقلم بروس إيكفيلدت، الرّئيس التّنفيذيّ في قائمة Inc. 5000 ومدرّبٍ استراتيجيٍّ للأعمال، نُشر لأوّل مرّةٍ على موقع Inc.com.