الفرق بين القيادة الأفقية والقيادة الهرمية، من الأفضل للمستقبل؟
حين تتغيّر مفاهيم القيادة من الهرميّة الصاّرمة إلى الأفقيّة التّشاركيّة تبدأ المؤسّسات رحلةً جديدةً نحو تمكين الأفراد وتعزيز الإبداع الجماعيّ في بيئات العمل الحديثة

يشهد عالم الإدارة في السّنوات الأخيرة تحوّلاً عميقاً في مفهوم القيادة، إذ لم تعد النّماذج التّقليديّة الّتي تقوم على التّراتبيّة الصّارمة قادرةً على مواكبة إيقاع بيئات العمل الحديثة ومتطلّباتها المتغيّرة. فمع تسارع التّحوّل الرّقميّ وتزايد الحاجة إلى التّعاون والابتكار، بدأ المفكّرون والخبراء في الإدارة يعيدون النّظر في جدوى النّموذج الهرميّ الّذي يركّز السّلطة في القمّة، في مقابل القيادة الأفقيّة الّتي توزّع القرار بين الأفراد وتعتمد على التّفاعل والمشاركة. ومن هنا، يبرز السّؤال الّذي يشغل المؤسّسات والمختصّين: ما الفرق بين القيادة الأفقيّة والقيادة الهرميّة، وأيّهما الأقدر على تلبية احتياجات المستقبل في عصرٍ يتّسم بالتّغيير السّريع والتّعقيد المتزايد؟
ما هي القيادة الهرمية وكيف تعمل؟
تقوم القيادة الهرميّة على هيكلٍ إداريٍّ صارمٍ تتوزّع فيه المهامّ والمسؤوليّات على مستوياتٍ واضحةٍ تبدأ من القمّة العليا وتنتهي بالقاعدة التّنفيذيّة. تتّخذ الإدارة العليا القرارات وتوجّهها نحو الأسفل، بينما ترفع التّقارير والملاحظات من القاعدة إلى القمّة، ممّا يجعل التّواصل يسير في خطٍّ رأسيٍّ محدّدٍ. ويعدّ هٰذا النّموذج أحد أقدم أشكال التّنظيم الإداريّ في التّاريخ، إذ استخدمته الجيوش والمؤسّسات الحكوميّة لضمان الانضباط وتحقيق السّيطرة والتّنظيم.
ويتميّز هٰذا الأسلوب بالوضوح في توزيع الصّلاحيّات وتحديد المسؤوليّات بدقّةٍ، ممّا يقلّل من الفوضى ويحافظ على النّظام الدّاخليّ. ومع ذٰلك، فإنّ هٰذه الصّرامة التّنظيميّة قد تتحوّل إلى عبءٍ في عالمٍ تتسارع فيه التّغييرات. فبطء اتّخاذ القرار نتيجة التّسلسل الطّويل، وضعف التّواصل بين الطّبقات الإداريّة، يؤدّيان غالباً إلى تأخّر الاستجابة للأزمات. كما أنّ تركيز السّلطة في المستويات العليا يقلّل من استقلاليّة الموظّفين ويضعف روح المبادرة لديهم، ممّا يحدّ من الإبداع ويجعل بيئة العمل أقلّ مرونةً. [1]
ما هي القيادة الأفقية وما خصائصها؟
في الجهة المقابلة، تبنى القيادة الأفقيّة على مبدإ المشاركة وتقاسم السّلطة، إذ تمنح الفرق والأفراد صلاحيّاتٍ أوسع لاتّخاذ القرارات وتنفيذ المهامّ دون انتظار التّعليمات من الأعلى. ويشجّع الموظّفون في هٰذا النّموذج على التّفكير الجماعيّ والمبادرة، فالقائد لا يصدر الأوامر بقدر ما ييسّر الحوار ويحفّز التّعاون بين الأعضاء.
تعتمد القيادة الأفقيّة على الثّقة المتبادلة والشّفافيّة في التّواصل، وتتعامل مع الفريق كوحدةٍ متكاملةٍ تسعى لتحقيق أهدافٍ مشتركةٍ، لا كمجموعةٍ منفصلةٍ من الأفراد. ولذٰلك، يصبح دور القائد في هٰذا النّمط أشبه بالموجّه الّذي ينسّق بين الجهود ويوحّد الرّؤية، لا بالمدير الّذي يتحكّم في كلّ التّفاصيل. وتظهر التّجارب الحديثة في الشّركات التّقنيّة والرّياديّة أنّ هٰذا النّموذج يزيد سرعة اتّخاذ القرار، ويعزّز القدرة على التّكيّف مع المتغيّرات، وينمّي الإبداع داخل الفرق. [2]
الفرق بين القيادة الأفقية والقيادة الهرمية.. من الأفضل للمستقبل؟
يعكس الفرق بين القيادة الأفقيّة والقيادة الهرميّة اختلافاً جوهريّاً في فلسفة إدارة المؤسّسات، لا في شكلها التّنظيميّ فقط. ففي القيادة الهرميّة، تحكم العلاقات الإداريّة من الأعلى إلى الأسفل، ممّا يجعل السّلطة مركزيّةً والتّوجيهات أحاديّة الاتّجاه. بينما في القيادة الأفقيّة، تفتح قنوات الاتّصال أفقيّاً بين الفرق، ويتحوّل اتّخاذ القرار إلى عمليّةٍ مشاركةٍ يستخدم فيها الجميع خبراتهم ويساهمون في توجيه المسار، ممّا يولّد شعوراً أكبر بالانتماء والمسؤوليّة الجماعيّة.
ولا يقتصر هٰذا التّباين على الهيكل الإداريّ فحسب، بل يمتدّ إلى الثّقافة التّنظيميّة. ففي حين تفرض القيادة الهرميّة انضباطاً واضحاً وتضمن تسلسل الأوامر بدقّةٍ، فإنّها تقيّد سرعة الاستجابة وتكبح الابتكار بسبب البيروقراطيّة المعقّدة. أمّا القيادة الأفقيّة، فتعتمد على المرونة وتمكين الأفراد، ممّا يجعلها أكثر قدرةً على التّعامل مع بيئات العمل السّريعة التّغيّر. ومع ذٰلك، فإنّ القيادة الأفقيّة تحتاج إلى درجةٍ عاليةٍ من النّضج المؤسّسيّ والثّقافة التّشاركيّة، لأنّ غياب التّنسيق أو غموض الأدوار قد يؤدّي إلى فوضى تنظيميّةٍ تقلّل من فعّاليّتها.
ومن هنا، لا يمكن اعتبار أحد النّموذجين الأفضل بشكلٍ مطلقٍ، لأنّ الاختيار يتوقّف على طبيعة المؤسّسة واحتياجاتها؛ فالمؤسّسات الحكوميّة والعسكريّة والمصرفيّة، على سبيل المثال، تحتاج إلى التّراتبيّة والانضباط الواضح، بينما تزدهر المؤسّسات الرّياديّة والابتكاريّة تحت نظام القيادة الأفقيّة الّذي يحفّز حرّيّة القرار وسرعة الابتكار. [1]
أي النموذجين أصلح لمستقبل الإدارة؟
يتّجه الاتّجاه العالميّ اليوم نحو مزيجٍ ذكيٍّ يجمع بين مزايا النّموذجين. فالمستقبل لا يقبل الجمود الهرميّ، ولا يحتمل الفوضى النّاتجة عن الأفقيّة المطلقة، بل يتطلّب نموذجاً هجيناً يمزج بين صرامة النّظام ومرونة التّعاون؛ فحين توضع الأسس التّنظيميّة الهرميّة لضبط العمل وتحديد المسؤوليّات، وتضاف إليها روح القيادة الأفقيّة الّتي تشجّع الحوار وتوزّع القرار، يتحقّق التّوازن المثاليّ بين الكفاءة والابتكار.
وفي ظلّ التّحوّل الرّقميّ والاعتماد المتزايد على الذّكاء الاصطناعيّ والعمل المرن، تحتاج المؤسّسات إلى نمطٍ قياديٍّ يواكب هٰذه التّحوّلات؛ فالعالم يتّجه نحو فرقٍ ذاتيّة التّنظيم تعتمد على المشاركة الفوريّة والتّواصل المستمرّ، وهو ما يجعل القيادة الأفقيّة أكثر ملاءمةً، خصوصاً في البيئات الّتي تتغيّر بسرعةٍ وتحتاج إلى قراراتٍ آنيّةٍ.
الخاتمة
يتّضح من المقارنة أنّ الفرق بين القيادة الأفقيّة والقيادة الهرميّة يتجاوز الهياكل الإداريّة ليصل إلى جوهر فلسفة القيادة ذاتها؛ ففي حين تركّز القيادة الهرميّة على السّلطة والانضباط وتفضّل النّظام الثّابت، تركّز القيادة الأفقيّة على المشاركة والثّقة والإبداع الجماعيّ، وتمنح الأفراد دوراً فاعلاً في صياغة القرارات.
شاهد أيضاً: كيف تدير تنوع أساليب القيادة في فريقك؟
-
الأسئلة الشائعة
- هل يمكن تطبيق القيادة الأفقية في المؤسسات الحكومية؟ يمكن تطبيق القيادة الأفقية في المؤسّسات الحكوميّة بشرط تعديل الثّقافة التّنظيميّة وتدريب الكوادر على المشاركة في صنع القرار، إلّا أنّ التّطبيق الكامل يظلّ محدوداً بسبب طبيعة العمل الإداريّ الذي يتطلّب تسلسلاً واضحاً وصلاحيّاتٍ محدّدةً.
- كيف تؤثر التكنولوجيا في تعزيز القيادة الأفقية؟ تسهم التّكنولوجيا في تمكين القيادة الأفقية عبر تحسين التّواصل بين الفرق وتسهيل اتّخاذ القرار المشترك. كما توفّر أدوات التّعاون الرّقميّ مثل الاجتماعات الافتراضيّة والمنصّات السّحابية بيئةً تشاركيّةً تتيح للأفراد المساهمة الفوريّة في الحلول والمشاريع دون الحاجة إلى تسلسلٍ إداريٍّ طويلٍ.