من عمان إلى العالم: كيف صنع حسام شفيق قصة نجاح عالمية؟
برؤيةٍ عربيّةٍ طموحةٍ تجمع بين الابتكار والطّموح، تحوّلت فكرةً محليّةً إلى قصّة نجاحٍ عالميّةٍ، لتؤكّد أنّ الإبداع من منطقتنا قادرٌ على الوصول إلى أبعد الأسواق
تجسّد شركة "سيليكون بادية" (Silicon Badia) -العاملة في مجال رأس المال المغامر- رؤيةً عالميّةً انطلقت منذ عام 2012 حين أسّسها فواز زعبي ونامق زعبي وإميل قبيسي. وقد لخّص الشّريك الرّئيسي حسام شفيق هذه الرّسالة في حديثه إلى مجلّة "عربيةInc. " بالقول: "أن نصل الشّرق بالغرب".
انبنى هذا التّوجّه على يقينٍ راسخٍ بأنّ الحلول المحليّة قادرةٌ على تخطّي الحدود والتّمدّد عالميّاً، وأنّ السّبيل إلى إثبات ذلك لا يكون بالخطاب بل بالفعل. لذلك، خطت الشّركة خطوةً غير مسبوقةٍ، إذ غدت أوّل شركةٍ عربيّةٍ في مجالها تؤسّس حضوراً دائماً في الولايات المتّحدة، لتصنع جسراً فعليّاً بين ضفّتين.
واليوم، وقد ترسّخ اسمها كعلامةٍ دوليّةٍ عُرفت بقدرتها على تحقيق عوائد مضاعفةٍ من رأس المال المستثمر، تقف "سيليكون بادية" شاهداً على صدق رؤية مؤسّسيها: أنّ القيمة العالميّة يمكن أن تنبثق من قناعةٍ محليّةٍ متجذّرةٍ.
يضيف حسام: "لسنا مختلفين عن مؤسّسي الشّركات النّاشئة الّذين نساندهم. نؤمن، مثلهم، بأنّ الرّؤية الواضحة والعزيمة الصّلبة تمكّنان من بناء كيانٍ عالميّ المستوى انطلاقاً من هذه المنطقة بالذّات؛ فبعض أبرز المنتجات التّقنيّة في العالم اليوم ابتكرها مؤسّسون من المنطقة -مثل: "ريبليت" (Replit)، و"كلاي" (Clay)، و"إنستاديب" (InstaDeep). فيما تعتمد منتجاتٌ أخرى على فرقٍ هندسيّةٍ في المنطقة، مثل "إنكورتا" (Incorta) ، و"إنستابَغ" (Instabug)، و"إكسبنسيا" (Expensya) و"يوزر بايلوت" (Userpilot).
انطلاقاً من هذا الرّؤية، يوضّح حسام أنّ "سيليكون بادية" تكرّس جهودها لدعم الشّركات النّاشئة الّتي تعتمد نماذج أعمال البرمجيّات كخدمة (SaaS)، لما تمتلكه هذه النّماذج من قدرةٍ فطريّةٍ على التّوسّع خارج الحدود. ويضيف: "لقد رافقنا مؤسّسين جريئين بدأوا مسيرتهم من القاهرة، وعمان، والدار البيضاء، وتونس، وها هم اليوم يخدمون أسواقاً واسعةً تشمل الولايات المتّحدة وأوروبا".
ويتابع: "نحن نؤمن بأنّ هذا هو المحرّك الحقيقيّ للنّجاح؛ فهو يولّد أثراً محليّاً ملموساً -من وظائف ومواهب وخبرات- وفي الوقت ذاته يعالج أحد أكبر تحدّيات منطقتنا: السّيولة وفرص الخروج الاستثماريّ. فحين تتوسّع الشّركات عالميّاً، فإنّها تتصّل بأسواق رأس المال العميقة وتستفيد من رغبة الاستحواذ، لتكتمل بذلك دورة الاستثمار بنجاحٍ".
ويُشكّل هذا المبدأ أيضاً جوهر طريقة عمل "سيليكون بادية"؛ فيقول حسام: "مع وجود فرقٍ على ضفّتي العالم، نقدّم ميّزةً نادرةً: العمق المحليّ مترافقاً مع الانتشار العالميّ. ومن هذا المنطلق، في صميم نهجنا، ندعم الطّموحات العالميّة المنبثقة من الأسواق المحليّة؛ لأنّنا عشناها، ونعلم أنّها تنجح، ونعرف كيف نجعلها تنجح".
وبما أنّه يعمل في شركةٍ تمتدّ جذورها بين الشّرق والغرب، يحمل حسام شفيق منظوراً فريداً حول مراحل التّمويل في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فيقول: "تعريفنا لمراحل التّمويل -وخصوصاً المرحلة الأولى- في حالة تطوّرٍ دائمٍ، والسّياق هنا لا يقلّ أهميّةً عن الرّقم نفسه". ويتابع: «في وادي السيليكون، غالبًا ما تستخدم "واي كومبيناتور" (Y Combinator) معيار مليون دولارٍ أمريكيٍّ في الإيرادات السّنويّة المتكرّرة (ARR) كمرجعيّةٍ للمرحلة الأولى، وهذا منطقيٌّ تماماً في أنظمةٍ بيئيّةٍ ناضجةٍ يكون فيها المنتج والفريق واستراتيجيّة الوصول إلى السّوق والعمليّات قد اكتملت بالفعل. أمّا في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلا يُقاس النّضج بمجرّد بلوغ رقم الإيرادات، بل بالأساسيّات التّي تُهيّئ الشّركة للنّموّ: فريقٌ قويٌّ يتجاوز المؤسّسين، منتجٌ تمّ التّحقّق من صحّته، تحديدٌ واضحٌ للعميل المثاليّ، آليّة مبيعاتٍ قابلةٌ للتّكرار، وكفاءةٌ أوليّةٌ في استراتيجيّة الدّخول إلى السّوق واستعداد السّوق".
ويضيف: "في سيليكون بادية، نرى المرحلة الأولى على أنّها مرحلة الجاهزيّة، لا مجرّد مؤشّرٍ على التّقدّم؛ إنّها اللّحظة الّتي تمتلك فيها الشّركة الأنظمة والمواهب والرّؤية الكافية للنّموّ بشكلٍ متوقعٍّ وفعّالٍ، حتّى لو لم تصل بعد إلى مليون دولارٍ أمريكيٍّ في الإيرادات السّنويّة المتكرّرة"
ويشير حسام إلى أنّه بما أنّ "سيليكون بادية" تتبنّى استراتيجيّةً استثماريّةً قائمةً على نماذج البرمجيّات كخدمةٍ، فإنّ تقييم مستوى نضج الشّركة لا يقتصر على أرقام الإيرادات فحسب، بل يركّز على قوّة الهامش الإجماليّ. ويشرح: "الشّركات الّتي تحقّق هوامش تزيد عن 80% يمكن أن تُظهر مؤشّرات نموٍّ حقيقيّةً عند بلوغ مليون دولارٍ في الإيرادات السّنويّة المتكرّرة (ARR) .أمّا النّماذج ذات الهوامش الأقلّ، مثل 20%، فستحتاج إلى 4 ملايين دولارٍ لتحقيق نفس مستوى النّضج. نحن نبدأ التّحليل من الهامش، لا من مجرّد الرّقم الإجماليّ للإيرادات".
كما يضيف: "لهذا، نحن نُعيد النّظر في الفكرة القائلة بأنّ جمع 10 ملايين دولارٍ يعني تلقائيّاً أنّ الشّركة وصلت إلى المرحلة الأولى. فإذا كانت الشّركة لا تزال عند 100 ألف دولارٍ من الإيرادات، دون وضوحٍٍ في استراتيجيّة الوصول إلى السّوق أو عمق الفريق، فهي ليست في المرحلة الأولى، بل هي شركةٌ مموّلةٌ بشكلٍ جيّدٍ فقط".
وتكتسب هذه المعايير أهميّةً خاصّةً مع الشّركات النّاشئة الّتي ترافق موجة الذّكاء الاصطناعيّ الرّاهنة؛ فيقول: "مع هذا الزّخم، نرى شركاتٍ تصل إلى مليون دولارٍ في الإيرادات السّنويّة المتكرّرة بشكلٍ أسرع، لكن غالباً قبل أن تصبح الشّركة كلّها جاهزةٌ للتّوسّع. وهذا يدعم اعتقادنا بأنّ مراحل التّمويل يجب إعادة تعريفها على أساس القدرة الفعليّة للشّركة، لا على رأس المال أو الإيرادات فقط. باختصارٍ، تصبح الشّركة في المرحلة الأولى حين تكون جاهزةً للتّوسّع، لا حين تجمع التّمويل أو تصل إلى رقمٍ معيّنٍ من الإيرادات".
حين نتحدّث عن المدى البعيد للشّركات النّاشئة في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، يوضّح شفيق أنّ الطّرح العام الأوّليّ (IPO) غالباً ما يُعَدّ الهدف النّهائيّ الطّبيعيّ في البيئات الاستثماريّة النّاضجة، لكن الأمر في المنطقة لا يسير بالمنطق نفسه، ولأسبابٍ وجيهةٍ؛ فهو يشير أوّلاً إلى أنّ المنطقة ليست سوقاً واحدةً متجانسةً، بل فسيفساء من البيئات المتباينة. ففي الدّول خارج مجلس التّعاون الخليجيّ، تصطدم الشّركات بقيودٍ على حركة رأس المال، وشحٍٍّ في السّيولة الدّولاريّة، وأسواقٍ ماليّةٍ عامّةٍ لم تبلغ بعد درجة النضج الكفيلة باستيعاب الشّركات التّقنيّة أو تقدير قيمتها الحقيقيّة.
ويضرب مثالاً واضحاً: "إذا قارنت مضاعفات التّقييم لشركات التكنولوجيا الماليّة أو اللّوجستيّة في القاهرة أو عمّان بتلك المتاحة في ناسداك أو حتّى في دبي، ستلمس فجوةً شاسعةً في المعايير والأرقام. وهنا يلفت شفيق إلى أنّ بعض البورصات الإقليميّة، وعلى رأسها "تداول" في السّعوديّة، بدأت تُظهر بوادر التّحوّل إلى منصّاتٍ إقليميّةٍ لإدراج الشّركات التّقنية. غير أنّ هذا الوعد، على أهميّته، لم يترجم بعد إلى واقعٍ ملموسٍ بالنّسبة للشّركات النّاشئة المدعومة برأس المال المغامر في المنطقة".
كما يشير حسام إلى أنّ هذه الحواجز البنيويّة تتفاقم بفعل الطّريقة الّتي تجري بها عمليّات الخروج في المنطقة. ويشرح: "لا تصل الكثير من الشّركات النّاشئة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الأسواق العامّة، ليس لأنّها ليست شركاتٍ قويّةً، بل لأنّها تصبح أكثر جاذبيّة للمستثمرين الاستراتيجيّين أو لصناديق الأسهم الخاصّة الإقليميّة قبل أن يكون الطّرح العامّ الأوّليّ مطروحًا على الطّاولة".
ويضيف: "يتراوح النّطاق الأمثل لعمليّات الخروج -عادةً- بين 50 و300 مليون دولارٍ، حيث يكون النّشاط الاستراتيجيّ الإقليميّ في ذروته، وتكون التّقييمات معقولةً ومتناسبةً".
ويُبرز حسام عاملاً آخر يؤثّر على طبيعة عمليّات الخروج في المنطقة، ألا وهو: التّوافق مع العملة. فيقول: "من الضّروريّ أن نتذكّر أنّ دخولنا كشركات رأس مالٍ مغامرٍ يتمّ بالدّولار الأمريكيّ، وكذلك خروجنا المتوقّع. وطالما أنّ الأسواق العامّة الإقليميّة لا تضمن عوائد مرتبطةً بالدّولار، ولا تجذب المستثمرين المؤسّساتيين العالميّين بحجمٍ كافٍ، فلن تكون الطّروحات العامّة المسار الأساسيّ للتّخارج. ومع ذلك، فإنّ الزّخم يتزايد بوضوحٍ؛ فمع تحسين الأطر التّنظيميّة، ورفع وعي المستثمرين، وتعزيز التّكامل الإقليمي، قد يكون عصر الطّروحات العامّة أقرب ممّا نظنّ، لكنّه ببساطةٍ لم يبدأ بعد".
شاهد أيضاً: Khazna تحصل على تمويل بقيمة 16 مليون دولار
أخطاء جمع التّمويل
يتحدّث حسام شفيق عن الأمور الّتي يجب تجنّبها عند البحث عن رأس المال؛ فيقول: "غالباً ما يقع المؤسّسون في فخّ الأخطاء المألوفة: جمع تمويلٍ مبالغٍ فيه في مرحلةٍ مبكرةٍ، وتحديد تقييماتٍ غير واقعيّةٍ، والإسراف في الرّواتب، أو بذل جهدٍ مفرطٍ لإرضاء المستثمرين. هذه الأخطاء شائعةٌ وموثّقةٌ، ومع ذلك تستمرّ في الحدوث مراراً. ولكن هناك أخطاءٌ أخرى، أقلّ تقليديّة، لكنّها لا تقلّ أهميّةً في أثرها على مسار الشّركة ونموّها.
الانبهار بالتقنية
يقع كثيرٌ من المؤسّسين في فخّ الانبهار بالتّقنية، لكن الحقيقة أنّ المستثمرين والعملاء على حدّ سواء لا يشترون التّقنية وحدها. في عالم رأس المال المغامر، الشّغف أمرٌ ضروريٌّ، لكن يجب أن يكون موجّهاً إلى قلب الأعمال، لا المنتج فقط، ممّا يعني التّركيز على فهم السّوق، وضبط استراتيجيّة الوصول إلى العملاء، وتحقيق هوامش ربحٍ مستدامةٍ، وبناء فريقٍ قويٍّ قادرٍ على التّنفيذ. إذن، التّقنية المتميّزة وحدها لا تكفي؛ فطالما لم تتحوّل إلى نموٍّ حقيقيٍّ، أو قدرةٍ تنافسيّةٍ تحمي الشّركة، أو قيمةٍ ملموسةٍ للأعمال، فلن تكون جديرةً بالتّمويل.
الاعتقاد بأن السوق سيتكيّف مع منتجك
لن يحدث ذلك أبداً؛ فالسوق لا يُجبر على الانصياع لإرادتك، بل العكس: عليك أن تُكيّف منتجك ليتلاءم مع واقع السّوق واحتياجاته. ومع مرور الوقت، سيأتي دور تكييف المنتج بما يتوافق مع قنوات المبيعات نفسها. ففيسبوك لن تعيد تصميم واجهة برمجة التّطبيقات (API) من أجلك، ولا " شوبيفاي" (Shopify) ستعيد ترتيب سير العمل لديها لتناسب شركتك النّاشئة. لذلك، يجب أن يتوافق منتجك مع الطّريقة التي يعمل بها العملاء، ويشترون، وينمّون أعمالهم بالفعل؛ فالتقنية وحدها لا تكفي إن لم تنسجم مع حركة السّوق وحياة العميل اليوميّ.
التمسّك بما لا يثمر
أحياناَ يعلق المؤسّسون بما اعتادوا عليه -ميّزة لم تعد مجدية، عميل لم يعد مناسباً، سوق لم يعد قابلاً للنّموّ، أو حتّى مستثمر لم يعد متناغماً مع الرّؤية. لكن طبيعة الشّركات النّاشئة تجعل الفشل أكثر احتمالاً من النّجاح؛ هذا هو جوهر عالم رأس المال المغامر. إذا لم تكن مستعدّاً للتّخلّي عمّا لا يعمل، فسوف تهدر الوقت ورأس المال وروح الفريق في محاولة فرض شيءٍ خاطئٍ على الواقع، بدل أن تركّز طاقاتك على ما يحقّق نموّاً حقيقيّاً وقيمةً مستدامةً.
باختصار: اجمع التّمويل واصرفه بحكمةٍ، وركّز كل اهتمامك على الأعمال نفسها. انسجم مع السّوق، وتخلّ سريعاً عمّا لا ينجح عندما يكون ذلك منطقيّاً. هذه هي الطّريقة للفوز في عالم رأس المال المغامر".