الرئيسية الأخبار كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

تستكشف الشّركات الصّغيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استراتيجيّاتٍ مبتكرةً وإقليميّةً للتّكيّف مع التّحوّلات العالميّة والحفاظ على استمراريتها في السّوق المتقلّب

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.

في أبريل من هذا العام، أقدّمت الولايات المتّحدة، تحت إدارة الرّئيس دونالد ترامب، على فرض رسومٍ جمركيّةٍ جديدةٍ شاملةٍ، شملت فرض تعرفةٍ بنسبة 10% كحدّ أدنى على معظم الواردات، ورفع الرّسوم حتّى 50% على واردات من دولٍ محدّدةٍ، ممّا أعاد تشكيل ديناميكيّات التّجارة العالميّة، ولم تكن الشّركات الصّغيرة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) بمنأىً عن هذه التّغيّيرات.

تواجه الشّركات النّاشئة والمؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة في المنطقة تحديّاتٍ معقّدةً ومتطوّرةً، من ارتفاع التّكاليف إلى تعطّل سلاسل الإمداد. في هذا السّياق، طلبت مجلة "عربية .Inc" من أصحاب المصلحة في منظومة الأعمال في المنطقة تقييم التّأثيرات المباشرة وغير المباشرة لهذه الرّسوم الجمركيّة الجديدة.

من خلال مقابلاتٍ مع الدكتور تامر السيد، المدير الماليّ لمعهد مبادرة الاستثمار المستقبليّ (FII) في الرياض، وخميس سليمان، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "كناتر" (Canater) في دبي، وفصيح الله، المؤسّس المشارك ومدير تقنية المعلومات في تطبيق "الكريمية" (Alkremeya App) في طرابلس، ورودريغ ناكوزي، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة "ترانس كورب العالميّة" (Transcorp International) الّتي تأسّست في دبي، تمّ جمع رؤىً حول كيفيّة تأثير هذه الرّسوم على تكاليف الإمداد، التّنافسيّة، والتّخطيط الاستراتيجيّ، مع تسليط الضّوء على دور المرونة والابتكار في مساعدة الشّركات الصّغيرة على تجاوز هذه الظّروف الغامضة.

تأثيرات متباينة

بدأ تطبيق الرّسوم الجمركيّة الأمريكيّة في 5 أبريل 2025، محمّلاً بتحديّاتٍ كبيرةٍ قد تواجه المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة في المنطقة. وفق تقرير "تأثير قرارات الرسوم الجمركية الأمريكية الأخيرة على الأعمال في الشرق الأوسط: ماذا تفعل الآن؟" الصّادر عن شركة "برايس وترهاوس كوبرز" (PwC)، تفرض دولٌ مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية رسوماً بنسبة 10%، في حين تواجه دولٌ أخرى مثل العراق (39%) وسوريا (41%) معدّلاتٍ أعلى بكثير.

يُعيد هذا التّصاعد في الحواجز التّجاريّة تشكيل المشهد الاقتصاديّ الإقليميّ، ممّا يدفع المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة إلى إعادة النّظر في استراتيجيّاتها وعمليّاتها، خصوصاً تلك الّتي تعتمد على الواردات والصّادرات مع السّوق الأمريكيّة. القطاعات مثل التصنيع والأجهزة التّقنية، التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على المكونات المستوردة، هي الأكثر تأثّراً؛ فالعبء الماليّ الإضافيّ قد يهدّد هوامش الرّبح ويضعف القدرة التّنافسيّة.

غير أنّ التّأثيرات تختلف من دولةٍ لأخرى؛ فدول مجلس التعاون الخليجي، الّتي تتمتّع بثرواتٍ سياديّةٍ ضخمةٍ واقتصاداتٍ متنوّعةٍ، قادرةٌ على امتصاص هذه الصّدمات بشكلٍ أفضل. إذ توفّر مراكز الاستثمار القويّة والتّخطيط الاقتصاديّ الاستراتيجيّ لها حمايةً من الاضطرابات الفوريّة. بالمقابل، قد تواجه دولٌ غير مجلس التعاون، ذات الاقتصادات الأقلّ تنوّعاً، تأثيراتٍ أشدّ تشمل احتمالات تراجع الصّادرات والنّموّ الاقتصاديّ.

تتفاوت التّأثيرات المباشرة للرسوم الأمريكية على الشركات الصغيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكلٍ ملحوظٍ حسب الموقع الجغرافيّ، والقطّاع، ونماذج التّوريد. أمّا الشّركات الّتي تعتمد على مورّدين عالميّين فتكون الآثار المتتابعة أكثر تعقيداً. إذ يقول الدكتور تامر السيد، المدير المالي في معهد مبادرة الاستثمار المستقبلي (FII)، وهو مركز أبحاثٍ اقتصاديٌّ واستثماريٌّ في الرياض، لمجلة "عربية .Inc": "الرّسوم الجمركيّة، خصوصاً تلك الّتي فرضتها الولايات المتّحدة على الصين، أو الرّسوم المتبادلة الّتي تشمل لاعبين أوروبيّين أو آسيويّين، لا تبقى محصورةً في قارةٍ واحدةٍ فقط". ويضيف: "إنّها تتغلّغل عبر الاقتصاد العالميّ".

كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

بحسب السّيد، هناك مخاوفٌ متزايدةٌ من أنّ التّأثيرات الأوسع لتحولات الرسوم الجمركية العالمية قد تضرب الشّركات المحليّة بقوّةٍ أكبر ممّا كان متوقّعاً في البداية. ويوضح قائلاً: "تعتمد الكثير من الشّركات على التّكنولوجيا المستوردة، والإلكترونيّات، والآلات، أو حتّى التعبئة والتغليف من دولٍ تأثّرت بالرّسوم الجمركيّة". كما أضاف: "تعجز الشّركات النّاشئة ذات الهوامش الرّبحيّة الضّئيلة عن امتصاص ارتفاعٍ بنسبة 15 إلى 25 بالمئة في تكاليف المكوّنات بسهولةٍ. وحتّى إن لم تُصَب المنطقة مباشرةً بالرّسوم الأمريكيّة، فإنّ الأثر التّضخّمي على سلاسل الإمداد العالميّة واقعٌ لا مفرّ منه، وتشعر به شركات المنطقة عبر ارتفاع الأسعار، وتأخّر التّسليمات، والضّغوط المتزايدة على رأس المال العامل".

يتّفق رودريغ ناكوزي، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة ترانس كورب العالميّة، المزوّد اللّوجستيّ المتخصّص في سلاسل التّبريد الذّكيّة الّذي يتّخذ من دبي مقرّاً له ويخدم التجارة الإلكترونية عبر الحدود وسوق التّجارة السّريعة المحليّة في دول مجلس التعاون الخليجي، مع هذا الرّأي، مشيراً إلى الضّغوط غير المباشرة الّتي تشعر بها منظومة الخدمات اللّوجستيّة. إذ يقول ناكوزي: "لا شكّ أنّ الرسوم الجمركية الأمريكية تضيف عنصراً من عدم اليقين وتكلفةً متزايدةً على سلاسل الإمداد العالميّة". ويضيف: "يعتمد الكثير من عملائنا على السّلع أو المواد الخامّ المستوردة من الولايات المتّحدة، وتؤدّي الرّسوم إلى ارتفاع أسعار المنتجات أو تأخير الشّحنات. بالنسبة لترانسكورب، رغم أنّنا لسنا مستوردين مباشرين، إلّا أنّنا نخدم عملاء تتأثّر سلاسل توريدهم، ممّا يعني أنّنا مضطرّون لتكييف حلولنا اللّوجستيّة للحفاظ على كفاءة التّكلفة وجودة الخدمة رغم هذه الضّغوط الخارجيّة".

القطاعات في الخطوط الأمامية

من وجهة نظر السيد، هناك قطّاعان يبدوان أكثر عرضةً لتأثيرات التّوترات التّجاريّة العالميّة. إذ يقول: "يشمل ذلك قطّاعي التّصنيع والتّجميع الخفيف، لا سيما في السعودية ومصر والأردن، الّتي تعتمد على الآلات والقطع أو المواد الخام المستوردة". ويضيف: "تجد هذه الشّركات صعوبةً في تمرير التّكاليف على العملاء. لذا، فإنّ تآكل الهوامش يكون قاسياً جدّاً". وهذا يشكّل مصدر قلقٍ بالغٍ بالنّسبة للشّركات الصّغيرة التي تفتقر إلى قوّة التّسعير الّتي تتمتّع بها الشّركات الكبرى، ممّا يضطرها لتحمّل الصّدمات داخليّاً. كما يشير إلى المخاطر المتزايدة على الشّركات النّاشئة في قطّاع التّكنولوجيا، خصوصاً تلك الّتي تركّز على الأجهزة مثل: إنترنت الأشياء (IoT) أو التّكنولوجيا النّظيفة (cleantech)، والّتي تعتمد على مكوّناتٍ مستوردةٍ مثل: الحسّاسات والرّقائق والبطاريّات". ويضيف السيد: "مع تصاعد التّوترات الأمريكيّة-الصّينيّة حول الرّقاقات، أصبح التّأخير وارتفاع التّكاليف يشكّلان مخاطر وجوديّةً".

يشير خميس سليمان، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة كناتر الإماراتيّة الّتي تقدّم حلولاً شاملةً لسلسلة القيمة لمصنّعي السّلع الاستهلاكيّة المعبّأة الّذين يتوسّعون عالميّاً، إلى التّأثير المتزايد للعقوبات والرّسوم الجمركيّة على العمليّات السّحابيّة. إذ يوضّح سليمان: "نعم، تؤثّر التّوترات التّجاريّة والعقوبات بشكلٍ متزايدٍ على البنية التّحتيّة السّحابيّة والاستضافة وأدوات البرمجيّات، مع تبعاتٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ على الأعمال حول العالم". ورغم أنّ خدمات السّحابة غالباً ما تُعتبر مرنةً، إلّا أنّه يحذّر من أنّ على الشّركات أن تكون واعيةً للتّأثيرات غير المباشرة للتّوترات التّجاريّة والعقوبات.

كما يبرز السيد التّحديات غير المباشرة المتزايدة. إذ قال موضّحاً: "أثرّت سياسات تصدير التكنولوجيا الأمريكيّة بالفعل على الوصول إلى الرّقائق المتطوّرة، وأدوات الذكاء الاصطناعي، وبعض خدمات السّحابة في مناطق معينة". ويضيف: "في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يُترجم هذا إلى تكاليف أعلى للاستضافة (إذا كانت الخوادم الأمريكيّة مقيّدةً)، وتأخيراتٍ في التّرخيص، وعدم استقرار المورّدين. كمثالٍ، بعد فرض العقوبات، شهدت عدّة شركاتٍ ناشئةٍ في المنطقة تستخدم مزوّدي برامج كخدمة (SaaS) عالميّين انقطاعاتٍ في الخدمة أو إلغاء أحادي الجانب للعقود بسبب التّعرّض القضائيّ".

بناء الاستمرارية الرقمية

يشير السيد إلى أنّ أحد الحلول هو: بناء فائضٍ رقميٍّ، أي بمعنى اعتماد استراتيجيّاتٍ متعدّدةٍ للسّحابة مثل: استخدام خدمات أمازون ويب (Amazon Web Services) إلى جانب مزوّدين إقليميّين مثل: STC Cloud. كما يُنصح باختيار مورّدين يمتلكون بياناتٍ مقيمةً في المنطقة، خاصّةً مع تزايد أهميّة السّيادة الرّقميّة. إذ يقول: "قد تبدو السّحابة بلا حدودٍ من النّاحية النّظريّة، ولكن في السّياسة الجغرافيّة، حتّى السّحابة تقع في مرمى النّيران".

تحويل الاضطراب إلى توجه

قد تزعج الرّسوم الجمركيّة وعدم اليقين التّجاريّ بعضاً، ولكن بالنّسبة لعددٍ متزايدٍ من روّاد الأعمال في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنّها تشكّل حافزاً للتّغيير الاستراتيجيّ. بدلاً من انتظار استقرار الأوضاع، يرى المؤسّسون الّذين يتمتّعون بنظرةٍ مستقبليّةٍ في الاضطراب فرصةً لإعادة التّفكير في كيفيّة ومكان ممارسة أعمالهم. إذ يقول السيد: "لا يكتفي أذكى المؤسّسين الّذين أعرفهم بردّ الفعل تجاه الرّسوم الجمركيّة، بل يعيدون تصميم أعمالهم حولها". ويضيف: "هذا يعني الانتقال من حالة الذّعر إلى التّخطيط".

يقترح السيد أن تركّز الشّركات هنا على توسيع قاعدة مورّديها داخل المنطقة بدلاً من الاعتماد فقط على الخيارات العالميّة. كما يرى ضرورة الابتعاد عن الاعتماد الحصريّ على الصين، والنّظر في بدائل مثل: تركيا والهند وأوروبا الشرقية. ويشير إلى أنّ "التّجارة غير النّفطيّة بين الإمارات وتركيا، على سبيل المثال، نمت بنسبة 40% بعد جائحة كوفيد-19، وهناك سببٌ لذلك".

إضافةً إلى ذلك، يوصي السيد باتّباع استراتيجيّاتٍ ماليّةٍ استباقيّةٍ، إذ يقول: "يجب التفاوض على تسعير معدّلٍ حسب سعر صرف العملات مع المورّدين لتجنّب التّعرّض المزدوج، ومخاطر الرّسوم الجمركيّة، وتقلّبات العملة". ولخفض تكاليف الشحن، يُنصح بالاستفادة من تجميع الشّحنات ومنصّات الشّحن الرّقميّة. وأخيراً، في ظلّ ارتفاع التّكاليف وتغير ديناميكيّات التّجارة، يرى السيد أنّ المرونة هي الأهمّ. إذ يؤكّد: "الأهم من كلّ شيءٍ، يجب على الشّركات النّاشئة أن تعامل استراتيجيّات سلسلة التّوريد كما تعامل المنتج: دائماً في حالة تطويرٍ وتحسينٍ مستمرٍّ.

كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

كما يُشير خميس سليمان إلى أنّ التّكامل التّكنولوجيّ لم يعد خياراً، بل ضرورة حتميّة في ظلّ تعقيدات المشهد التّجاريّ العالميّ، إذ يقول: "إنّ اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الابتكارات منخفضة التّكلفة، يُسهم بشكلٍ مباشرٍ في رفع الكفاءة التّشغيليّة، ويُعزّز من قدرة الشّركات على خفض التّكاليف دون المساس بجودة الأداء".

ولا يتوقف الأمر عند حدود التّكنولوجيا، بل يتجاوزه إلى أهميّة الأطر التّشريعيّة والتّجاريّة الدّاعمة، حيث يُبرز سليمان الدّور الحيويّ لاتفاقيات التّجارة الإقليميّة، مضيفاً: "الاتفاقيات المواتية داخل مجلس التعاون الخليجي، ومع دولٍ أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تُشكّل صمّام أمان فعّالاً، إذ تخفّف من وطأة الرّسوم الجمركيّة، وتُمهّد الطّريق لفتح الأسواق البينيّة وتوسيع نطاق التّبادل الإقليميّ".

وفي معرض تحليله لمزايا المنطقة، يُسلّط سليمان الضّوء على البُعد الجغرافيّ كعنصرٍ استراتيجيٍّ يُعزّز مرونة الاستجابة لهذه التّحوّلات، موضّحاً: "تقع دولٌ مثل السعودية والإمارات ومصر والمغرب على تقاطعاتٍ حيويّةٍ لممرّات التّجارة العالميّة، ما يُتيح لها الاستفادة القصوى من بنيتها التّحتيّة المتطورة وموقعها المحوريّ في مواجهة ارتفاع التّكاليف وتقلّبات ديناميكيّات التّجارة الدّوليّة".

في المقابل، يُشير رودريغ ناكوزي، الرّئيس التّنفيذيّ لشركة ترانس كورب العالميّة، إلى أنّ الشّركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدأت بالفعل تتكيّف مع التّداعيات النّاجمة عن الرّسوم الجديدة؛ فيقول: "تواجه الكثير من الشّركات الصّغيرة في قطّاع التّصنيع تحديّاتٍ كبيرةً بسبب ضغوط التّكلفة المرتبطة بالرّسوم الّتي تضغط على هوامش أرباحها". كما يضيف: "ردّ البعض كان برفع الأسعار، ممّا قد يؤثّر على تنافسيّتهم، بينما يعيد آخرون التّفكير في سلاسل التّوريد لديهم، باحثين عن مصادر بديلةٍ خارج الولايات المتّحدة أو مستكشفين المورّدين الإقليميّين. لقد لاحظنا تركيزاً متزايداً على تنويع سلسلة التّوريد وزيادة مخزون الأمان لإدارة حالات عدم اليقين".

ويؤكّد ناكوزي على تحوّل مماثلٍ في طريقة التّفكير بين مشغّلي الخدمات اللوجستية الّذين يتكيّفون مع الصّدمات غير المباشرة؛ فيقول: "رغم أنّ تعرّض ترانس كورب المباشر للرّسوم الأمريكيّة محدودٌ، إلّا أنّ الآثار المتتالية كبيرةٌ". ويشرح: "اضطرّ بعض مورّدينا وعملائنا إلى مراجعة استراتيجيّات التّوريد أو تحمّل زيادةٍ في التّكاليف، ممّا يمكن أن يؤثّر على أنماط الطّلب وجداول التّسليم. للتّكيّف، نضاعف جهودنا في تحسين تخطيط المسارات، وزيادة الكفاءة التّشغيليّة، والاستفادة من التّكنولوجيا لتقليل الهدر والتّأخير. علاوةً على ذلك، نستكشف شبكات مورّدين بديلةً ونعقد شراكاتٍ إقليميّةً جديدةً للتّخفيف من المخاطر المرتبطة بتعطيلات سلسلة التوريد النّاجمة عن الرّسوم".

ما وراء الملصق

قبل أن تُعيد التّوترات التّجاريّة والرّسوم الجمركيّة تشكيل الأسواق العالميّة مؤخّراً، كانت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تستثمر في مبادراتٍ لتعزيز التّصنيع المحليّ ودعم العلامات التجارية الوطنيّة. على سبيل المثال، يركّز برنامج "صُنع في الإمارات" (Made in UAE) على رفع جودة المنتجات الإماراتيّة من خلال شهادات الجودة ودعم التّصدير، بينما يهدف برنامج "صُنع في السعودية" (Made in KSA) إلى دفع التّنويع الاقتصاديّ في السعودية عبر تشجيع الإنتاج المحليّ والابتكار، إذ تسعى المبادرتان لتعزيز مرونة سلاسل التّوريد الإقليميّة وتقليل الاعتماد على الواردات.

يؤكّد فصيح الله، الشّريك المؤسّس ومدير تقنية المعلومات في تطبيق الكريمة، منصّة التجارة الإلكترونية بين الشّركات (B2B) في ليبيا المتخصّصة في سلاسل توريد البقالة، على أهميّة التّركيز على تقوية النّظم البيئيّة المحليّة، إذ يشارك قائلًا: "هذه المبادرات ذات قيمةٍ كبيرةٍ". ويضيف: "نعتقد أنّ تعزيز التّصنيع المحليّ في الإمارات والسعودية وأجزاء أخرى من المنطقة يمكن أن يساعد على تقليل الاعتماد على الواردات الدّوليّة وبناء سلاسل توريدٍ إقليميّةٍ أكثر مرونةً؛ إنّها فرصةٌ لكلٍّ من الشّركات النّاشئة والمستثمرين للتّركيز على الإنتاج والمصادر المحليّة".

ويُضيف السيد أنّ تسريع وتيرة التّوطين لا يتطلّب فقط نوايا طيّبةً، بل سياسات ذكيّة وقابلة للتّنفيذ، موضّحاً: "يمكن هيكلة برامج الشّراء العامّ لتفضيل المنتجات والخدمات المحليّة"، مؤكّداً في الوقت ذاته أنّ "الحكومات تلعب دوراً حاسماً في تحفيز الطّلب، وضمان توسّع الإنتاج الإقليميّ بما يعزّز الاكتفاء الذّاتيّ ويُنعش الاقتصاد المحليّ".

وفي السّياق ذاته، يُعزّز رودريغ ناكوزي هذا التّوجّه، معتبراً أنّ الدّفع نحو التّوطين يأتي في توقيته المثاليّ، ويمثّل نقطة تحوّلٍ استراتيجيّةً في مسار التّنمية الإقليميّة؛ فيقول: "يُقلّص تعزيز التّصنيع المحليّ عبر مبادراتٍ مثل: "صنع في الإمارات" و"صنع في السعودية"، الاعتماد على سلاسل التّوريد العالميّة، الّتي باتت أكثر عرضةً للتّقلّبات المرتبطة بالرسوم الجمركية والتّوترات الجيوسياسيّة".

كما يُضيف ناكوزي: "لا يحمي توطين الصّناعات الأعمال فقط من تقلّبات الرّسوم، بل يُسهم أيضاً في تحفيز النّموّ الاقتصاديّ ودفع عجلة الابتكار داخل المنطقة". ويختم بالإشارة إلى الأثر الإيجابيّ لهذا التّوجه على قطاّع الخدمات اللّوجستيّة، قائلاً: "بالنّسبة لمزوّدي الخدمات اللّوجستيّة مثل: ترانس كورب، يفتح هذا المسار آفاقاً جديدةً لتصميم سلاسل توريدٍ أكثر تبسيطاً، وأكثر تركيزاً على الإقليم، مع تقليص أوقات الانتظار وزيادة القدرة على التّكيّف"

ومع ذلك، يحذّر خميس سليمان من الاعتماد المفرط على بلد المنشأ، ويوصي بأن يركّز المؤسّسون على الجودة بدلاً من ذلك. ويشير إلى أنّ "العلامة التجارية التي تشير إلى بلد الصّنع قد تثير الفخر الوطنيّ وتوفّر ميّزةً تنافسيّةً في الأسواق المحليّة، لكنّها قد لا تكون بنفس القوّة على الصّعيد الدّوليّ، ويضيف: "في الأسواق العالميّة، غالباً ما يفضّل المستهلكون جودة المنتج والتّغليف ومدى توافقه مع قيمهم الشّخصيّة على بلد المنشأ".

كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

استراتيجيات الصمود

بحسب تامر السيد، يُمكن للشّركات الصّغيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعزيز قدرتها على مواجهة اضطرابات التّجارة العالميّة باتّباع نموذج عمل واضحٍ وقابلٍ للتّنفيذ؛ فيقول: "يجب على الشّركات النّاشئة والصّغيرة في المنطقة التّركيز على 4 استراتيجيّاتٍ رئيسيّةٍ: التّوطين والتّكامل العكسيّ، ودعم الحكومة من خلال الشّراء العامّ والحوافز، وبناء شبكات توريدٍ ولوجستيّاتٍ مرنةٍ ومتعدّدةٍ، واعتماد منصّات رقميّةٍ لسلاسل التّوريد تُتيح رؤيةً وتحكّماً في الوقت الفعليّ".

بالنّسبة لفصيح الله، تنعكس هذه الرّكائز بالفعل في الأوّلويّات التّشغيليّة لمؤسّسته؛ فيقول: "نحن نشطون في بناء قاعدة مورّدين متنوّعةٍ للحفاظ على عزلتنا عن الاضطرابات العالميّة". ويضيف: "يبقى تركيزنا على توسيع الأسواق وقابليّة التّوسع التّشغيليّ داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". كما يؤكّد خميس سليمان، على أهميّة المرونة في سلاسل التوريد، ويشير إلى أنّ "المصنعين يوسّعون شبكات مورّديهم خارج المصادر التّقليديّة". ويضيف: "يقلّل هذا النّهج الاعتماد على الدّول التي تفرض رسوماً جمركيّةً عاليةً ويعزّز صمود سلاسل التّوريد".

كما يصف سليمان الوضع الحاليّ من منظورٍ مزدوجٍ؛ فيقول: "بينما تمثّل الرسوم الجمركية الأمريكية فرصةً قصيرة الأجل لمصدري منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلّا أنّ النّجاح على المدى الطّويل يعتمد على فهمٍ عميقٍ لاحتياجات المستهلك المحليّ وتجاوز تعقيدات شبكات التّوزيع، وليس مجرّد مكاسب مؤقّتةٍ". ويركّز على المرونة، مشيراً إلى أنّ التّكنولوجيا تلعب دوراً رئيسيّاً في تعزيز الصّمود. إذ يقول: "تقدّم الأنظمة السّحابيّة قابليّة التّوسّع، وتكلفةً فعّالةً، ورؤىً فوريّةً، وهي ضروريّةٌ في منطقةٍ تتغيّر فيها ظروف السّوق واللّوائح بسرعةٍ". ويتفّق ناكوزي مع هذا الرّأي، مضيفاً أنّ "الوصول إلى تمويلٍ ميسورٍ وتكنولوجيا لوجستيّةٍ متقدّمةٍ يظلّ أمراً حاسماً لمساعدة هذه الشّركات على التّعامل مع تقلّبات التّكاليف بفعاليّةٍ".

علاوةً على ذلك، يشير كلّ من السيد وسليمان إلى أنّ الرّقمنة أصبحت ضرورةً لا غنى عنها في بيئة التّجارة المعقّدة المتزايدة، مؤكّدين الدّور التّحويليّ لمنصّات الحوسبة السّحابيّة والبيانات الفوريّة الّتي تمكّن من اتّخاذ قراراتٍ أسرع وتعزّز القدرة التّشغيليّة على الصّمود، إذ يقول السيد: "تُتيح التّكنولوجيا المرونة". ويضيف: "توفّر منصات سلسلة التوريد القائمة على السّحابة رؤيةً في الوقت الفعليّ، ممّا يسمح للشّركات بالتّكيّف بسرعةٍ واتّخاذ قراراتٍ مستنيرةٍ".

ومع ذلك، يتّفق كلٌّ من سليمان، وناكوزي، والسيد على نقطةٍ محوريّةٍ في نهاية المطاف: نماذج الأعمال التي لا تعتمد على الواردات أو البنى التّحتيّة المادية هي الأقدر على الازدهار في بيئةٍ تجاريّةٍ يهيمن عليها تصاعد الرسوم الجمركية. إذ يقول السيد: "تتفوّق نماذج الأعمال الّتي تركّز على الأصول الخفيفة والخدمات أوّلاً في عالمٍ تتزايد فيه القيود التّجاريّة"، مضيفاً: "تُعدّ منصات البرمجيّات كخدمة (SaaS)، والتّقنيات الماليّة، والخدمات اللّوجستيّة أقلّ عرضةً لمخاطر الحاويات والشّحن".

وانطلاقاً من هذه الرّؤية، يُضيء السيد على نماذج أعمال مرنةٍ أخرى أثبتت قدرتها على الصّمود أمام ضغوط الرّسوم، كما فعلت أثناء تباطؤ الاقتصاد في أزمة كوفيد-19. ويستشهد هنا بمنصة "ماكس أب" (MaxAB)، الّتي تتّخذ من القاهرة مقرّاً لها، والتي أصبحت لاحقًا "ماكس أب-واسوكو" (MaxAB-Wasoko)، كمثالٍ بارزٍ على هذا التّكيف؛ فيقول: «لقد نجحوا من خلال التّركيز على تجميع المخزون رقميّاً بدلاً من امتلاكه فعليّاً"، مستخلصاً الدّرس بقوله: "قلّل تعرّضك لنقاط الاتّصال الأكثر تأثّراً بالرّسوم الجمركيّة ضمن سلسلة القيمة لديك".

بالنّسبة للسيد، تشمل النّماذج الأخرى الّتي تميل إلى الأداء جيّد التّصنيع حسب الطّلب، وخدمات الاشتراك -سواء كانت رقميّةً بالكامل أو هجينةً تجمع بين الجوانب الماديّة والرّقميّة، والأعمال الّتي تركز على الملكيّة الفكريّة مع تقليل العمليّات اللّوجستيّة. نظراً لأنّ الرّسوم تستهدف بشكلٍ أساسيٍّ السّلع الملموسة والشّحنات، فإنّ الشّركات الّتي تمتلك عمليّاتٍ غير ملموسةٍ أو محليّةٍ إلى حدّ كبيرٍ تكون أفضل حمايةً من هذه الاضطرابات التّجاريّة.

كيف تواجه الشركات في الشرق الأوسط تحديات التجارة العالمية؟

ما يحتاجه المؤسسون حقاً

بينما يُعتبر التمويل عادةً الخيار الأوّل في الأزمات الاقتصاديّة، يتّفق القادة الثّلاثة على أنّ الشّركات النّاشئة بحاجةٍ إلى أكثر من المال فقط للبقاء والنّموّ. إذ يقول فصيح الله: "بدلاً من القروض أو المساعدات الماليّة، نحتاج إلى اهتمام المستثمرين بمنصّاتٍ، مثل: الكريمة، وقطّاع التّصنيع المحليّ". ويشير إلى أنّ ذلك يشمل "الوصول الأفضل إلى بنى تحتيةٍ موثوقةٍ وشبكات مورّدين، وسياساتٍ تشجّع الاستثمار الخاصّ في تطوير سلاسل التوريد الإقليميّة".

ويكرّر تامر السيد نفس الرّأي، داعياً إلى آليات دعمٍ طويلة الأمد ومستهدفةٍ؛ فيقول: "ما نحتاجه هو رأس مالٍ صبورٍ وشراكات بين القطّاعين العامّ والخاصّ لبناء القدرات المحليّة". ويضيف: "يمكن للحكومات تقديم تمويلٍ أو حوافز ضريبيّةٍ للشّركات الّتي تنشئ عمليّاتٍ محليّةٍ، وتسهيل شراكات نقل التّكنولوجيا، وتسريع الموافقات التّنظيميّة للتّصنيع المحليّ".

كما يرى رودريغ ناكوزي ضرورة تقديم دعمٍ متعدّد الأوجه، مؤكّداً أنّ "الدّعم في شكل حوافز ماليّةٍ، مثل: الإعانات أو تخفيض الرّسوم الجمركيّة على المواد الخام الحيويّة قد يخفّف من بعض الضّغوط على الشّركات الصّغيرة". ويضيف: "يمكن للحكومات والمناطق الحرّة أن تلعب دوراً حيويّاً بتسهيل الوصول إلى التّكنولوجيا والتّدريب وتحديث البنية التّحتيّة، ممّا يمكّن المصنعين من تحسين الكفاءة وتكييف سلاسل التّوريد. ويجب على هيئات التّجارة دعم الاتفاقيّات التّجاريّة الإقليميّة التي تخفّض الحواجز وتعزّز التّعاون، لتأسيس نظام سوقٍ أكثر مرونةً وتكاملاً للشّركات الصّغيرة والمتوسّطة".

نظرة إلى المستقبل

يرى خميس سليمان أنّ هذه المرحلة من إعادة تشكيل ملامح التّجارة العالميّة تفرض تحوّلاً في العقليّة، إذ لا يكفي التّكيّف مع التّحديّات الرّاهنة، بل لا بدّ من مواءمة القدرة على الصّمود مع متطلّبات التّنافسيّة على المدى الطّويل؛ فيقول إنّ: «مصنّعي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يقتصرون على مجرّد التكيّف مع الظّروف الحالية، بل يعملون على تمهيد الطّريق نحو نموٍّ مستدامٍ، مستندين إلى موقعهم الجغرافيّ الاستراتيجيّ، والاستثمارات المتزايدة في البنية التّحتيّة، والتّوسّع المدروس ضمن الأسواق الإقليميّة.

ويضيف فصيح الله أنّ هذا التّحوّل الدّاخليّ قد يكون الميّزة الحقيقيّة للمنطقة؛ فيقول موضّحاً: "هناك فرصةٌ أمام شركات المنطقة لتعزيز التّجارة الدّاخليّة وتقليل الاعتماد على الأسواق البعيدة". ويشير إلى أنّ "الاتفاقيات التّجاريّة القائمة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومع المناطق المجاورة تُتيح للّشركات النّاشئة بناء شبكات توريدٍ مرنةٍ والاستفادة من الإنتاج المحليّ؛ الأمر الذي سيجذب المزيد من الاستثمارات إلى كلٍّ من المنصّات التّقنيّة وقدرات التّصنيع".

بالنّسبة للشّركات الصّغيرة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنّ النّظام التّجاريّ الجديد قد لا يكون مجرّد محاولةٍ للّحاق بالرّكب، بل لعبة ذكاءٍ وتخطيطٍ. والتّحدّي الآن هو اغتنام الفرصة، وصياغة مستقبلٍ أفضل.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
آخر تحديث:
تاريخ النشر: