خلف وهم الإنتاجية: هل تصنع عملاً ينمو أم عبئاً يستنزفك؟
حين تنغمس في دوامة المهامّ اليوميّة وتستنزفك التّفاصيل، لا يزدهر عملك إلّا بالانتقال من إدارة الأعمال بالصّدفة إلى بناء أنظمةٍ تعزّز النّموّ والاستدامة

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
يغرق كثيرٌ من أصحاب الأعمال في بحرٍ متلاطمٍ من المهام اليوميّة؛ فما إن يشرعوا في يومهم حتّى يجدوا أنفسهم أمام قائمةٍ مثقلةٍ بالواجبات، وما أن ينتهي النّهار حتّى تكون القائمة قد ازدادت طولاً وثقلاً. يتنقّلون بين تدبير شؤون الرّواتب، وإخماد الأزمات المفاجئة، والإجابة عن أسئلة فرق المبيعات، ومراجعة نصوص الحملات التّسويقيّة، بل وإصلاح الأعطال الطّارئة في المستودع؛ كلُّ ذلك قبل أن يحلّ وقت الغداء. وقد يُخيَّل إليهم أنّ هذا الجهد المحموم دليلُ إنتاجيّةٍ وضرورةٍ، غير أنّ الحقيقة الصّارمة تكشف عكس ذلك؛ فإذا كان بقاء الشّركة مرهوناً بعمل صاحبها وحده، فهي ليست شركةً في معنى الكلمة، بل وظيفةٌ مُقنّعة، غير أنّها وظيفةٌ مثقلةٌ بالتّوتّر ومحمّلةٌ بالمخاطر.
وليس هذا المشهد نادراً في عالم الأعمال؛ فقد خبرته مراراً بصفتي مدرّباً، ورأيت بأمّ عيني أصحاب شركاتٍ أذكياء وطموحين يركضون بأقصى طاقتهم، يواجهون المشكلات نفسها أسبوعاً بعد آخر، ويحملون مؤسّساتهم على أكتافهم كما يحمل المقاتل سلاحه. قد ينجح هذا النّمط ردحاً من الزّمن، لكنّه سرعان ما ينهار تحت وطأة الاستنزاف. وهنا يبرز المفترق الحاسم: إمّا أن يظلّ القائد أسير دور “مدير المهامّ” الغارق في التّفاصيل، أو أن يتحوّل إلى “مهندس أنظمةِ” يصوغ بوعيٍ مساراتٍ متينةً قابلةً للتّكرار؛ فالشّركات الّتي تنمو لا تنهض على العرق الفرديّ، بل على أنظمةٍ راسخةٍ تتجاوز الأشخاص لتضمن البقاء والاستمرار.
مشكلة التفكير القائم على المهام
قد تمضي نهارك غارقاً في حلّ المشكلات، غير أنّك تفعل ذلك بالأسلوب نفسه في كلّ مرّة؛ تُعيد الإجابة عن الأسئلة ذاتها لفريقك، وتستمع إلى شكاوى العملاء المتكرّرة، ثم تنزلق إلى قلب المشاريع لتُصلح ما كان ينبغي ألّا ينحرف عن مساره منذ البدء. وهكذا تبقى حركتك دائريّةً، وجهدك مبذولاً، ووقتك مستنزَفاً، فيما يبقى أصل الدّاء على حالهٍ بلا علاجٍ.
قد يخال لك أنّك الرّكيزة الأثمن في شركتك، غير أنّ الحقيقة المجرَّدة تُظهر عكس ذلك؛ فأنت في جوهر الأمر أشبه بضمادةٍ باهظةٍ تُخفي الجرح من غير أن تُعالج أسبابه. والمشكلة ليست في قدراتك، بل في العقليّة الّتي أسرتك: عقليّة ردّ الفعل لا عقليّة البناء. فأنت تُطفئ الحريق كلّما اندلع، وتحلّ المعضلة كلّما ظهرت، لكنّك لا تضع نظاماً يقي شركتك من تكرارها. وهكذا تمتلئ ساعات نهارك بالانشغال والعمل، بينما يبقى نموّ مؤسستك مؤجَّلاً، متعثّراً، ينتظر انتقالك من معالجة العَرَض إلى إصلاح الجذر.
شاهد أيضاً: أخطر 7 خرافات عن القيادة تُهدّد الأعمال
من مشغّل إلى مهندس
يفكّر القادة الّذين يبنون أنظمةً بطريقةٍ مختلفةٍ ويطرحون أسئلةً جوهريّةً:
- كيف يمكن أن تسير الأمور من دون تدخّلي المباشر؟
- أي عمليّةٍ فشلت بالفعل، وكيف يمكن إصلاح جوهرها وليس مجرّد نتائجها؟
- كيف أوثّق هذا الحلّ بحيث يصبح جزءاً من النّظام بدل أن يبقى محصوراً في ذهني؟
يصمّم هؤلاء القادة آليّاتٍ تمنع الفوضى من العودة، ويبدأون بتحديد أنظمة عملهم الأساسيّة:
- توليد العملاء المحتملين.
- المبيعات؟
- تقديم الخدمة أو المنتج.
- الإدارة الماليّة.
- التّوظيف والتّأهيل.
- التّواصل الدّاخليّ.
- دعم العملاء.
اسأل نفسك بعد ذلك: أي من هذه الأنظمة يعمل بكفاءةٍ، وأيّها ما زال محصوراً داخل عقلك أو رسائل البريد الإلكترونيّ؟
بناء أنظمة تنمو معك
اجعل النّظام بسيطاً، إذ تكمن فعاليّته في الوضوح:
- اتّبع البساطة: سهّل خطواته واجعلها متّسقةً لتسهيل الالتزام بها.
- وثّق كلّ شيءٍ: احرص على أن يكون متاحاً للجميع، لا محتجزاً داخل ذهنك.
- درّب الآخرين: اجعل الفريق قادراً على تطبيقه بكفاءةٍ تصل إلى 80–90% من مهارتك.
- قِس النّتائج: راقب الأداء لتتأكّد من فاعليّة النّظام وتطويره عند الحاجة.
حوّل كلّ نظامٍ توثّقه إلى رافعةٍ تمنحك وقتاً إضافيّاً، وتخفّف اعتماد الفريق عليك، وتعزّز وضوح الأدوار، وتصبح أصلاً قابلاً للتّوسّع يزيد من قيمة عملك
الثمار الحقيقية: الوقت، الثقة، وقابلية الانتقال
حين تنتقل من عقليّة “تنفيذ المهامّ” إلى “بناء الأنظمة”، ستجني:
- استقلاليّة الفريق لأنّهم لم يعودوا بانتظارك.
- اتّساق تجربة العملاء لأنّ الخدمة قائمةٌ على عمليّاتٍ لا ارتجالٍ.
- وقتك وصفاء ذهنك للتّركيز على النّموّ الاستراتيجيّ بدلاً من ملاحقة الأزمات المستمرّة.
- قيمةٌ قابلةٌ للبيع لشركتك، لأنّ نجاحها لا ينهار بمجرّد مغادرتك.
هذا ما يميّز أصحاب الأعمال المزدهرة عن الغارقين في الفوضى؛ يبنون شركاتٍ تعمل وفق تصميمٍ مدروسٍ، لا وفق افتراضٍ عشوائيٍّ.
تعلّم من قائمة مهامك
كلّ مهمّةٍ متكرّرةٍ تتحوّل إلى إشارةٍ، وكلّ موقفٍ طارئٍ يتكرّر يصبح إنذاراً واضحاً؛ فحين تشعر بأنّك تقول لنفسك: “ها نحن نعود من جديدٍ”، يظهر سؤالٌ جوهريٌّ: هل ستكتفي بحلّ المشكلة هذه المرّة لتكون الأخيرة، أم ستظلّ تُكرّرها بلا نهايةٍ؟ تلك اللّحظة تُحدّد الفارق بين الانشغال المستمرّ وبناء عملٍ حقيقيٍّ قائمٍ على التّصميم والنّموّ.