الإنجاز، السلطة، الانتماء: ثلاث قوى تصنع سلوك الموظفين
تكشف نظرية الاحتياجات الثلاث أنّ سلوك الموظّفين تحرّكه قوى الإنجاز والسّلطة والانتماء، ما يتيح للمؤسّسات توجيه الطّاقات وبناء بيئة عملٍ متوازنةٍ ومنتجةٍ

قدّم علم النّفس التّنظيميّ على مرّ تاريخه أطراً متعدّدةً لتفسير سلوك الأفراد داخل بيئات العمل، غير أنّ أحد أهمّ هٰذه الأطر برز مع ما طرحه عالم النّفس الأميركيّ ديفيد ماكليلاند في منتصف القرن العشرين عبر نظريّة الاحتياجات الثّلاث. وتقوم هٰذه النّظريّة على أنّ سلوك الموظّف لا ينشأ صدفةً، بل تحدّده ثلاث قوى أساسيّةٌ تتمثّل في: الحاجة إلى الإنجاز، والحاجة إلى السّلطة، والحاجة إلى الانتماء. ومن خلال فهم هٰذه القوى، تستطيع المؤسّسات أن تفسّر الدّوافع العميقة للأفراد، وتوجّه طاقاتهم في الاتّجاه الصّحيح، وتبني بيئة عملٍ أكثر انسجاماً وقدرةً على الإنتاج. إذ تعكّس هٰذه الاحتياجات الثّلاث الدّوافع الإنسانيّة الكبرى، وتوضّح في الوقت نفسه الكيفيّة الّتي تستطيع بها المنظّمات استثمارها في صياغة استراتيجيّات القيادة، وتطوير الأداء، وتعزيز الولاء الوظيفيّ.
نظرية الاحتياجات الثلاث
تفسّر نظريّة الاحتياجات الثّلاث أنّ كلّ موظّفٍ تحرّكه حاجةٌ رئيسيّةٌ، في حين تتفاوت بقيّة الحاجات من حيث القوّة والتّأثير. فبعض الأفراد يندفعون وراء إنجازاتٍ شخصيّةٍ ملموسةٍ، بينما يسعى آخرون إلى ممارسة النّفوذ والتّأثير في قرارات الغير، على حين أنّ فريقاً ثالثاً يجد متعته في بناء العلاقات الودّيّة والشّعور بالانتماء إلى الجماعة. ولا يمكن فصل هٰذه الاحتياجات عن طبيعة الإنسان النّفسيّة والاجتماعيّة، لأنّها تمثّل أبعاداً راسخةً في تكوين السّلوك البشريّ. ولهٰذا السّبب، اعتمدت الشّركات الكبرى هٰذه النّظريّة كأداةٍ لفهم دوافع موظّفيها، ومن ثمّ تصميم برامج تحفيزيّةٍ تستجيب لتلك الدّوافع المتنوّعة. [1]
الحاجة إلى الإنجاز: دافع يدفع الموظف لتخطي الحدود
تضع الحاجة إلى الإنجاز صاحبها في موقع الباحث الدّائم عن التّحدّيات والنّتائج المتميّزة، إذ ينجذب الموظّفون من هٰذا النّوع إلى المهامّ الصّعبة الّتي تتطلّب جهداً مضاعفاً، ويبتعدون عن الأعمال الرّوتينيّة الّتي لا تحمل لهم معنى النّجاح. كما يطلبون باستمرارٍ تغذيةً راجعةً واضحةً، ويقيسون تقدّمهم من خلال الأرقام والنّتائج الملموسة، لأنّهم يرون ذواتهم في حجم ما يحقّقونه لا في مجرّد محاولاتهم.
وتصف نظريّة ماكليلاند للاحتياجات هٰؤلاء الأفراد بأنّهم القوّة المحرّكة لروح الابتكار داخل المؤسّسات، إذ يسعون إلى ابتكار حلولٍ غير تقليديّةٍ وتجربة طرقٍ جديدةٍ. وإذا ما وفّرت لهم الإدارة الموارد والمسؤوليّات المناسبة، استطاعوا تحويل طموحاتهم الفرديّة إلى مكاسب تنظيميّةٍ كبرى. غير أنّ التّركيز المفرط على الإنجاز قد يولّد شعوراً دائماً بالضّغط أو ميلاً إلى الفرديّة المبالغ فيها، وبالتّالي يصبح من الضّروريّ أن تتدخّل القيادة لموازنة هٰذا الدّافع من خلال دمجه بروح العمل الجماعيّ.
الحاجة إلى السلطة: دافع يقود إلى التأثير والسيطرة
وعلى الجانب الآخر، يختلف الموظّفون الّذين تحرّكهم الحاجة إلى السّلطة عن أولٰئك الّذين تسيطر عليهم الرّغبة في الإنجاز؛ فهٰؤلاء يسعون قبل كلّ شيءٍ إلى التّأثير في الآخرين وتوجيه قراراتهم، كما يطمحون إلى أدوارٍ قياديّةٍ تمنحهم القدرة على صناعة القرار. وتنقسم السّلطة هنا إلى نوعين: سلطةٍ شخصيّةٍ تهدف إلى تعزيز المكانة الفرديّة وخدمة المصالح الذّاتيّة، وسلطةٍ مؤسّسيّةٍ تركّز على دفع الفريق نحو أهدافٍ مشتركةٍ.
وتبرز أهمّيّة هٰذا الدّافع في إطار نظريّة الاحتياجات الثّلاث لأنّ المؤسّسات تحتاج دائماً إلى قادةٍ يملكون الرّغبة في التّأثير وتحمّل المسؤوليّة. وعندما يوجّه هٰذا الميل بشكلٍ سليمٍ، ينشأ قادةٌ قادرون على ضبط الموارد، وصياغة رؤيةٍ مشتركةٍ، وبناء فرقٍ قويّةٍ. ولٰكن إذا انحرف نحو الأنانيّة والاستبداد، فإنّه يخلق بيئةً مشحونةً بالتّوتّر. ولذٰلك، يعدّ التّوازن بين القوّة الشّخصيّة والالتزام المؤسّسيّ أساساً لضمان تحوّل الحاجة إلى السّلطة إلى رافعةٍ لبناء بيئة عملٍ منتجةٍ لا ساحة صراعٍ. [2]
الحاجة إلى الانتماء: دافع يعزز الروابط الإنسانية
ولا يقلّ البعد الثّالث في نظريّة الاحتياجات الثّلاث أهمّيّةً عن سابقيه، إذ يركّز على الجانب الاجتماعيّ للموظّف، حيث تحرّكه الرّغبة في بناء علاقاتٍ إنسانيّةٍ دافئةٍ والحصول على القبول من الآخرين. ويميل هٰؤلاء الأفراد إلى العمل ضمن فرقٍ متعاونةٍ، ويبتعدون عن المواجهات المباشرة أو الصّراعات غير الضّروريّة. ويظهر أثر هٰذا الدّافع في سلوكيّاتٍ مثل الحرص على التّواصل، والبحث عن التّقدير، والرّغبة في الاندماج ضمن جماعةٍ متماسكةٍ.
وتشير نظريّة ماكليلاند للاحتياجات إلى أنّ الانتماء يعدّ ركيزةً أساسيّةً للحفاظ على الرّوح المعنويّة داخل المؤسّسة؛ فإذا شعر الموظّف بالعزلة أو التّهميش، ضعفت إنتاجيّته وخبا حماسه، بينما إذا وجد بيئةً تنظيميّةً مرحّبةً، ضاعف جهوده وأبدى التزاماً عالياً تجاه الأهداف المشتركة. ولهٰذا السّبب، تستثمر المؤسّسات في بناء الفريق، وفي البرامج الاجتماعيّة، وفي تعزيز ثقافة التّواصل المستمرّ، لضمان بقاء هٰذا الدّافع فعّالاً ومؤثّراً. [2]
تطبيقات نظرية الاحتياجات الثلاث في بيئة العمل
ولم تبق نظريّة الاحتياجات الثّلاث حبيسة الجانب الأكاديميّ، بل تحوّلت إلى أداةٍ عمليّةٍ في إدارة الموارد البشريّة، إذ ظهرت تطبيقاتها في مجالاتٍ عدّةٍ:
- في مجال التّوظيف والاختيار: حيث تحدّد المؤسّسات أيّ الاحتياجات يهيمن على شخصيّة المتقدّمين، فتسند إليهم الأدوار المناسبة؛ فالمناصب القياديّة تلائم من تغلب عليهم الحاجة إلى السّلطة، في حينٍ أنّ المناصب الإبداعيّة تناسب من يستحوذ عليهم دافع الإنجاز.
- في برامج التّحفيز: حيث يصمّم نظام المكافآت بما ينسجم مع الدّوافع الفرديّة؛ فصاحب الإنجاز يفضّل المكافآت المادّيّة المربوطة بالأداء، بينما يقدّر صاحب الانتماء التّكريم العلنيّ أو التّقدير الاجتماعيّ.
- في تطوير القيادات: حيث يدرّب الموظّفون على استثمار حاجاتهم الشّخصيّة لصالح المنظّمة؛ فيتحوّل السّعي وراء السّلطة إلى قيادةٍ بنّاءةٍ، ويتحوّل الانتماء إلى تعاونٍ مثمرٍ.
- في إدارة النّزاعات: حيث يساعد الوعي بدوافع الأفراد على تفسير أسباب الخلافات ضمن الفرق، وبالتّالي يصبح التّعامل معها أكثر فاعليّةً.
الخاتمة
وتكشف نظريّة الاحتياجات الثّلاث أنّ سلوك الموظّفين يتشكّل من ثلاث قوى متداخلةٍ: السّعي إلى الإنجاز، والرّغبة في السّلطة، والحاجة إلى الانتماء. ومن خلال إدراك هٰذه الدّوافع، تستطيع المؤسّسات صياغة سياسات توظيفٍ وتحفيزٍ وقيادةٍ أكثر ذكاءً. وإذا ما نجحت في تحقيق التّوازن بين هٰذه القوى الثّلاث، ضمنت بيئة عملٍ متماسكةٍ تجمع بين الإنتاجيّة والولاء. ومن هنا، تتّضح القيمة الجوهريّة للنّظريّة؛ فهي لا تربط فقط بين الجانب النّفسيّ للفرد ودوره في المنظّمة، بل تحوّل السّلوك البشريّ من مجرّد فعلٍ فرديٍّ إلى قوّةٍ جماعيّةٍ تصنع مستقبل المؤسّسة.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين نظرية الاحتياجات الثلاث ونظرية ماسلو للحاجات الإنسانية؟ تفسّر نظرية ماسلو الدوافع من خلال هرم يبدأ بالحاجات الأساسيّة وينتهي بتحقيق الذّات، أي أنّها تسير بشكلٍ تدرجيٍ، بينما تركّز نظرية الاحتياجات الثلاث على ثلاث حاجات مستقلة (الإنجاز، السلطة، الانتماء) يمكن أن تتواجد بدرجاتٍ مختلفةٍ عند كلّ فردٍ دون ترتيبٍ هرميٍّ، ممّا يجعلها أكثر مرونةً في تفسير السّلوك الوظيفيّ.
- كيف يمكن للمدير أن يحدد الحاجة المهيمنة عند موظفيه؟ يستطيع المدير تحديد ذلك عبر مراقبة سلوك الموظف في العمل، وإجراء مقابلات تقييمية، واستخدام اختبارات نفسية متخصصة. على سبيل المثال، من يطلب دائماً تحديات جديدة يسيطر عليه دافع الإنجاز، بينما من يسعى لقيادة الفريق يهيمن عليه دافع السّلطة، ومن يركّز على العلاقات الإنسانيّة تغلب عليه حاجة الانتماء.