القيادة في زمن عدم اليقين: كيف نخطط لما لا يُخطط له؟
في عالمٍ تتغيّر فيه الظّروف باستمرارٍ، لا تكمن الميّزة في الخطط المحكمة، بل في الفرق القادرة على التّكيّف والابتكار عند انهيار الخطط

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
نشأنا نعتبر الخطط شرايين الحياة الّتي تنبض من خلال جداول غانت ومهامٍّ زمنيّةٍ دقيقةٍ وبياناتٍ رسميّةٍ، فنفتن بها لأنّها تمنحنا وهم السّيطرة والتّحكّم، لكن ماذا يحدث حين يعاندنا العالم ولا يتماشى مع ما رسمناه؟ هذا ليس سؤالاً نظريّاً بل حقيقة ثابتة؛ فالعالم لا ينصاع أبداً. إذا قدت فريقاً خلال إطلاق منتجٍ جديدٍ أو إعادة تنظيمٍ أو تحوّلٍ استراتيجيٍّ؛ فلا بدّ أنّك اكتشفت بأنّ أفضل الخطط تنهار في اللّحظة التي تلامس فيها واقعاً متغيّراً، ليس لأنّ الخطط سيئة، بل لأنّها صُمّمت لظروفٍ مضت وانتهت. لذلك، لا ندعو إلى التّخلّي عن التّخطيط، بل إلى إعادة النّظر بعمقٍ في الغاية الحقيقيّة منه.
عدم اليقين ليس استثناءً بل هو الواقع
في عملي مع قادةٍ من مختلف الصّناعات -ونعم، في القوّات العسكريّة- رأيت نفس الخطأ يتكرّر في غرف الاجتماعات وميدان المعركة: نتعامل مع عدم اليقين كأنّه اضطرابٌ مؤقّتٌ بدلاً من أن نعتبره الحالة الدّائمة. ونستعدّ بأطرٍ ثابتةٍ وحلولٍ جاهزةٍ؛ فنخطّط لما سيحدث، لا لكيفيّة استجابتنا عندما لا تسير الأمور كما هو متوقّعٍ. ولكن القادة الأفضل لا يضعون الخطط فحسب، بل يصنعون فرقاً تستطيع التّكيّف عندما تنهار الخطط، ويخلقون بيئةً تسمح بالارتجال، لا فقط التّنفيذ؛ فهم يعرفون أنّ القيادة اليوم ليست مثل قيادة أوركسترا، بل أشبه بالعزف ضمن فرقة جازٍ. الجميع يجب أن يستمع، ويضبط الإيقاع، ويعرف متّى يؤدّي دوره ومتى يتوقّف.
تحول ذهني: من التنبؤ إلى الاستعداد
هذا التّحوّل من التّنبؤ إلى الاستعداد ليس بالأمر السّهل ولا بالفطرة المكتسبة، فغالبيّةٌ منّا نشأوا في منظوماتٍ تعليميّةٍ تُعلّي من شأن الإجابات الصّحيحة، لا مناهج التّفكير التّكيفيّ، وتمجّد الكفاءة لا التّجريب والمجازفة. ومع ذلك، لا تُثمر الكفاءة إلا حين يكون الطّريق ممهدّاً وواضحاً، أمّا في المجهول فحينها تكون المرونة وحدها هي الفارق الحقيقيّ.
وفي أروقة القوّات العسكريّة، يتجسّد هذا المبدأ في مفهوم "قيادة المهمة" (mission command)، وهو نهجٌ لامركزيٌّ يمنح الفرق هدفاً محدّداً واضحاً، لكنّه يترك لها حريّة اختيار الطّريق الأمثل لتنفيذ المهمّة، فهو بناء ثقةٍ متينةٍ تتجاوز مجرّد الالتزام بالإجراءات الجامدة، ووضوح غايةٍ يتقدّم على صلابة خطّةٍ. وينسحب هذا المفهوم تماماً على عالم الأعمال، إذ لا نحتاج إلى المزيد من القواعد الصّارمة، بل إلى استعدادٍ أعمق وأوسع للتّكيف مع المتغيّرات.
السيطرة ليست عكس الإبداع
من أكبر الأساطير الّتي تلاحق مفهوم القيادة، تلك الفكرة القائلة بأنّ الإبداع والسّيطرة خصمان لا يجتمعان. غير أنّ أكثر المنظّمات إبداعاً -سواء في ميادين الدّفاع، أو التّكنولوجيا، أو الفنون- لا ترفض الانضباط، بل تحتضنه وتدمجه بذكاءٍ واستراتيجيّةٍ متأنيّةٍ. فهي تبني أُطُراً مرنةً تُمكّن من الارتجال والإبداع، لا تكبله أو تُقيده، مع توضيح القيم، وتحديد الأدوار، وتحميل المسؤوليّات، بحيث يعرف كلّ فردٍ بجلاء متى وكيف يمكنه الانحراف عن المسار المخطّط. هذا لا يعني الفوضى، بل هو تجسيد للمرونة الواعية والذّكيّة، نظامٌ يتّسم بالقدرة على التّكيّف والثّبات، يظلّ مرناً تحت وطأة الضّغوط، دون أن ينكسر أو يتهاوى.
التدرب على التحول، لا على الخطة فقط
لبلوغ المرونة الحقيقيّة، لا بدّ أنّ تصممها وتغرسها في كلّ تفاصيل عملك، ليس فقط في دفاتر الاستراتيجيّة، بل في السّلوكيّات اليوميّة التي تكافئها، وفي الأنظمة التي تستخلص منها الدّروس، وفي الثّقافة التي تبنيها بوعيٍ وعمقٍ.
في تجربتنا مع الشّركات والمؤسّسات العسكريّة على حدٍّ سواء، نستلهم مبدأً مستعاراً من عالم التّدريب الطّبيّ: "شاهد، مارس، علّم". فكرةٌ بسيطةٌ في ظاهرها، لكنّها تحمّل عمقاً بالغاً؛ فالتّعلّم الحقيقيّ لا يُستمد من التّعليم النّظريّ فحسب، بل ينبع من التّطبيق العمليّ ونقل المعرفة إلى الآخرين. ولا يمكن أن تدرك كيف تتصرّف تحت وطأة الضّغط إلّا حين تختبر الأمر بنفسك، ولا تستوعب الدّرس حقّاً إلّا عندما تساهم في تعليم غيرك. لذلك، نغرس هذه الدّورة المستمرّة داخل فرقنا، نُحاكي ظروف الضّغط، نفرض قيوداً، ونُبدل المتغيّرات، ليس بهدف دفع النّاس نحو الفشل، بل لتمرينهم على الاستجابة والتّكيف بحنكةٍ.
وهكذا، نُبني القدرة التّكيفيّة لتصبح جزءاً لا يتجزّأ من عضلات مؤسّستك، ليس لتعليم الأفراد كيفيّة الالتزام بالخطّة فحسب، بل لتحضيرهم ليكونوا كتاب الصّفحة التّالية حينما تنتهي الخطّة.
المقاومة هي مجرد بيانات مقنعة
إذا كنت تقود تغييراً، فتوقّع المقاومة، ليس بوصفها فشلاً أو عقبةً، بل كدليلٍ واضحٍ على أهميّة ما تفعل وتأثيره. في الحقيقة، أسوأ إشارةٍ يمكن أن يتلقّاها القائد هي اتّفاق الجميع بلا استثناءٍ، إذ غالباً ما يدلّ ذلك على أنّ النّاس لا يشاركون بعمقٍ في التّحدّي، أو أنّهم يشعرون بعدم وجود الإذن الكافي للمخاطرة والمبادرة. فالأصوات الّتي تحمل الاحتكاك الإبداعيّ، والخلاف، وحتّى الارتباك ليست أعراضاً للخلل أو فشل العمليّة، بل هي بياناتٌ ثمينةٌ تعكس أين يعلق النّاس، وأين تكمن جمود الأنظمة، وأين يجب أن تتحطم الافتراضات القديمة لتفتح الطّريق أمام التّقدّم.
وبمعنىً آخر، المقاومة ليست مجرّد عقبةٍ تقف في طريق التّغيير، بل هي شكلٌ من أشكال التّغذيّة الرّاجعة الّتي تضفي قيمةً وتغذّي عمليّة التّعلّم والتّطوّر. وهذا التّحوّل في النّظر من مجرّد إدارة المقاومة إلى استثمارها واستخلاص الفائدة منها، هو ما يميّز المنظّمات الثّابتة السّاكنة عن تلك التّكيفيّة الّتي تتّسم بالمرونة والقدرة على التّجدّد والازدهار.
شاهد أيضاً: القيادة الجمالية في الشرق الأوسط
صمِّم النظام حول الناس، لا العكس
من بين أكثر الفخاخ شيوعاً الّتي أُصادفها في المنظّمات، هو تصميم أنظمةٍ مبنيّةٍ على فرضيّات الظّروف المثاليّة وعلى وجود عمّالٍ مثاليّينٍ، حيث يسير كلّ شيءٍ بسلاسةٍ وكفاءةٍ إلى أن يواجهوا حدثاً غير متوقّعٍ أو يرحل الشّخص الأساسيّ، عندها ينهار كلّ شيءٍ بشكلٍ مفاجئٍ. ولهذا السّبب، تبني أفضل المنظّمات مرونتها في صلب هيكلها التّنظيميّ؛ فلا تركّز فقط على إتمام المهمّة، بل تعير اهتماماً بالغاً للشّبكة الّتي تربط بين الأفراد؛ من يستطيع دعم من؟ وكيف تنتقل المعلومات؟ وكيف تُتخذ القرارات؟ وكيف تُوزع السّلطة دون أن تفقد فعاليّتها؟ باختصارٍ، يعاملون النّاس أنفسهم كالنّظام، وعندما تتبنّى هذه العقلية، لا تفقد مؤسّستك ثقافتها بمجرّد مغادرة أّي فردٍ، بل تستمر الثّقافة في الوجود لأنّها تنبثق من العلاقات المتبادلة، والطّقوس المتكررّة، وأساليب العمل المشتركة، وليس من خلال الهياكل التّنظيميّة الثّابتة.
نموذج جديد للتخطيط
ليس المطلوب أن نتوقّف عن التّخطيط، بل علينا أن نخطّط لما لا يمكن تخطيطه، لنكون جاهزين للأخبار المتأخّرة، والمنعطفات الجانبيّة، والعملاء الّذين يغيّرون آرائهم، والأسواق الّتي تُعيد كتابة قواعدها في منتصف اللّعب. وهذا يعني بناء قادةٍ قادرين على الارتجال بانضباطٍ، وفرقٍ تتكيّف دون أن تتفتت، وثقافاتٍ تستوعب الصّراع بدلاً من تجنّبه؛ فالهدف الحقيقيّ من القيادة ليس منع الخطط من الانكسار، بل الإتقان في التّعامل مع ما يحدث بعد انهيارها، إذ إنّ المنظّمات الّتي تزدهر ليست تلك التي تمتلك أفضل الخطط، بل تلك التي تمتلك أفضل الممارسات حين تنهار الخطط.