من البحث البشري إلى الوكلاء الرقميين: مستقبل الاكتشاف والإبداع
يتحوّل الاكتشاف الرّقميّ من البحث التّقليديّ إلى التّدفقات المدمجة عبر الذكاء الاصطناعي، حيث تبدأ الرّحلة الحواريّة داخل الأدوات والتّطبيقات التي نستخدمها يوميّاً

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
على مدى عقودٍ، كانت محرّكات البحث نقطة الانطلاق الأساسيّة لأيّ رحلة بحثٍ عن المعرفة أو اتّخاذ قرارٍ. يريد مؤسّسٌ أن يسمي شركته الناشئة؟ يبحث في غوغل عن أفكارٍ للنّطاقات. ويرغب طالبٌ في التّقديم للجامعة؟ يبحث عن التّصنيفات والمواعيد النّهائيّة. ويخطّط زوجان لعطلةٍ؟ يبحثان عن وجهاتٍ محتملةٍ. في كلّ هذه الحالات، تبدأ الرّحلة بسؤالٍ، وغالباً ما يبدأ هذا السّؤال بمحرّك البحث.
لكن هذه البداية تشهد تحوّلاً جذريّاً. ليس من غوغل إلى تيك توك، ولا من سطح المكتب إلى الهاتف المحمول، بل التّحوّل الأكبر هو من البشر إلى الوكلاء الرّقميّين؛ فرحلة البحث والنّية ستبدأ بشكلٍ متزايدٍ عبر الذكاء الاصطناعي، وليس البشر.
سواء عبر ChatGPT، أو GPT مخصّصٍ مدرّبٍ على بيانات عملنا، أو مساعدٍ شخصيٍّ داخل مساحة العمل، فإنّ طريقة طلب المساعدة تتغيّر. لم يعد الأمر مجرّد كلماتٍ مفتاحيّةٍ، بل أصبح حواراً قائماً على التّفاعل. ومع هذا التّحوّل، أصبح البحث يتمّ داخل الأدوات والتّطبيقات والواجهات التي يستخدمها النّاس بالفعل، بدلاً من محرّكات البحث العامّة. وهذا التحول يحمل آثاراً كبيرةً على مستقبل الاكتشاف الرّقميّ.
عندما تتحرك الخطوة الأولى، تتغير الرحلة بأكملها
لتوضيح هذا التّحوّل، تخيّل مؤسّساً يبدأ شركةً في مجال التّكنولوجيا المناخيّة، ويريد اختيار اسمٍ للشّركة. في الماضي، كان يفتح المتصفّح، يبحث عن "أسماء مبتكرة لشركات المناخ"، يتفقّد منصات النّطاقات، ويقارن العلامات التّجاريّة. كلّ خطوةٍ كانت منفصلةً، وكلّ فكرةٍ على منصّةٍ مختلفةٍ، والمؤسّس هو من يقود العمليّة يدويّاً: يكتب، ينقر، ويجمع الأدوات معاً.
أمّا الآن، فتخيّل أنّ نفس المؤسّس يبدأ بالتّحدّث مع GPT مدرّبٍ على قواعد التّسميّة، وسياق الصّناعة، والفلاتر القانونيّة. يصف شركته، يحصل على اقتراحاتٍ فوريّةٍ للأسماء، يرى نتائج فحص العلامات التّجاريّة، يتحقّق من توفّر النطاقات، ويطّلع على المقارنات ذات الصّلة، كلّها في تدفّقٍ واحدٍ. وربّما يذهب GPT أبعد من ذلك، عبر توليد شعاراتٍ، وكتابة شعاراتٍ تعريفيّةٍ، واقتراح حساباتٍ على وسائل التّواصل الاجتماعيّ.
لا يقتصر الفرق على الكفاءة، بل على هيكليّة الاكتشاف نفسها؛ فما كان سابقاً عمليّة بحثٍ متعدّدة النّوافذ أصبح الآن حلقةً متكاملةً من التّكرار والتّفاعل الإبداعيّ. التّسمية لم تعد قائمةً على قائمةٍ مرجعيّةٍ خطيّةٍ، بل أصبحت حواراً إبداعيّاً قائماً على التّدفّق والتّكرار.
الوكلاء يغيرون هندسة الإنترنت
لا يقتصر هذا التّحوّل على التّسمية، بل يشمل كلّ جوانب الاكتشاف الرّقميّ. إذا أصبح الوكلاء الرقميّون البوابة الجديدة للوصول إلى المعرفة والأدوات واتّخاذ القرار، فإنّ طريقة ظهور المنتجات للشّركات يجب أن تتغيّر. لم يعد الهدف تحسين التّرتيب في غوغل، بل أن تكون متوافقاً مع الوكيل الرّقميّ نفسه.
على عكس غوغل، لا يعرض الوكلاء عشر روابط زرقاء، بل يقدمون إجابةً مركّزةً واحدةً، ممّا يخلق تحديّاً جديداً: إذا لم يكن منتجك جزءاً من إجابة الوكيل، فقد لا يتم اكتشافه أبداً. وإذا لم يكن مصمّماً للتّكامل مع هذه التّدفقات الحواريّة، ستصبح غير مرئيٍ. يشبه هذا ما كان عليه SEO في الألفينات، لكنّه أعمق: لم يعد الهدف مجرّد ترتيبٍ أعلى في قائمةٍ، بل أن تكون الإجابة الوحيدة الّتي يقدمها الوكيل؛ إنّها واجهة "الفائز يأخذ كلّ شيءٍ".
اكتشاف النطاقات مثال يوضح النمط
في شركتي، Atom.com، بحثنا بعمقٍ في هذا التّحوّل؛ فقد كانت أدوات اكتشاف النّطاقات لدينا تعتمد على نموذج البحث التّقليديّ: كلمةٌ مفتاحيّةٌ، وتصفّح النّتائج، وتصفية حسب الصّناعة أو الطّول، وهكذا. لكنّنا اكتشفنا أنّ المؤسّسين يريدون شيئاً مختلفاً: وصف شركتهم بلغةٍ طبيعيّةٍ والحصول على أسماءٍ تتوافق مع رؤيتهم، مع إمكانيّة التّكرار والتّفاعل وطرح الأسئلة اللّاحقة.
بدأنا ببناء "بحثٍ دلاليٍّ" (Semantic Search) يسمح بالعثور على أسماء نطاقاتٍ رائعةٍ باستخدام اللّغة الطّبيعيّة. ولكنّنا لم نرد حصر التّجربة ضمن منصّتنا، لذلك أنشأنا "بروتوكول سياق النّماذج" (Model Context Protocol – MCP)، لتمكين أدوات ووكلاء آخرين من التّكامل مع محرّك اكتشاف النّطاقات لدينا؛ إنّه ليس منتجاً لتسجيل الدّخول، بل هو بنيةٌ تحتيّةٌ وأساسٌ متكاملٌ.
حلقة الاكتشاف الجديدة داخل التدفق
يكمن التّحوّل الأوسع في أنّ الاكتشاف لم يعد يحدث خارجيّاً فقط، بل أصبح جزءاً من التّدفقات الدّاخليّة للأدوات نفسها. على سبيل المثال، مصمّمٌ في Figma لا يريد مغادرة الأداة للبحث عن حزم أيقونات، وكاتبٌ في Notion لا يريد البحث في خمس مواقع للحصول على GIFs مناسبةٍ، ومطوّرٌ لا يريد البحث عن مزوّدي API واحداً تلو الآخر. إذن، فهم يريدون أن تظهر الإجابات داخل ما يقومون به بالفعل؛ هذه القدرة يوفّرها الوكلاء، وما يجب أن تتكيّف معه أدوات الاكتشاف.
الطبقة الوسطى الجديدة: من السوق إلى البروتوكول
لتحقيق هذا التّحوّل، يجب إعادة التّفكير فيما يعنيه "السوق". لم يعد مجرّد وجهةٍ، بل أصبح طبقةً؛ فالسّوق الجيّد في المستقبل ليس مجرّد موقعٍ إلكترونيٍّ، بل بروتوكول، ومجموعة واجهات برمجيّة (APIs)، وطبقة معرفة منظّمة يمكن للأدوات الأخرى استدعاؤها؛ إنّه مشاركٌ فعّالٌ في حوارات الذكاء الاصطناعي. بمعنى آخر، لم يعد المكان الذي يذهب إليه الناس للاكتشاف، بل هو ما يساعد الوكلاء على تقديم الشّيء الصّحيح في الوقت المناسب.
وهنا تتقاطع الأسواق وأدوات الذكاء الاصطناعي؛ فأفضل وكلاء التّسمية في المستقبل لن يقترحوا أسماء ذكيّةً فحسب، بل سيتحقّقون من توفّر النّطاقات، ومخاطر العلامات التّجاريّة، والحسابات الاجتماعيّة، والقضايا اللّغويّة، وأكثر. وهذا ممكنٌ فقط إذا كانت البنية التّحتيّة للاكتشاف مصمّمٌة لهذا النّوع من التّكامل، وهذا ما نبنيه.
التسمية مجرد البداية
على الرّغم من تركيزنا على التّسمية واكتشاف النطاقات، إلّا أنّ النّمط يمتدّ ليشمل كلّ المجالات؛ فمستقبل الاكتشاف سيكون:
- مدمجاً: داخل الأدوات الّتي يستخدمها النّاس.
- تكراريّاً: قائماً على التّفاعل اللّحظيّ.
- مبنيّاً على الذكاء الاصطناعي: حواريٌّ، سياقيٌّ، مدعومٌ بالوكلاء.
لا يسعى هذا التّحوّل إلى استبدال الإبداع البشريّ، بل إلى تعزيزه وتمكينه عبر إزالة العقبات وإتاحة خياراتٍ أفضل وبسرعةٍ أكبر؛ فالتّقنيات المتقدّمة لا تغيّر فقط طريقة اكتشاف المعلومات، بل تغيّر من يبدأ عمليّة الاكتشاف نفسها. يتحوّل العالم تدريجيّاً من مرحلةٍ يبدأ فيها البشر البحث إلى مرحلةٍ يتوسّطها الوكلاء الرّقميّون، ما يجعل الاكتشاف محكوماً بالبنية الرّقميّة نفسها. هذا التّحوّل يتجاوز كونه مجرّد تغيّيرٍ في المنتج؛ إنّه تحوّلٌ ثقافيٌّ وفلسفيٌّ، وتجسيدٌ له على أرض الواقع حاضر بالفعل.