علم النفس الاقتصادي: كيف تتفاعل العواطف مع القرارات المالية؟
حين تتداخل العاطفة مع المنطق، تتحوّل القرارات الماليّة إلى مزيجٍ من الخوف والطّمع والضّغوط الاجتماعيّة، فيعيد الإنسان تشكيل خياراته بعيداً عن الحسابات الباردة

برز علم النّفس الاقتصاديّ كحقلٍ معرفيٍّ حديثٍ جمع بين مبادئ علم النّفس والاقتصاد، ليكشف بوضوحٍ كيف تتشابك العواطف والانحيازات الذّهنيّة مع القرارات الماليّة اليوميّة والمعقّدة على حدٍّ سواءٍ. لذٰلك لم تصنع القرارات الاقتصاديّة دائماً بعقلانيّةٍ بحتةٍ كما افترضت النّظريّات الكلاسيكيّة، إذ أثبت الواقع أنّ العاطفة تؤثّر في الإنسان أكثر ممّا يفعل المنطق البارد. وهكذا امتزج الاقتصاد السّلوكيّ مع التّحليل النّفسيّ ليقدّم أدواتٍ عمليّةً لفهم اختيارات الأفراد في الاستهلاك والاستثمار والادّخار، وكيف تغيّر الانفعالات أسلوب التّعامل مع المخاطر والفرص.
مفهوم علم النفس الاقتصادي
وصف علم النّفس الاقتصاديّ بأنّه مجالٌ علميٌّ يفسّر بدقّةٍ كيفيّة تفاعل العوامل النّفسيّة مع السّلوك الاقتصاديّ. وقد اعتبرت العاطفة والمزاج والتّصوّرات المسبقة قوى خفيّةً توجّه القرار الماليّ، سواءٌ كان شراء سلعةٍ بسيطةٍ أو استثماراً طويل الأمد. ومن هنا ارتبط هٰذا المفهوم بما يسمّى أحياناً الاقتصاد النّفسيّ أو الاقتصاد السّلوكيّ، حيث يحلّل السّلوك في ضوء الانحيازات الذّهنيّة والضّغوط الاجتماعيّة الّتي تؤثّر على الفرد وتعيد تشكيل قراراته. [1]
كيف تتفاعل العواطف مع القرارات المالية؟
أظهر علم النّفس الاقتصاديّ أنّ العاطفة لا تقف على الهامش في عمليّة اتّخاذ القرارات، بل تتداخل باستمرارٍ مع الحسابات المنطقيّة لتوجّه السّلوك الماليّ بطرقٍ خفيّةٍ وقويّةٍ. ولتوضيح ذٰلك يمكن استعراض ستّ خطواتٍ مترابطةٍ:
يبدأ الإدراك بالمزاج العام
يشكّل المزاج العامّ الإطار الأوّليّ الّذي ينطلق منه الإنسان في تقييم الخيارات الماليّة. فإذا غلب التّفاؤل على حالته النّفسيّة، رأى العالم من حوله مليئاً بالفرص، فأصبح أكثر ميلاً إلى المغامرة والاستثمار. أمّا إذا سيّطر التّشاؤم أو القلق، فإنّه يتبنّى نظرةً حذرةً، ويصبح أكثر ميلاً إلى الادّخار أو تجنّب المخاطرة. ومن هنا يظهر أنّ الانطباعات الشّعوريّة الأولى تعمل كعدسةٍ ملوّنةٍ يرى الفرد من خلالها إمكانيّاته الماليّة.
يتدخل الخوف والطمع في القرارات
يعتبر الخوف والطّمع من أقوى الانفعالات الّتي تحرّك السّلوك الماليّ. فعندما يهيمن الخوف، يتسرّع الأفراد إلى بيع أصولهم بمجرّد ظهور إشارات أزمةٍ، ولو كانت مؤقّتةً، ممّا يؤدّي إلى خسائر لم تكن حتميّةً. في المقابل، حين يسود الطّمع، يندفع الفرد وراء الأرباح السّريعة فيغامر باستثماراتٍ خطرةٍ، متجاهلاً المؤشّرات العقلانيّة. وهكذا تصبح هذه المشاعر بمثابة قوّةٍ خفيّةٍ تدفع القرارات بعيداً عن التّوازن.
تبنى التوقعات على التجارب السابقة
لا يتعامل الفرد مع القرارات الماليّة كصفحةٍ بيضاء، بل يستحضر خبراته وتجارب الماضي. فالخبرة السّلبيّة السّابقة، مثل خسارة مبلغٍ كبيرٍ في استثمارٍ معيّنٍ، قد تجعله متردّداً في اقتناص فرصٍ مستقبليّةٍ واعدةٍ، خوفاً من تكرار الألم. بينما التّجربة الإيجابيّة، مثل تحقيق ربحٍ سريعٍ، قد تدفعه إلى الثّقة المفرطة والمغامرة غير المحسوبة. وهكذا يتّضح أنّ الماضي يرسم ملامح المستقبل، وأنّ القرارات الجديدة كثيراً ما تكون رهينةً لذاكرة التّجارب السّابقة.
تتأثر القرارات بالضغوط الاجتماعية
لا يعيش الفرد في عزلةٍ تامّةٍ، بل يتأثّر بما يقوله أصدقاؤه أو أسرته أو حتّى ما يتردّد في وسائل الإعلام. فقد يشتري سهماً معيّناً فقط لأنّ محيطه يفعل ذٰلك، أو يتجنّب خياراً استثماريّاً خوفاً من أن يختلف عن المجموعة. هذه الظّاهرة الّتي تعرف بـ "سلوك القطيع" تظهر كيف يمكن أن تصبح الرّغبة في الانتماء أقوى من الحاجة إلى التّفكير المنطقيّ المستقلّ. وبالتّالي، يتحوّل القرار الماليّ إلى استجابةٍ للبيئة الاجتماعيّة أكثر من كونه نتيجة تحليلٍ شخصيٍّ.
يعيد العقل تبرير القرارات العاطفية
غالباً ما تأتي القرارات بدافعٍ شعوريٍّ أوّليٍّ، ثمّ يتدخّل العقل ليبحث عن مبرّراتٍ منطقيّةٍ لاحقةٍ. فمثلاً قد يشتري الفرد منتجاً لأنّ الإعلان أثار فيه شعور الحماس، ثمّ يقنع نفسه أنّه اشترى لأسبابٍ عمليّةٍ مثل الجودة أو الحاجة. هذه العمليّة تعرف بـ "انحياز التّأكيد"، حيث يتجاهل الإنسان الأدلّة المخالفة لقراره، ويعزّز فقط ما يدعم اختياره السّابق. وهكذا يتحوّل العقل إلى أداةٍ دفاعيّةٍ بدلاً من أن يكون أداةً نقديّةً موضوعيّةً. [2]
أمثلة على القرارات المالية العاطفية
تتجلّى هٰذه الظّاهرة في ممارساتٍ يوميّةٍ ملموسةٍ، أبرزها:
- شراءٌ غير مخطّطٍ له تحت تأثير الإعلانات: إذ يدفع المستهلك إلى اقتناء منتجاتٍ لم يكن بحاجةٍ إليها بفعل مشاعر الفرح أو الخوف من الفوات.
- بيع الأصول أثناء الأزمات بدافع الخوف: حيث يسارع المستثمر إلى التّخلّص من الأسهم فور هبوط السّوق فيغلب الانفعال على المنطق.
- المبالغة في المخاطرة بسبب الطّمع: إذ يندفع الفرد نحو استثماراتٍ عالية المخاطر بحثاً عن مكاسب سريعةٍ متجاهلاً الحسابات العقلانيّة.
- المماطلة في الادّخار نتيجة انحياز الحاضر: حيث يفضّل الإنسان الإنفاق الفوريّ على حساب المستقبل.
- تقليد المحيط الاجتماعيّ بدافع الانتماء: إذ يقلّد الفرد قرارات أصدقائه أو أسرته ولو تعارضت مع قناعاته، لأنّ الرّغبة في الاندماج تغلب على التّقييم الموضوعيّ.
الخاتمة
أظهر علم النّفس الاقتصاديّ أنّ القرارات الماليّة لا تبنى على العقلانيّة الصّافية وحدها، بل تتداخل معها العواطف والانحيازات الذّهنيّة والضّغوط الاجتماعيّة الّتي تغيّر مسارات الاستثمار والاستهلاك على حدٍّ سواءٍ. وقد اتّضح أنّ الخوف والطّمع والتّفاؤل والتّشاؤم تتحكّم في السّلوك الاقتصاديّ أكثر ممّا يفعل المنطق البارد، وهو ما يفسّر كثيراً من القرارات غير المتوقّعة في الأسواق. ومع ذٰلك، برزت حلولٌ عمليّةٌ تسعى إلى الحدّ من هٰذه الانحرافات، أبرزها رفع الوعي النّفسيّ والماليّ، وتصميم سياساتٍ تراعي الطّبيعة البشريّة، وتطوير آليّاتٍ تحفيزيّةٍ تساعد الأفراد على ضبط انفعالاتهم.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين علم النفس الاقتصادي والاقتصاد السلوكي؟ يركّز علم النفس الاقتصادي على تفاعل العواطف والانحيازات الذّهنيّة مع القرارات الماليّة الفردية، بينما الاقتصاد السلوكي أشمل، إذ يدرس كيف تنعكس هذه السّلوكيّات على الأسواق والسّياسات العامّة.
- كيف يؤثر الخوف من الخسارة على سلوك المستثمرين؟ الخوف من الخسارة يدفع المستثمرين إلى بيع أصولهم بسرعة في الأزمات، حتى لو كان الانتظار أكثر جدوى، ما يؤدي إلى خسائر فعلية بدل تجنبها.
- كيف تستفيد الشركات من علم النفس الاقتصادي في التسويق؟ تستفيد الشّركات من مبادئ هذا العلم عبر صياغة إعلاناتٍ تستهدف المشاعر، مثل الخوف من الفوات أو الرّغبة في الانتماء، ما يعزّز قرارات الشّراء غير المخططة.