الرئيسية المال الاقتصاد السلوكي: كيف تؤثر النفس البشرية على القرارات الاقتصادية؟

الاقتصاد السلوكي: كيف تؤثر النفس البشرية على القرارات الاقتصادية؟

حين تتأثّر القرارات الاقتصاديّة بالعواطف والانحيازات والنّفس البشريّة، يصبح فهم السّلوك الواقعيّ للأفراد أمراً محوريّاً لتفسير ديناميكيّات الأسواق

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحوّلاتٍ فكريّةً كبرى أعادت تشكيل فهم العلاقة بين النّفس البشريّة والقرارات الاقتصاديّة؛ فلم يعد الإنسان ينظر إليه باعتباره كائناً عقلانياً يتّخذ قراراته بدقّةٍ رياضيّةٍ كما افترضت النّظريّات التّقليديّة، بل أظهر الواقع أنّ السّلوك البشريّ أكثر تعقيداً من ذٰلك بكثيرٍ. ومن هنا برز الاقتصاد السّلوكيّ كفرعٍ حديثٍ يجمع بين علم النّفس وعلم الاقتصاد، ليكشف كيف تتأثّر القرارات بالعواطف والانحيازات والدّوافع اللّاواعية. وبفضل هذا الدّمج، أصبح الاقتصاد السّلوكيّ، أو ما يسمّى أحياناً بالاقتصاد النّفسيّ أو الاقتصاد المعرفيّ، أداةً مركزيّةً لفهم ديناميكيّات السّوق وسلوك المستهلكين وصنّاع القرار على حدٍّ سواءٍ.

ما هو الاقتصاد السلوكي؟

يعرّف الاقتصاد السّلوكيّ بأنّه العلم الّذي يدرس تأثير الجوانب النّفسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة على القرارات الاقتصاديّة سواءً لدى الأفراد أو المؤسّسات. وعلى عكس الاقتصاد الكلاسيكيّ الّذي افترض أنّ الإنسان عقلانيٌّ يسعى دائماً لتعظيم المنفعة، أثبت الاقتصاد السّلوكيّ أنّ البشر كثيراً ما يتّخذون قراراتٍ غير منطقيّةٍ نتيجة مشاعرهم أو تحيّزاتهم أو بسبب البيئة المحيطة بهم. وقد أسهم علماءٌ بارزون مثل دانيال كانيمان وريتشارد ثالر في وضع الأسس النّظريّة لهذا المجال، من خلال نماذج وتجارب أوضحت بجلاءٍ كيف تؤثّر النّفس البشريّة في القرارات الماليّة والاستهلاكيّة. [1]

كيف تؤثر النفس البشرية على القرارات الاقتصادية

يكشف الاقتصاد السّلوكيّ أنّ القرارات الاقتصاديّة لا تنبع من حساباتٍ منطقيّةٍ بحتةٍ، بل تولّد تفاعلاً معقّداً بين المشاعر الفرديّة والانحيازات الشخصيّة والتّأثيرات الاجتماعيّة. فعلى سبيل المثال، قد يتردّد الفرد في الاستثمار رغم جدواه الاقتصاديّة لأنّه يخشى الخسارة، بينما قد يندفع آخر إلى الشّراء تحت تأثير الثّقة المفرطة أو العروض المغرية. وفي الأسواق الاستهلاكيّة، يظهر بوضوحٍ أثر طريقة عرض المعلومات؛ إذ يمكن لعبارةٍ مثل "خصمٌ محدود المدّة" أن تحفّز المستهلك على الشّراء حتّى وإن لم يكن بحاجةٍ فعليّةٍ للسّلعة. كما يتجلّى دور السّلوك الجماعيّ في الأزمات الاقتصاديّة، حيث يسحب النّاس مدّخراتهم بدافع القلق الجماعيّ، وهو سلوكٌ يزيد من تفاقم الأزمة بدلاً من احتوائها.

ولم تقتصر تطبيقات الاقتصاد السّلوكيّ على الأفراد، بل امتدّت إلى الحكومات الّتي طوّرت أدواتٍ ذكيّةً تعتمد على فهم النّفس البشريّة؛ فقد اعتمدت بعض الدّول نظام "الافتراضيّة الذّكيّة" في برامج الادّخار للتّقاعد، حيث يسجّل الموظّف تلقائيّاً في الخطّة مع منحه حريّة الانسحاب لاحقاً، ما أدّى إلى ارتفاع معدّلات الادّخار بشكلٍ ملحوظٍ. وبالمنطق نفسه، اعتمدت برامج التّبرّع بالأعضاء في بعض الدّول على التّسجيل التّلقائيّ مع خيار الانسحاب، فارتفعت أعداد المتبرّعين بشكلٍ كبيرٍ. وتدلّ هذه الأمثلة على أنّ فهم النّفس البشريّة لا يفسّر السّلوك الاقتصاديّ فحسب، بل يساعد أيضاً في تصميم سياساتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ أكثر فاعليّةً. [2]

لماذا يختلف الاقتصاد السلوكي عن الاقتصاد التقليدي؟

يختلف الاقتصاد السّلوكيّ عن الاقتصاد التّقليديّ لأنه تخطّى نموذج الإنسان الاقتصاديّ الّذي يتّخذ قراراته بحيادٍ تامٍّ ويقيّم جميع المعلومات المتاحة بدقّةٍ. فقد أثبتت الدّراسات أنّ الإنسان الواقعيّ تحكمه المخاوف والتّوقّعات والضّغوط الاجتماعيّة، ما يجعله أحياناً يتصرف على نحوٍ غير منطقيٍّ. فبعض المستثمرين يرفضون الدخول في صفقاتٍ مربحةٍ خوفاً من الخسارة، في حين يندفع آخرون إلى شراء سلعٍ لا يحتاجونها فقط لأنّها معروضةٌ بخصمٍ مغرٍ. حيث يوضّح هذا التّباين لماذا تبدو الأسواق في كثيرٍ من الأحيان غير عقلانيّةٍ، كما يفسّر فشل بعض السياسات الاقتصاديّة عندما تتجاهل العوامل النّفسيّة والاجتماعيّة المؤثّرة في سلوك النّاس.

تحديات تواجه الاقتصاد السلوكي

رغم النّجاحات الكبيرة الّتي حقّقها الاقتصاد السّلوكيّ في تفسير السّلوك الاقتصاديّ وتطبيقاته في مجالاتٍ شتّى، إلّا أنّ الطّريق أمامه ليس خالياً من العقبات. فالتّحدّي الأوّل يرتبط بالجانب العلميّ؛ إذ يرى بعض النّقّاد أنّ الاعتماد المفرط على علم النّفس قد يقود إلى تعميماتٍ لا تصلح لجميع البيئات والثّقافات. فما يفسّر سلوك المستهلك في مجتمعٍ معيّنٍ قد لا ينجح في تفسيره في مجتمعٍ آخر يختلف في عاداته وقيمه.

أمّا التّحدّي الثّاني فيتعلّق بالجانب الأخلاقيّ، حيث يثير استخدام الحكومات أو الشّركات للأدوات السّلوكيّة مخاوف تتعلّق بحرّيّة الاختيار. فحين تصمّم السّياسات أو الحملات التّسويقيّة بالاعتماد على المحفّزات النّفسيّة، قد يجد الأفراد أنفسهم يتّخذون قراراتٍ لم تكن نابعةً من إرادتهم الواعية بالكامل، ممّا يفتح باباً لنقاشٍ واسعٍ حول حدود التّأثير المقبول.

ويضاف إلى ذٰلك تحدٍّ ثالثٌ يتمثّل في صعوبة القياس والتّنبّؤ، إذ إنّ العوامل النّفسيّة بطبيعتها متغيّرةٌ وغير ثابتةٍ، الأمر الّذي يجعل بناء نماذج دقيقةٍ للسّلوك البشريّ مهمّةً شديدة التّعقيد. ولهٰذا تواجه الحكومات والشّركات معاً تحدّي الموازنة بين الاستفادة من أدوات الاقتصاد السّلوكيّ وبين الحفاظ على الشّفافيّة والعدالة في التّطبيق. ومن هنا تبرز الحاجة إلى ضوابط ومعايير واضحةٍ تضمن أن يستخدم الاقتصاد السّلوكيّ كأداةٍ لتعزيز القرارات الرّشيدة، لا كوسيلةٍ للتّحكّم في خيارات الأفراد.

الخاتمة

غيّر الاقتصاد السّلوكيّ بصورةٍ جذريّةٍ الطّريقة الّتي ننظر بها إلى العلاقة بين النّفس البشريّة والقرارات الاقتصاديّة؛ فبدلاً من التّعامل مع الإنسان كآلةٍ حسابيّةٍ، كشف هذا العلم أنّه كائنٌ معقّدٌ تحرّكه العواطف والانحيازات بقدر ما تحرّكه المصالح والمنطق. ومن خلال هذا الفهم يمكن للأفراد تحسين قراراتهم الماليّة، كما تستطيع الشّركات صياغة استراتيجيّاتٍ أكثر نجاحاً، وتتمكّن الحكومات من تصميم سياساتٍ عامّةٍ أكثر فاعليّةً. 

  • الأسئلة الشائعة

  1. هل يمكن استخدام الاقتصاد السلوكي في الاستثمار الشخصي؟
    نعم، يمكن للفرد أن يستخدم مبادئ الاقتصاد السلوكي لتجنّب الانحيازات مثل الخوف من الخسارة أو الثّقة المفرطة، ممّا يساعده على اتّخاذ قراراتٍ استثماريّةٍ أكثر توازناً.
  2. ما مستقبل الاقتصاد السلوكي في ظل الذكاء الاصطناعي؟
    مع تطور الذكاء الاصطناعي، سيصبح الاقتصاد السلوكي أكثر دقّةً، حيث ستدمج البيانات الضّخمة مع فهم السّلوك البشريّ لتوقّع القرارات وصياغة استراتيجيّاتٍ اقتصاديّةٍ أكثر فاعليّةً.
تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 4 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: