إستونيا: الدولة الرقمية الأكثر تقدماً تُساعـد دول الخليج على تحويل الطموحات إلى واقع ملموس
من قلب الثّورة الرّقميّة العالميّة، تعرض دولٌ مبتكرةٌ رؤىً عمليّةً لبناء حكوماتٍ أكثر كفاءةً واقتصاداتٍ أكثر ذكاءً عبر الثّقة، والأمان، والتّكامل التّقنيّ

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
مع تسارع المسيرة الرّقميّة في دول الخليج، قلّةٌ من الدّول تفهم آليّة تحويل الرّؤى إلى إنجازاتٍ كما تفعل إستونيا؛ فبعد أن رسّخت مكانتها كإحدى أكثر المجتمعات الرّقميّة تقدّماً في العالم، تأتي إستونيا إلى معرض جيتكس 2025 ليس لمجرّد استعراض منجزاتها، بل كشريكٍ موثوقٍ أصبح جزءاً من منظومة الابتكار في المنطقة.
بالنّسبة لإستونيا، لم تكن الرّقمنة يوماً مشروعاً عابراً، بل منظومة تشغيليّة متكاملة تقوم عليها الدّولة والمجتمع؛ فقبل عقدين من الزّمن، قرّرت هذه الدّولة الأوّروبيّة أنّ الكفاءة والشّفافيّة والثّقة يجب أن تُشكّل العمود الفقريّ الّذي تُبنى عليه الحوكمة. وهكذا، حصل كلّ مواطنٍ على هويّةٍ رقميّةٍ آمنةٍ؛ وتم تطوير جميع الخدمات لتقديمها عبر الإنترنت؛ وبدأت البيانات تتدفّق بانسيابيّةٍ عبر المؤسّسات من خلال منصّاتٍ مترابطةٍ وقابلةٍ للتّشغيل البينيّ مثل X-Road. والنّتيجة: دولةٌ رقميّةٌ بالكامل تُقدّم 100% من خدماتها العامّة إلكترونيّاً، وواحدة من أكثر البيئات تنافسيّةً للشّركات النّاشئة في أوروبا.
ويتردّد صدى هذه التّجربة بعمقٍ في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة وسائر دول مجلس التّعاون الخليجيّ، حيث تقود الحكومات تحوّلاً منهجيّاً شاملاً -من الخدمات الرّقميّة إلى أنظمة الحوسبة السّحابيّة السّياديّة، والحوكمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والاقتصادات ذات البيانات الآمنة. إنّ القفزات السّريعة الّتي حقّقتها دول الخليج على المستويين الاجتماعيّ والاقتصاديّ، والّتي تدعمها أجندات عملٍ وطنيّةٌ مثل "نحن الإمارات 2031" و "رؤية السعودية 2030"، تعكس بوضوحٍ المسار نفسه الّذي سلكته إستونيا. وتفسّر هذه الرّؤية المشتركة سبب استمرار توسّع حضور إستونيا في المنطقة، على الرّغم من الاختلافات الجغرافيّة وحجم قطّاعات الأعمال.
وتقول معالي ليزا لي باكوستا، وزيرة العدل والشّؤون الرّقميّة في إستونيا، والّتي تترأس وفد بلادها إلى معرض جيتكس 2025: "وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة أهدافاً طموحةً لريادة الأعمال، مدعومةً بسجلٍّ حافلٍ من تحويل الرّؤية إلى إنجازاتٍ حقيقيّةٍ. وتُظهر تجربة إستونيا أنّ النّجاح لا يأتي من التّكنولوجيا وحدها، بل من الثّقة والسّياسات والكفاءة. هذه دروسٌ يمكن تطبيقها في أيّ مكانٍ، ونرى في جيتكس منصّةً للحوار المفتوح حول كيفيّة جعل التّحوّل الرّقميّ واقعاً ملموساً".
بناء أسس الثقة
تستعرض سبع شركاتٍ رائدةٍ في جناح إستونيا كيف يُمكن لخبرة دولةٍ رقميّةٍ أن تدعم المرحلة القادمة من النّموّ في منطقة الخليج:
- "نورتال" (Nortal): الشّركة الّتي صمّمت معظم البنية التّحتيّة للحكومة الإلكترونيّة في إستونيا، وهي تقود مشاريع رقميّةً كبرى في جميع أنحاء دول الخليج منذ عام 2017، لمساعدة المؤسّسات العامّة على الانتقال من مجرّد تقديم الخدمات إلى تصميمها وفق احتياجات المواطنين.
- "سيب إكسر تكنولوجيز" (CybExer Technologies): شريكٌ مُعترف به لحلف الناتو، تختصّ بتطوير منصّات تدريبٍ على الدّفاع السّيبرانّي على مستوى الدّول. ومع بدء الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل ملامح أنظمة الدّفاع والهجوم السّيبرانيّ، تُمكّن "سيب إكسر" المؤسّسات من محاكاة التّهديدات المستقبليّة، وتعزيز قدرتها على الصّمود في مواجهة تلك التّحدّيات.
- "فوكس سيك" (FoxSec): تُـقدّم أنظمة أمنٍ للمباني الذّكيّة وإنترنت الأشياء لحماية البنية التّحتيّة الحيويّة، وهي أولويّةٌ مُتزايدةٌ مع تحوّل المدن إلى منظوماتٍ متّصلةٍ بالكامل.
- "سيليكت زيرو" (SelectZero): تعتمد الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة العمليّات في القطّاع الحكوميّ والشّركات، مُوضّحةً كيف يُمكن للأتمتة أن تعزّز الكفاءة دون التّأثير على الشّفافيّة.
- "بامبو جروب" (Bamboo Group): توفّر حلول الاتّصالات الآمنة والتّنقّل المتّصل لدعم أجندات المدن الذّكيّة وتعزيز الخدمات العامّة.
- "أمنيكوم" (Omnicomm): تُـقدّم أدوات القياس عن بُعد وإدارة الأساطيل لمساعدة شركات النّقل والخدمات اللّوجستيّة على تحسين الأداء والاستدامة، وهما عاملان رئيسيّان في مسيرة التّنويع الاقتصاديّ بالمنطقة.
- "دكساتل" (Dexatel): تضمن أمان البيانات الحسّاسة من خلال منصّات اتّصالٍ مُشفّرةٍ للمستخدمين في قطّاعات الأعمال والجهات الحكوميّة.
وتعكس كل من هذه الشّركات رحلة التّطوّر الرّقميّ لإستونيا، والّتي تركّز على الجوانب العمليّة والأمان، وبما يواكب احتياجات الأفراد. وبينما رسّخت بعض الشّركات الإستونيّة حضورها في المنطقة منذ أعوامٍ، دخلت شركاتٌ أخرى السّوق مؤخّراً، مدفوعةً بزخم استثمار دول الخليج في البنى التّحتيّة الرّقميّة، من الحوكمة الإلكترونيّة إلى تقنيات الدّفاع السّيبرانيّ.
ويوضّح ياكو يالكانين، نائب الرّئيس للتّسويق في شركة CybExer الّتي تشهد اهتماماً متزايداً من المنطقة بحلولها للدّفاع السّيبرانيّ: "نلمس تحوّلاً واضحاً في مختلف أنحاء الخليج؛ فالحكومات تستعدّ لمواجهة عصر الذكاء الاصطناعي الهجوميّ، من خلال تطوير نطاقاتٍ سيبرانيّةٍ تُتيح لفرق العمل المختصّة إجراء عمليّات الاختبار، والتّدريب، والتّكيف في بيئاتٍ واقعيّةٍ. المسألة تتجاوز الوعي إلى بناء القدرات".
وتُجسّد هذه الشّركات مجتمعةً كيف يمكن لمبادئ إستونيا الرّقميّة - التّوافقيّة، والأمان، وثقة المستخدم – أن تتخطّى الحدود الجغرافيّة، إذ تُلبّي حلولها المتنوّعة أوّلويّات المنطقة الأساسيّة: حكومة فعّالة، وبنية تحتيّة مرنة، وتنقّل ذكيّ، وسيادة البيانات.
طموح مشترك لمجتمعات أكثر ذكاءً
العلاقة بين إستونيا ودول المنطقة أعمق من كونها تجاريّةً؛ فالشركات الإستونية تتعاون بالفعل مع جهاتٍ حكوميّةٍ، ومشغّلي البنية التّحتيّة الحيويّة في كلٍّ من الإمارات والسعودية وسلطنة عُمان. والهدف الآن هو الانتقال من المشاريع التّجريبيّة إلى التّطوير المشترك، من أجل بناء أدوات ذكاء اصطناعي سياديّةٍ، ومنصّات بياناتٍ آمنةٍ، وأنظمة تنقّلٍ مستدامةٍ.
وتضيف معالي باكوستا: "جيتكس هو ملتقى السّياسات وريادة الأعمال والتّكنولوجيا. ومشاركتنا تعبّر عن قناعتنا بأنّ التّحوّل ينجح عندما يتشارك الشّركاء الخبرة والمسؤوليّة معاً. قد تكون إستونيا صغيرة الحجم، لكنّنا تعلّمنا كيفيّة جعل الرّقمنة فعّالةً على المستوى الوطنيّ- دروسٌ من شأنها أن تدعم دول الخليج في صياغة مرحلتها التّالية من النّموّ".
في جيتكس 2025، تُرسّخ إستونيا رسالةً واضحةً: فقط الدّول الّتي تبني الثّقة من خلال الرّقمنة ستكون قادرةً على المنافسة في المستقبل.