من ذاكرة الكتب إلى دروس الحياة: سرّ الذكاء الحقيقي
حين يتحوّل الذكاء إلى فنٍّ في ربط التّجارب وصناعة المعاني، يصبح العقل قادراً على تحويل المعرفة والتّجارب إلى إبداعٍ يفتح آفاقاً أوسع للفهم والابتكار

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
تُجمع الدّراسات على أنّ أكثر النّاس ذكاءً هم أولئك الّّذين يميلون إلى قضاء أوقاتهم في عزلةٍ اختياريّةٍ، وكأنّ الوحدة بالنّسبة إليهم فضاءٌ خصبٌ للتّأمل والتّفكير. وتُظهر الأبحاث أيضاً أنّ ازدياد الذّّكاء غالباً ما يقترن بقناعةٍ متعاظمةٍ بامتلاك قدرةٍ فريدةٍ على تمييز الأنماط والتّنبؤ بالنّتائج، غير أنّ الواقع العلميّ يكشف أنّ هذه الثّقة قد تكون في غير محلّها، في انعكاسٍ صريحٍ لما يُعرف بـ "تأثير دانينغ-كروغر".
وفي خضمّ هذا النّقاش، يطرح جيف بيزوس معياراً آخر لقياس الذّكاء، فيرى أنّ الاستعداد لتغيير الرّأي عند ظهور الحقائق الجديدة هو المؤشّر الأصدق على الفطنة العالية. بينما قدّم ستيف جوبز، مؤسّس "آبل" (Apple)، منظوراً مختلفاً، إذ اعتبر أنّ الذّكاء يتجاوز حدود الذّاكرة إلى قدرةٍ أعمق على "التّكبير" والنّظر من الأعلى: كما لو كنت في الطّابق الثّمانين من برجٍ شاهقٍ يطلّ على مدينةٍ متراميةٍ، فيما ينشغل الآخرون بقراءة خرائط ضيّقةٍ تحاول الرّبط بين نقطتين. ومن هذا الأفق الرّحب، تنكشف لك الصّورة كاملةً، وتتراءى الرّوابط بوضوح، فتبدو لك الوشائج الّتي لا يراها غيرك وكأنّها بديهيّاتٌ. لذلك، كان جوبز يرى الذّكاء في القدرة على وصل النّقاط الّتي يعجز الآخرون عن ربطها، وعلى بناء علاقاتٍ غير مألوفةٍ تُفضي إلى حلولٍ مبتكرةٍ.
وعند علماء النّفس، ينقسم الذّكاء إلى صورٍ متعدّدةٍ، لكن يمكن حصره هنا في بُعدين رئيسيين: "الذّكاء المتبلور" الّذي يقوم على تراكم المعرفة -حقائق وأرقام ومعلومات، أي ما يُسمّى بالمعرفة الأكاديمية أو "ذكاء الكتب"- و"الذّكاء السائل" الّذي يتمثّل في القدرة على استيعاب معارف جديدةٍ واستخدامها في حلّ المشكلات، أو تعلّم مهاراتٍ، أو إعادة صياغة خبراتٍ سابقةٍ في ضوء ما استجدّ من معلوماتٍ، وهو ما يشبه "ذكاء الشّارع" أو خبرة الواقع.
ومع أنّ كثيرين يملكون قدراً وافراً من الذّكاء المتبلور أو من الذّكاء السّائل، إلّا أنّ الجمع بين الاثنين يُعدّ أندر، لأنّ عمليّة تراكم المعرفة تختلف جوهريّاً عن عمليّة صقل القدرة على التّعلّم المستمرّ. فبينما يمكن للغوص في موضوعٍ محدّدٍ أن يوسّع أفقك المعرفيّ، فإنّ تنمية الذّكاء السّائل تقتضي التّجدّد الدّائم، وخوض تجارب متنوّعةٍ المرة تلو الأخرى.
فالعقل، عند تعلّمه شيئاً جديداً، يشهد زيادة في كثافة قشرته الدّماغيّة ونشاطها العصبيّ، في دلالةٍ على تكوين وصلاتٍ عصبيّةٍ جديدةٍ واكتساب خبرةٍ متناميةٍ. غير أنّ هذا النّشاط يعود سريعاً إلى مستواه الطّبيعي بعد أسابيع، لأنّ الدّماغ يكون قد استوعب المهمة وأتقنها. وهنا تكمن المفارقة: فالمعرفة تزداد، لكن الجهد المطلوب يقلّ. ولذلك، فإنّ السّبيل الوحيد للحفاظ على الذّكاء السّائل وتنميته هو الانخراط المستمرّ في تجارب جديدةٍ، والتّعلّم المتجدّد، والتّحدّي الدّائم للنّفس في العمل والبيت، وفي كلّ تفاصيل الحياة.
ومن هنا، يتّضح أنّ ازدياد التّجارب يوسّع من مخزون الرّوابط الذّهنيّة الّتي يمكن استدعاؤها عند الحاجة. وهذا ما يُسمّى بالتّعلّم التّرابطي، أي القدرة على ربط ما هو جديدٌ بما تعرفه أصلاً، واستكشاف علاقاتٍ غير متوقّعةٍ بين عناصر تبدو متباعدةً.
وعند هذه النّقطة يتجلّى جوهر الابتكار؛ فقد استلهم ستيف جوبز مثلاً تجربةً عابرةً في صفّ للخطوط الجميلة بالجامعة ليبتكر أنماط الطّباعة التي ميّزت "آبل" منذ بدايتها. وكيفن بلانك استثمر سنوات لعبه في ملاعب كرة القدم لتطوير ملابس "أندر آرمور" المقاومة للعرق. أمّا سارة بلايكلي فقد أسّست إمبراطوريتها من فكرةٍ بسيطة وإرادةٍ لا تلين لتعلّم كل ما جهلته: من صياغة براءات الاختراع إلى تطوير النّماذج، ومن تصميم التّغليف إلى إقناع الموزّعين بالمخاطرة معها.
إذن، تضيف كلّ تجربةٍ لبنةً جديدةً تُبنى عليها حلولٌ مبتكرةٌ. فكلّما تعلّمت أكثر، ازدادت قدرتك على وصل المعرفة القديمة بالجديدة، وعلى إدراك الفروق الدّقيقة وتخزينها بيسرٍ في ذاكرتك. وهذا بدوره يُسهّل عمليّة التّعلّم المقبلة ويُسرّع وتيرتها، ويضاعف قدرتك على الاحتفاظ بما اكتسبته.
إنّها دورةٌ تراكميّةٌ تُفضي إلى عقلٍ أكثر مرونةً وقدرةً، وإلى ذكاءٍ يتنامى باستمرارٍ. فكلّ تعلمٍ جديدٍ يفتح الباب أمام تعلّمٍ آخر، وكل تجربةٍ تُمهّد لتجربةٍ أعمق، حتّى يغدو الذّكاء في جوهره شبكةً متّسعًة من الرّوابط والخبرات، قادرةً على ابتكار حلولٍ غير مسبوقةٍ، وإعادة صياغة الواقع بعيونٍٍ جديدةٍ.