من القمّة إلى المكتب: ما الذي تعلّمته نيللي عطار عن القيادة؟
بين صرامة الجبال ودقّة القرار، تعلّمت نيللي عطار أنّ المجازفة ليست اندفاعاً أعمى، بل فنٌّ متقنٌ في موازنة الشّجاعة بالحكمة، حيث يُصاغ النّجاح من خطواتٍ محسوبةٍ نحو المجهول
في عالم الرّياضات الخطيرة، المخاطر عاليةٌ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنىً. كمتسلّقة جبالٍ تجاوزت أكثر من 40 قمةً، وكوني أوّل لبنانيّةٍ تتوّج نفسها بتسلّق أعلى 5 جبالٍ في العالم، تعلّمتُ أن المخاطرة ليست مجرّد خطوةٍ ضمن المسار، بل هي جوهر المسار نفسه.
من كثبان الرّمل إلى القمم الشّاهقة، صاغ التّسلّق أسلوبي في القيادة واتّخاذ القرارات ونظرتي للحياة؛ فقد اكتشفت أنّ هذه المبادئ ليست حكراً على الجبال، بل إنّها أساس النّجاح في عالم الأعمال. لذلك، إليك الدّروس الّتي علّمتني إياها الجبال عن مواجهة المجهول، وكيف يمكن أن تُلهم مسارك المهنيّ وتحوّل التّحديات إلى إنجازاتٍ حقيقيّةٍ.
الجوهر في العمل الجماعي
قد يبدو التّسلّق من بعيد مغامرةً فرديّةً، لكن الحقيقة أنّ لا أحد يصل إلى القمّة وحده. كل ارتفاعٍ، كل قمّةٍ، كلّ خطوةٍ نحو الأعلى هي نجاحٌ جماعيٌّ تتشارك فيه جميع الأرواح المشاركة في الرّحلة.
أتذكّر أولى رحلاتي الكبرى بوضوحٍ، حين كنت غارقةً في فكرة أن الإنجاز يتحقّق حين أقوم وحدي بـ «الأشياء الصّحيحة»، وأنّ الاعتماد على نفسي فقط هو الطّريق إلى القمة. حملت هذا الاعتقاد معي وأنا أتهيّأ للصّعود، لكن الواقع أخذ يبرهن لي عكسه، تفصيلةً بعد أخرى؛ فمن تجهيز المعدّات إلى رسم خطّة الأيام، ومن شقّ الطّريق على المرتفعات الشّاهقة إلى طهو الوجبات ونصب الخيام، أدركت أنّ كلّ حركةٍ وكلّ اختيارٍ كان نتاجاً لجهدٍ مشتركٍ. وشيئاً فشيئاً زال وهم الفرديّة، وتجلّت الحقيقة أمامي: لم يكن هناك عملٌ منفردٌ، بل خطواتٌ متشابكةٌ، وأصواتٌ متداخلةٌ، وصدى واحدٌ يردّد أن الإنجاز لا يولد إلّا من التّعاون.
في الجبال، لا ينفرد أحدٌ بحمل المخاطر ولا بقطف النّجاحات؛ فالتّجربة كلها -بما فيها من إخفاقاتٍ وانتصاراتٍ- يتقاسمها الفريق من قمم 4000 متر إلى عمالقة 8000 آلاف. هناك، يصبح الحبل المشدود بيننا أكثر من أداة أمانٍ، إنّه شريان حياةٍ واحدٍ، يجعل أيّ خطوةٍ خاطئةٍ تهديداً للجميع. وما يصون الفريق حقاً ليس قوّة أفراده فرادى، بل قدرته على ضبط إيقاعٍ واحدٍ، وعلى تحويل تباين القدرات إلى انسجامٍ يُبقي الجميع في مسارٍ واحدٍ نحو القمّة. فالحبل الّذي يحمينا من السّقوط في الشّقوق العميقة والهاويات السّحيقة يتجاوز دوره العمليّ ليغدو رمزاً للتّضامن والثّقة، وصورةً للقوّة الجماعيّة الّتي وحدها تصنع النّجاة والنّجاح.
وكما يعتمد المتسلّق على فريقه وعلى الحبل الّذي يربطه بهم ليعبر الطّريق بأمانٍ ويبلغ القمّة، يعتمد كلّ مشروعٍٍ ناجحٍٍ في عالم الأعمال على فريقٍ متماسكٍ، يشدّه تواصلٌ مفتوحُ، وثقةُ متبادلةُ، وتنسيقُ دقيقُ بين الأدوار. وفي الجبال كما في المؤسّسات، لا يتحقّق التّقدّم إلّا حين يتوازن التّنوّع بين الأفراد، فيتحوّل إلى قوّةٍ دافعةٍ تحرّك المجموعة بأكملها إلى الأمام.
فالإنجاز، حتى في المساعي الّتي تُظنّ فرديّةً، لا يولد من عزيمةٍ منعزلةٍ، بل من تيّارٍ جماعيٍّ يرفدها ويمنحها الحياة. ويتجلّى ذلك في الجبال بشكل واضحٍ؛ فمهارة المتسلّق وحدها لا تكفي أمام الهاويات، وإنّما الحبل المشدود بينه وبين رفاقه هو الّذي يصون الخطوات ويحوّل الخطر إلى أمان. وهكذا في عالم الأعمال؛ فالتّناغم بين الأدوار، والثّقة الّتي تربط القلوب والعقول، يقوم مقام ذلك الحبل الخفيّ، يحمي الأفكار من السّقوط، ويدفع المشروع بأسره إلى القمّة بثقةٍ ورسوخٍ.
لتحقيق نتائج كبيرةٍ، خاطر بخطواتٍ كبيرةٍ محسوبةٍ
تحمل القمم في طيّاتها مخاطرةً لا تنفصل عن الرّحلة؛ فكلّما ارتفع المرء ازداد الغموض، وتعاظمت صلابة الجبل وخطورته. لذلك لا يتخلّى المتسلّق عن الحذر، بل يقرأ الطّريق بعينٍ فاحصةٍ، ويُعِدّ لكلّ خطوةٍ كأنّ حياته معلّقةٌ بخيطٍ دقيقٍ، ثم يمضي قُدماً بعزمٍ ويقظةٍ لا تهدأ. هناك، حيث يصبح كلّ موطئ قدمٍ امتحاناً للإرادة وصفاء الذّهن، نردّد القاعدة الّتي ترافقنا دائماً: "نرجو الأفضل، ونستعدّ للأسوأ"
تظلّ K2 محفورةً في ذاكرتي كأحد أخطر جبال العالم؛ فحين قرّرت خوض تحدّيها، لم يتوقّف من حولي عن تذكيري بنسبتها المروّعة للوفيّات، الّتي تصل إلى 25%. ومع ذلك، ظلّ السّؤال يلاحقني: إذا تجاوز أكثر من 300 شخصٍ هذه القمّة قبلي، فلماذا لا أستطيع؟
تدرّبتُ بلا كللٍ، راقبتُ كلّ خطوةٍ، واحتضنت الخوف بدل الفرار منه، لأنّه وحده من أبقاني يقظةً وحادّة الذّهن؛ فلم تظهر قدرتي على الوصول إلّا بعد أن خضتُ التّجربة كاملةً، متسلّحةً بالثًقة لمواجهة كلّ مخاطرةٍ مهما بدت شاسعةً، مدفوعةً بالعزم والانضباط الّذي يفرضه الطّريق نفسه.
يحتاج رجال الأعمال إلى نفس العقليّة الّتي تدفع المتسلّق لمواجهة أعلى القمم بعزمٍ وذكاءٍ، حيث يصبح اتّخاذ القرار والمجازفة جزءاً لا يتجزّأ من الطّريق نحو النّجاح. البقاء في منطقة الأمان قد يمنح شعوراً زائفاً بالطّمأنينة، لكنّه سريعاً ما يحوّل المسار إلى ركودٍ ويؤخّر تحقيق أي أثرٍ ملموسٍ. بالمقابل، تكسر المخاطرة المحسوبة الجمود: استكشاف مجالاتٍ جديدةٍ، اختبار أساليب مبتكرةٍ، صقل المهارات، والسّعي نحو أهدافٍ أكبر وأكثر جرأةً، كلّها تفتح أبواباً لم تكن لتُرى من قبل، وتحوّل كلّ خطوةٍ إلى تقدّمٍ محسوسٍ، تماماً كما يصعد المتسلّق خطوةً تلو الأخرى نحو قمّةٍ شاهقةٍ، متجاوزاً الخطر بعزم وصفاء ذهنٍ لا يلين.
لا وجود لاستعدادٍ كاملٍ أو توقيتٍ مثاليٍّ؛ ففي لحظةٍ ما يصبح البدء في الصّعود الخيار الوحيد. ومع أنّ الانطلاق بحدّ ذاته خطوةٌ شجاعةٌ، إلّا أنّ الطّريق لا يَعِد دائماً بالوصول؛ فقد وجدت نفسي أكثر من مرّةٍ مضطرّةً للتّراجع، أحياناً على بعد مئات الأمتار فقط من القمة. عندها اكتشفت أنّ الجبال الّتي بدت على الورق سهلة المنال، تكشف في الواقع عن قسوةٍ أشدّ وتحدّياتٍ لم تخطر في الحسبان. ولكن كلّ تراجع ٍلم يكن نهايةً، بل درساً يوجّهني إلى تعديلٍ استراتيجيتيٍّ، ويمنحني قوّةً للاستمرار. وهكذا تحوّلت المحاولات ذاتها إلى جزءٍ من الرّحلة، وإلى خطواتٍ أساسيّةٍ على الطّريق نحو الهدف.
ما أدركته مع مرور الوقت هو أنّ ما اعتدت تسميته "إخفاقاتٍ" لم يكن فشلاً حقيقيّاً، بل تدريباً خفيّاً على مهارةٍ أعمق: المرونة. ففي مواجهة المجهول، ومع كلّ شعورٍ بالخوف أو لحظة شكٍ وتردّدٍ، كنت أتعلّم أنّ أختار الحركة والعمل بدل الجمود. ومع كلّ خطوةٍ كهذه، أخذت أبني عضلةً لا تُرى بالعين، لكنّها وحدها القادرة على صنع الفارق الأكبر في الأداء والنّتائج.
في عالم القيادة، لا تكمن القوّة في الحماسة الأولى، بل في المرونة الّتي تبقي القائد واقفاً حين تخبو الحماسة، وتدفعه للنّهوض بعد تعثّر إطلاق منتجٍ، أو فقدان تمويلٍ، أو حتّى رحيل ركنٍ أساسيٍّ من الفريق. فالمسألة ليست صلابةً عمياء، بل وعي متى ينبغي التّوقّف، ومتى يجب تعديل المسار، ومتى يحين وقت الدّفع بكلّ ما تبقّى من عزيمةٍ. هذه ليست علامة ضعفٍ، بل جوهر الاستراتيجيّة الّتي تُبقي القائد في السّاحة، يقظاً للفرصة القادمة، محصّناً بخبرة كلّ فشلٍ وكلّ نجاحٍ مرّ به.
شاهد أيضاً: 7 نصائح للتعامل مع أزمة العلاقات العامة في عملك
القمم العظيمة تُدرك خطوة بخطوة
تُحرز القمم الكبرى بخطواتٍ صغيرةٍ متتابعةٍ، لا بقفزاتٍ واسعةٍ. كلّ حركةٍ تُقاس بدقّةٍ، وكلّ موطئ قدمٍ أو يدٍ يُختار بعنايةٍ، كأنّ الحياة نفسها معلّقةٌ عليه. فلا مجال لاحتواء الطّريق كلّه دفعةً واحدةً؛ التّركيز يجب أن يظل منصبّاً على الخطوة التّالية، على موضع اليد القادم، على الثّبات الّذي يضمن الأمان. أمّا الانشغال بالقمّة البعيدة، أو حتّى بمجرّد نهاية اليوم، فلا يزيد سوى إنهاك الرّوح وتثبيط العزيمة، خصوصاً حين يمتدّ الصعود لساعاتٍ طويلةٍ وسط ظروفٍ قاسيةٍ. وعلى ارتفاعات 8000 متر، قد تستغرق الرّحلة أسابيع كاملةً؛ فتخيّل لو ظلّ ذهنك مشدوداً إلى القمّة منذ اليوم الأول، لن يلبث أن يستنزفك قبل أن تخطو بعيداً عن المعسكر.
لهذا أردّد لنفسي في كلّ صعودٍ: "كلّ يومٍ هو يوم القمّة". أستقبله كما هو، وأتهيّأ له كأنّه أوّل يومٍ على الجبل وآخره معاً. أفكّر بما سأأكله، وكيف سأرتدي، وما المعدّات والعقليّة الّتي أحتاجها لإنجاز المهمّة. وحين يبدأ المسير، ينحصر الوجود في إيقاعٍ واحدٍ: خطوةٌ تتبعها خطوةٌ، ونَفَس يعقب نَفَساً. في تلك اللّحظات يتجلّى معنى الحضور الكامل؛ العالم من حولك يصمت، ويبقى داخلك شعورٌ صافٍ بالقوّة والسّيطرة، كأنّك عدت إلى موطنك الحقّ، إلى عنصر قوّتك الأصيل.
لا يختلف الأمر في عالم الأعمال عن تسلّق القمم؛ فالرّؤية الكبرى هي القمّة المنشودة، هي النّجم القطبيّ الّذي يهدي المسير. غير أنّ الطّريق إليها لا يُختصر بقفزةٍ واحدةٍ، بل يُشَيَّد بخطواتٍ متتابعةٍ، وبقراراتٍ صغيرةٍ تتراكم يوماً بعد يومٍ. والانشغال بخطّ النّهاية لا يجلب سوى العجز والجمود، بينما التّركيز على المحطّة التّالية، على القرار الآنيّ، على الخطوة الّتي تقرّبك أكثر، هو ما يفتح الدّرب ويقودك بثباتٍ نحو القمّة.
والجبال أصدق استعارةٍ لهذا المسار؛ فالنّجاح فيها لا يولد صدفةً، بل ثمرة إعدادٍ متينٍ، وعملٍ جماعيٍّ متناغمٍ، ومثابرةٍ لا تكلّ، وتركيزٍ لا يتزعزع، وجرأةٍ تعرف كيف تزن المخاطر. وفي ميدان الأعمال، كما في أعالي القمم، لا وجود لليقين، غير أنّ هناك مسالك مجرَّبةً تمهّد الطّريق للإنجاز. ابنِ الفريق الّذي تعتمد عليه، وامنحه ثقتك. وتقبّل العثرات، وحوّل كلّ انحرافٍ أو رفضٍ إلى درسٍ جديدٍ. وقسّم رؤيتك الكبرى إلى أهدافٍ قابلةٍ للتّنفيذ. والأهمّ من ذلك كلّه: لا تنتظر أن يزول الخوف؛ سرْ قُدماً وهو يرافقك، فبه تظلّ يقظاً، وبه تُختبر شجاعتك.
فالخوف رفيقٌ لا فكاك منه؛ سواء عبرتَ سُلّماً هشّاً على حافة جبلٍ شاهقٍ بارتفاع 8000 متر، أو عرضت فكرةً جريئةً في مجلس إدارة. غير أنّه في جوهره نعمة؛ إذ يُبقيك يقظاً، مشدود الحسّ، حاضر الذّهن. أمّا الخطر الحقيقيّ فليس في أن تخاف، بل في أن تركن إلى السّكون. وأعظم المخاطر على الإطلاق أن تمتنع عن بدء رحلة الصّعود منذ البداية.
عن المؤلفة
"نيللي عطار" (Nelly Attar) رياضيّةٌ في مجالات الرّياضات الخطيرة، متسلّقة جبالٍ، ورائدة أعمالٍ في القطّاع الرّياضيّ.