كيف يحوّل المدير المستهزئ الموظّفين إلى أرقام بلا روح؟
تتحوّل بيئات العمل الحديثة إلى فضاءاتٍ جامدةٍ تخلو من الدّفء الإنسانيّ، حيث تُطفئ السّخريّة الإداريّة الحماس، وتُفقد الفرق روحها، وتحوّل الإبداع إلى خوفٍ صامتٍ من الخطأ
يشهد عددٌ متزايدٌ من بيئات العمل الحديثة تراجعاً في الرّوح الإنسانيّة داخل المؤسّسات، حيث تتحوّل العلاقات المهنيّة تدريجيّاً إلى تعاملاتٍ جامدةٍ تحكمها السّلطة لا الاحترام وهذا التّحوّل لا يحدث دفعةً واحدةً، بل يبدأ بإشاراتٍ بسيطةٍ من سوء التّواصل، أو استعلاءٍ إداريٍّ يُطفئ الحماس ويزرع في الفريق شعوراً خفيّاً باللّامبالاة. ومع مرور الوقت، يفقد الموظّفون إحساسهم بالانتماء، ويتحوّل الأداء إلى مجرّد التزامٍ ميكانيكيٍّ يخلو من الشّغف وإنّ أخطر ما يواجهه العمل المعاصر ليس ضغوط المهامّ، بل تآكل الكرامة المهنيّة حين يُنظر إلى الأفراد كأرقامٍ بلا روح.
السخرية الإدارية: كيف يمكن أن تُدمّر أداء الموظّفين؟
لا تُعدّ السخرية مجرّد طبعٍ سيّئٍ في القيادة، بل أداةً من أدوات فرض السيّطرة، إذ يستخدم المدير المستهزِئ النّكتة كسلاحٍ ناعمٍ لضبط السّلوك، فيسخر من فكرة موظّفٍ أو يقاطع عرضاً ليطلق تعليقاً مُهيناً في قالب المزاح. ويظنّ أنّه بذلك يُشجّع روح الدّعابة في الفريق، لكنّه في الحقيقة يهدم الثّقة المتبادلة، ويحوّل العلاقات المهنيّة إلى معادلة خوفٍ خفيٍّ من الخطأ. وتكشف دراسات علم النّفس التّنظيميّ أنّ القادة الذين يعتمدون التّهكّم المستترّ يفقدون ولاء فرقهم خلال أشهرٍ قليلةٍ، حتّى وإن كانوا يحققون نتائج جيّدةً على المدى القصير.
الأثر النفسي للسخرية على الموظف
يؤدّي إلى تآكل الثّقة بالنّفس، فيبدأ في الشّكّ بجدوى أفكاره ومساهماته، ممّا يحدّ من إبداعه ويُفقده الحافز للمبادرة، ويعاني من القلق والتّوتّر الدّائم حيث يعيش الموظّف تحت ضغطٍ نفسيٍّ مستمرٍّ خوفاً من أن يكون الهدف القادم للتعليق أو الانتقاد. ويصاب الموظّف بالانعزال وفقدان الانتماء بسبب شعوره بأنّه غير مقدَّر داخل الفريق، فيميل إلى الانسحاب التّدريجيّ من النّقاشات والعمل الجماعيّ، ممّا يضعف روح التّعاون والانتماء المؤسّسيّ. كما يتراجع الأداء والإنتاجيّة حين يتحوّل العمل إلى مصدر ضغطٍ نفسيٍّ، وتتراجع قدرة الموظّف على التّركيز واتّخاذ القرار، وينعكس ذلك مباشرةً على جودة أدائه وإنجازه.
كيف يُبرّر المدير المستهزِئ سلوكه؟
يعتمد المدير المستهزئ على مجموعةٍ من الأساليب الدّقيقة للتّحكّم بالموظفين وتحويلهم إلى أرقام بلا روح، أبرزها التّعليقات السّاخرة المتكرّرة الّتي تبدو للوهلة الأولى مزاحاً. وفق دراسةٍ أُجريت في "جامعة هارفارد" (Harvard University) عام 2019، يؤثّر هذا النّوع من التّعليقات مباشرةً على انخفاض التّحفيز وزيادة مستويات التّوتر بين الموظفين.
كما يستخدم بعض المدراء المقارنات المهينة بين الموظّفين لتقليص شعورهم بالكفاءة، وهي استراتيجيّةٌ موثّقةٌ في تقرير صادر عن "مجلة السلوك التنظيمي" (Journal of Organizational Behavior) عام 2020، حيث أظهرت أنّ المقارنات السّلبيّة تضعف الثّقة بالنّفس وتزيد من الانعزال داخل الفرق.
ويلجأ المدراء أحياناً إلى التّقليل من الإنجازات العلنيّة أو سحب الاعتراف بالمساهمات الفرديّة، ما يؤدّي إلى شعور الموظّفين بعدم القيمة ويخفض الإنتاجيّة، وفق دراسة "الجمعية الأمريكية لعلم النفس" (American Psychological Association) عام 2021.
شاهد أيضاً: هل يجب أن يكون المدير لعوباً أم إنسانياً؟
تأثير السخرية في نشاط المؤسسة
تفقد المؤسّسة الّتي تسمح بهذا النّمط من الإدارة بمرور الوقت قدرتها على الاحتفاظ بالمواهب ويتسرّب الموظّفون الأكفّاء بهدوءٍ إلى شركاتٍ أكثر احتراماً، بينما يبقى الخاضعون للضّغط والصّمت. وفي النّهاية، تُصبح المؤسّسة فقيرةً في الإبداع وغنيّةً بالجمود الإداريّ، وتشير دراسات الموارد البشريّة إلى أنّ الموظّف لا يترك عمله بسبب المهامّ أو الرّواتب فقط، بل بسبب مديرٍ واحدٍ يجعله يشعر بأنّه بلا قيمةٍ.
كيف تتعامل مع المدير المستهزِئ؟
يمكن للموظفين مواجهة المدير المستهزئ بأساليب عمليّةٍ تُحافظ على المهنيّة وتحمي الصحة النفسية، وفق ما توصلت إليه عدّة دراساتٍ:
- يُنصح توثيق المواقف السّاخرة أو التّعليقات المهينة بشكلٍ مكتوبٍ، إذ أظهرت دراسةٌ منشورةٌ في "مجلة علم النفس التطبيقي" (Journal of Applied Psychology) عام 2020 أنّ توثيق الأحداث يسهّل التّدخل الرّسميّ ويقلّل من فرص تكرار السّلوك.
- استخدام التّواصل المباشر والهادئ لمناقشة السّلوك مع المدير يمكن أن يحدّ من التّصعيد، خاصّةً عند اعتماد أسلوب "أنا أشعر" للتّعبير عن الأثر النّفسيّ، كما توصي دراسة "جامعة ستانفورد" (Stanford University) عام 2019.
- طلب الدّعم من الموارد البشرية أو القادة الأعلى يُعدّ خطوةً فعّالةً عند فشل الحوار المباشر، وهو ما أكدت عليه تقارير "جمعية إدارة الموارد البشرية " (Society for Human Resource Management) في 2021 كأحد أفضل أساليب حماية الموظّف من الإساءة النّفسيّة في مكان العمل.
- يُشجّع البحث العلميّ على بناء شبكة دعم داخليّة من الزّملاء لتعزيز الثّقة والمساندة المتبادلة، إذ أظهرت دراسةٌ في "هارفارد بزنس" (Harvard Business Review) أنّ الموظّفين الّذين يمتلكون تحالفاتٍ قويّةً يتعاملون بشكلٍ أفضل مع ضغوط السّخريّة ويستعيدون شعورهم بالسّيطرة على بيئة العمل.
الخاتمة
لا يُدمّر المدير المستهزِئ الموظّفين فقط، بل يُفكّك روح المؤسّسة من الداخل، حين تتحوّل السّخريّة إلى أسلوبٍ إداريٍّ، تُفقد الشّركة إنسانيتها ويصبح النّجاح رقميّاً بلا أثرٍ إنسانيٍّ حقيقيٍّ. غير أنّ التّغيير ممكن؛ فالكلمة الجارحة يمكن أن تُستبدل بكلمةٍ داعمةٍ، والمزاح القاسي يمكن أن يتحوّل إلى حوارٍ راقٍ يُشعل الإبداع بدل أن يُطفئه.
-
الأسئلة الشائعة
- كيف يمكن للموظف حماية نفسه من السخرية المستمرة للمدير؟ يمكن للموظّف توثيق المواقف السّاخرة، واستخدام التّواصل المباشر والهادئ للتّعبير عن أثر السّلوك، وطلب دعم الموارد البشريّة أو القادة الأعلى عند الحاجة، بالإضافة إلى بناء شبكةٍ دعم من الزّملاء لتعزيز الثّقة.