في زمن الذكاء الاصطناعي تتبدّل قواعد اللعبة: فهل تملك علامتك عقلية المتحدّي؟
حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل ملامح الأعمال والتّسويق، لا ينجو من سباق المستقبل إلا من يتحلّى بعقليّة المتحدّي، ويجرؤ على إعادة ابتكار القواعد من جديدٍ
نحن نعيش تحوّلاً عميقاً في ميدان الأعمال والتّسويق، هو الأشدّ منذ عقودٍ، وتدفعه إلى الأمام قوّة الذّكاء الاصطناعيّ المتسارعة. غير أنّ الذّكاء الاصطناعيّ، على ما يُثار حوله من صخبٍ، ليس وحده من يحسم السّباق. فالنّصر لا يُمنَح لأصحاب الميزانيّات الأضخم أو الفرق الأوسع، بل لأولئك الّذين يجرؤون على كسر النّماذج القديمة، ويتحرّكون بخفّةٍ، ويؤمنون بإعادة الخلق من جديد.
في هذا العصر، ليست الموارد ما يصنع التّفوّق، بل الذّهنيّة الّتي تقودها.
ذهنيّة المتحدّي: ميزة تنافسيّة جديدة
أن تكون متحدّياً لا يعني أن تكون صغيراً، بل أن تفكّر على نحوٍ مختلفٍ، وأن تتحرّك بخفّة، وأن تخوض المخاطرة من دون خوفٍ، وألّا ترضى بأن تسير الأمور كما كانت دائماً. هذه الذّهنيّة تزداد أهميّةً في عالمٍ تحكمه خوارزميّات الذّكاء الاصطناعيّ، حيث يمكن للمزايا التّقليديّة -كضخامة الحجم ووفرة الموارد وثقل الإرث- أن تتحوّل إلى عبءٍ يعيق الحركة.
فالذّكاء الاصطناعيّ يعيد رسم خريطة المنافسة من جذورها. ولم يَعُد حكراً على الشّركات الكبرى ولا حقلاً حصراً لأصحاب الميزانيّات السّخيّة، إذ إنّ الأدوات ذاتها الّتي كانت حكراً على المؤسّسات العالميّة باتت اليوم في متناول الجميع، من الشّركات النّاشئة إلى العلامات الإقليميّة الرّاسخة. ومع هذا التّحوّل، يتراجع أثر الحجم لتتقدّم المرونة، والخيال، وشجاعة التّجريب.
في هذا المشهد الجديد، لا يظفر بالنّجاح إلا من يملك الجرأة على التّخلّي عن البنى البالية، ومساءلة المسلّمات، وبناء ما هو جديدٌ من الأساس. أولئك الّذين يرون في الاضطراب فرصةً لإعادة كتابة القواعد، لا خطراً ينبغي اتقاؤه.
التجديد فوق التكرار
لا يولد التّحوّل الحقيقيّ من تحسيناتٍ متتابعةٍ، بل من إعادة خلقٍ كاملةٍ. فليس إدخال بعض أدوات الذّكاء الاصطناعيّ إلى منظومتك ما يصنع الابتكار، بل إعادة التّفكير في جوهر العمل ذاته، وظيفةً بعد أخرى، ودوراً بعد دورٍ.
في فريقي، عكسنا النّموذج السائد. لم نسأل كيف يتعاون الإنسان مع الذّكاء الاصطناعيّ، بل ماذا يمكن للذّكاء الاصطناعيّ أن ينجزه بذاته. وحين تبيّن لنا ذلك، أعدنا رسم حدود الدّور الإنسانيّ حيث يكون الأثر أعمق: في الرّؤية، والسّرد، والإبداع، وصلات المعنى بين البشر.
يحمل هذا التّحوّل أهميته الكبرى، إذ إنّ مستقبل العمل لا يختصر على الكفاءة وحدها، بل يرتبط بالارتقاء. فالذّكاء الاصطناعيّ يتولّى عبء التّشغيل، مانحاً البشر الحريّة للتّركيز على ما تعجز عنه الآلات: بناء الثّقة، وإشعال الأفكار الجديدة، وصياغة الاستراتيجيّات، ونسج الصّلات الإنسانيّة الّتي لا يمكن للبيانات وحدها أن تحقّقها.
غير أنّ إعادة الابتكار نادراً ما تكون سهلةً؛ فهي تتطلّب من القادة تفكيك العمليّات المستقرّة، وإعادة النّظر في توصيف الأدوار، وابتكار مسارات عملٍ جديدةٍ قد تبدو في البداية غير مريحةٍ، كما أنّ هذا الانزعاج غالباً ما يكون علامة تقدّمٍ؛ فذهنيّة المتحدّي تحتضن هذا الاحتكاك، مدركةً أنّه الشّرارة الأولى للتّحوّل.
الأمر ليس استبدال البشر بالآلات، بل تعزيز قدراتهم للارتقاء بمستوى العمل. يتولّى الذّكاء الاصطناعيّ ما هو متكرّرٌ وروتينيٌّ ومعامليٌّ، بينما يركّز البشر على ما لا يُستبدل. والنّتيجة ليست مجرّد كفاءةٍ أعلى، بل مرونة ونموّ يفتحان آفاقاً جديدةً.
الثقافة: المحرّك الخفيّ
التّكنولوجيا جزءٌ من المشهد، لكن الثّقافة هي القوّة الخفيّة الّتي تحرّك التّحوّل. إذ لا يمكن بناء مؤسّسةٍ قادرةٍ على المستقبل على سلوكيّاتٍ عفا عليها الزّمن. لذلك، أسّس فريقي ثقافة الاستكشاف حيث يُكافأ الفضول، ويُنظر إلى الفشل كفرصةٍ للتّعلّم، ويصبح الذّكاء الاصطناعيّ أداةً يحقّ لكلّ عضو تجربتها، واختبارها، ودمجها في سير العمل اليوميّ.
وأنشأنا أيّاماً باسم «توقّف للتّعلّم» خصّصناها لتجريب التّقنيات الجديدة، وابتكرنا جوائز داخليّةً للمشاريع الّتي فشلت، لكنّها علّمتنا أعظم الدّروس. قد يبدو هذا مفارقةً، لكن مكافأة الفشل الواعي تعدّ من أسرع الطّرق لاكتساب المعرفة، فهي تمنح الفرق شعوراً بالأمان النّفسيّ لتجاوز الحدود والتّحرّك بخطىً أسرع.
تكمن القيمة الجوهريّة لهذه الثّقافة في إشعال الزّخم المستمرّ؛ فحين يتحوّل التّجريب إلى قاعدةٍ، تتضاعف مكاسب التّقدّم. تتبادل الفرق الخبرات والدّروس، وتلهم بعضها بعضاً، وتقبل على تحدّياتٍ أشدّ جرأةً. ومع مرور الزّمن، تصبح المؤسّسة بأكملها أكثر صلابةً وقدرةً على التّكيّف.
ثقافة التّجريب هذه تجعل المؤسّسات تحتضن التّغيير بدل أن تقاومه؛ فحين يلمس الأفراد تشجيع قادتهم للاستكشاف، ينمو لديهم ارتياحٌ لتكييف عاداتهم وسلوكيّاتهم. ومن هنا تُبنى المرونة، والصّفة الجوهريّة في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التّطوّر التّكنولوجيّ أسرع من أيّ وقتٍ مضى.
الذّكاء الاصطناعيّ: المعادل العظيم
لعقود طويلةٍ، اعتادت الشّركات الكبرى أن تحمي مواقعها بالضّخامة وانتشار التّوزيع. اليوم، يزيل الذّكاء الاصطناعيّ تلك الحواجز. ويعني ذلك أنّ الحجم لم يعد الفارق الحاسم، بل السّرعة، والمرونة، والخيال هي الّتي تصنع الفرق؛ فالشّركات الّتي تتبنّى ذهنيّة المتحدّي، تتحرّك بسرعةٍ، وتجرّب بجرأةٍ، وتفكّر بطرقٍ غير مألوفةٍ، هي الّتي ستتقدّم على المؤسّسات الرّاسخة. وفي هذا الإطار، يصبح الذّكاء الاصطناعيّ قوّةً معادلةً أعادت صياغة قواعد المنافسة؛ فلم يعد الأمر مجرّد موارد، بل شجاعة وإبداع في توظيفها بشكلٍ مختلفٍ.
وضع في الحسبان إنشاء المحتوى، والبحث، والتّجريب، والتّنفيذ؛ فما كان يستغرق أسابيع يمكن إنجازه اليوم في ساعاتٍ قليلةٍ. لكن الفارق الحقيقيّ لا يكمن في السّرعة بحدّ ذاتها، بل فيما تختار أن تفعله بهذه السّرعة، كيف تحوّلها إلى قيمةٍ جديدةٍ، وأفكارٍ مبتكرةٍ، وصلاتٍ أعمق مع العملاء. لذلك، المنافسة الحقيقيّة ليست في من يملك الوصول إلى الذّكاء الاصطناعيّ، بل في من يوظّفه بأكثر الطّرق إبداعاً وجرأةً.
حان الوقت للتخلي عن دليل اللعب القديم
في عالمٍ يقوده الذّكاء الاصطناعيّ، لا يمكننا قيادة علامات الغد بذهنيّة الأمس. لذلك، يجب أن نتوقّف عن قياس الأداء بمقاييس الماضي، وأن نبدأ ببناء ما سيأتي بعده. سواء كنت شركة ضمن قائمة "فورتشن 500" (Fortune 500) أو شركةً ناشئةً، لم يعد تبنّي ذهنيّة المتحدّي خياراً، بل أصبح ضرورةً استراتيجيّةً. في عالمٍ يجعل الذّكاء الاصطناعيّ التّنفيذ سلعةً متاحةً، يبقى الفارق الحقيقيّ الوحيد في مدى الجرأة والوعي في استخدامه.
هذا يعني بناء فرقٍ تعطي الأوّلويّة للتّجريب على حساب القابليّة للتّنبؤ، وخلق قادةٍ يشجّعون على التّجديد بدلاً من مكافأة الرّوتين، وتصميم مؤسّساتٍ تراعي التّعلّم كحالةٍ دائمةٍ، لا كتمرينٍ لمرّةٍ واحدةٍ.
نصيحتي لكلّ قائد أعمالٍ هي ألّا يكتفي بمجاراة الآخرين، بل أن يسعى لاختراق الحدود. وركّز اهتمامك أقلّ على المنافسين، وأكثر على ما يمكن لفرقك تحقيقه حين تُمنح الحريّة للتّجريب والإذن بالجرأة.
في هذا العصر، تكمن الميّزة التّنافسيّة الحقيقيّة في الشّجاعة. لذلك، في عالم الذّكاء الاصطناعيّ، ستتقدّم العلامات التّجاريّة الأشد جرأةً، تلك الّتي تتجرّأ على تحدّي كلّ شيءٍ، حتّى ذاتها.
عن المؤلفة
تشغل "تيريزا بارييرا" (Teresa Barreira) منصب المدير التّنفيذيّ العالميّ للتّسويق والاتّصالات في شركة التّحوّل الرّقميّ للأعمال، "بوبليس سابينت " (Publicis Sapient).