سرّ المحتوى الفيروسي: كيف يصنع علم النفس والخوارزميات الانتشار الواسع؟
تشرح بيترا سميث كيف يمكن فهم المبادئ النّفسيّة وخوارزميات المنصّات لصنع محتوىً ينتشر على وسائل التواصل ويحقّق تأثيراً واسعاً
تُشاركنا "بيترا سميث" (Petra Smith) -المؤسِّسة والمديرة العامّة لشركة الاستشارات التّسويقيّة البريطانيّة "السناجب والدببة" (Squirrels & Bears)- خلاصة خبرتها وتجيب عن أبرز الأسئلة الّتي يطرحها روّاد الأعمال: "كيف أجعل محتواي ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعيّ؟"
لا أحد يستطيع أن يضمن لمحتواه أن يصبح واسع الانتشار "فايرال" (Viral) بين ليلةٍ وضحاها، لكن بالإمكان فهم المبادئ النّفسيّة الّتي تقف وراء هذا الانتشار وتوظيفها بذكاءٍ، وفكّ شيفرة العناصر الّتي تُكوّن المحتوى الفايراليّ.
صحيحٌ أنّ الحظّ وخوارزميّات المنصّات يلعبان دوراً لا يمكن إنكاره، إلّا أنّ المحتوى الّذي يحقّق انتشاراً واسعاً يكون -غالباً- قد استثمر، بوعي أو بحدسٍ، في سلسلةٍ من المحرّكات النّفسيّة غير المرئيّة؛ فمثل هذا المحتوى لا يُخاطب الخوارزمية وحدها، بل يتوجّه مباشرةً إلى البنية العصبيّة للدّماغ البشريّ، لأنّ الدّوافع الحقيقيّة للانتشار كامنةٌ في اللّاوعي أكثر ممّا هي في السّلوك الواعي.
البداية مع كسر التّوقّع. العقل البشريّ مهيّأٌ فطريّاً لالتقاط الأنماط وتوقّع تكرارها؛ فنحن نستشعر الرّاحة حين تسير الأمور كما نتوقّع. غير أنّ المحتوى الّذي يحقّق الانتشار الفيرالي غالباً ما يولّد حين تُكسر هذه التّوقّعات بذكاءٍ. ويسمي الباحثون ذلك "الخرق المأمون"؛ أي كسر المألوف في إطارٍ آمنٍ غير مُهدٍِّد.
هذا الخرق المأمون يفعل أكثر من مجرّد لفت الانتباه؛ فهو يطلق دفعةً من الدوبامين في الدّماغ، تدفع المتلقّي إلى التّوقّف عن التّصفّح العابر، والانتباه بعمقٍ، فيترسّخ المحتوى في ذاكرته ويصبح أكثر إثارةً ورغبةً في المشاركة والانتشار.
ثم الانجذاب إلى الحشد. بعد لحظة كسر التّوقّع، يبدأ السّحر الحقيقيّ في الظهور: قوّة الجماعة. كلّما ازداد عدد المشاركين، نشأت حلقةٌ متصاعدة الجاذبيّة؛ مشاركةٌ تستدعي مشاركةً أخرى. فالبشر كائناتٌ اجتماعيّةٌ بالفطرة، تستمدّ إشارات سلوكها من أفعال الآخرين. وحين نشهد هذا التّفاعل يتّسع أمام أعيننا، يتحوّل المشهد إلى ما يشبه حدثاً ثقافيّاً لا يمكن تفويته، فيكتسب شرعيّةً ويخفّض من المخاطرة الاجتماعيّة لكلّ من يفكّر في الانضمام.
وهنا تتفجّر العاطفة. في النّهاية، نحن لا نتبادل المعلومات فحسب، بل نتبادل المشاعر؛ فقد صُمِّمت خوارزميات وسائل التّواصل الاجتماعيّ لرصد هذه الانفعالات وتضخيم أثرها. وتشير أبحاث علم الأعصاب إلى أنّ رؤية مشاعر الآخرين تُنشِّط في أدمغتنا ما يُسمّى بـ"الخلايا العصبيّة المرآتيّة"، فنشعر بما يشعرون به تقريباً، وتنتابنا الرّغبة في تمرير ذلك الإحساس ومشاركته مع غيرنا.
فهم سرّ المشاركة اللّاواعية
في عالم يغمرنا بالمعلومات من كلّ اتّجاهٍ، لا يتعامل عقل الإنسان مع كلّ معلومةٍ على حدة؛ بل يلجأ إلى مساراتٍ ذهنيّةٍ سريعةٍ تُعرَف بالتّحيّزات الإدراكيّة. وهنا يكمن سرّ المحتوى الفيروسيّ؛ فهو ليس مجرّد كلماتٍ أو صورٍ عابرةٍ، بل يُهندس بمهارةٍ ليمسّ هذه الأزرار النّفسيّة الدّقيقة التي تحرّك دوافعنا الخفيّة، فيجعلنا نتفاعل ونشارك الرّسالة دون أن نشعر:
- انحياز السلبية: عبر ملايين السّنين، كان رصد الخطر مسألة بقاءٍ، أهمّ بكثيرٍ من الاستمتاع بمشهدٍ جميلٍ أو خبرٍ سارٍ. ولكن، هذه البرمجة الغريزيّة ما زالت تحكم أدمغتنا اليوم؛ فنحن، من دون وعيٍ، نمنح الأخبار السّلبيّة وزناً أكبر، ونُبقي أعيننا معلّقةً على ما قد يُهدّدنا أكثر من اهتمامنا بما يُبهجنا. على وسائل التّواصل الاجتماعيّ يتضاعف أثر هذا الانحياز؛ فالمحتوى الّذي يلمّح إلى خطرٍ أو يثير القلق ينتشر كالشرّارة في الهشيم. وذلك لأنّه يفعّل في عقولنا نظام الإنذار البدائيّ، فيستولي على انتباهنا ويدفعنا، بدافعٍٍ شبه غريزيٍّ، إلى تحذير من حولنا ومشاركة الرّسالة فوراً، وكأنّنا ننقل إنذاراً جماعيّاً.
- انحياز التّأكيد: يحمل كلٌّ منّا حاجةً فطريّةً لإثبات أنّه على حقٍّ، وما يُعرف بـ"انحياز التأكيد" يعكس هذا الميل بوضوحٍ، إذ يدفعنا إلى البحث عن المعلومات الّتي تتوافق مع معتقداتنا وتفسيرها بما يعزّز أفكارنا، بل ومشاركتها لإضفاء صفة الصّواب على آرائنا. وعندما نصادف منشوراً يؤكّد وجهة نظرنا، يطلق الدّماغ دفعةً من الدّوبامين تمنحنا شعوراً بالرّضا، فتتحوّل المشاركة إلى فعل تأكيدٍ للذّات؛ أي أنّنا نقول ضمنيّاً: "ألم أقل إنّني على صوابٍ؟" وبذلك، لا تعزّز هذه العمليّة معتقداتنا فقط، بل تثبت هويّتنا وتعمّق رؤيتنا للعالم من خلال المحتوى الّذي نتفاعل معه.
- انحياز التّوافر: عندما تنتشر فكرةٌ أو وجهة نظرٍ بسرعةٍ وتصبح "فيرال"، يختلط علينا حجمها الحقيقيّ، فتبدو موجودةً في كلّ مكانٍ وكأنّها محور اهتمام الجميع. هذا التّعرّض المتكرّر يضخمّ أهميّة المحتوى والمفاهيم الّتي يحتويها، ويجعلنا نصدّقها أكثر ممّا هي عليه فعليّاً. ومع تكرار هذا الانطباع، يولد شعورٌ ضمنيٌّ بأنّ الجميع يشارك في النّقاش، فيدفعنا ذلك للتّفاعل والمساهمة، خشية أن نُترك خارج دائرة الحدث الثّقافيّ أو الاجتماعي السّائد، ونصبح جزءاً من حركة الانتشار بدافعٍ نفسيٍّ أكثر منه منطقيٍّ.
- تأثير القطيع: غالباً ما نميل لتصديق فكرةٍ أو تبنّي رأيٍ لمجرّد أنّ كثيرين آخرين يعتقدونه أو يشاركونه. على وسائل التواصل الاجتماعي، تصبح مؤشّرات الانتشار الظّاهرة -مثل عدد الإعجابات والمشاركات- دليلاً اجتماعيّاً محسوساً يثبت صحّة الفكرة في أعيننا. ومع هذه المؤشّرات، يبدأ شعورنا بالحاجة إلى الانتماء والخوف من التّخلّف عن الآخرين )FOMO) بالتّصاعد، فيدفعنا إلى المشاركة والانخراط في السّلوك الجماعيّ، لنكون جزءاً من الحركة ولنشعر بأنّنا على خطّ الحدث الثّقافيّ والاجتماعيّ المتداول.
عندما يلتقي علم نفس التسويق بخوارزميات المنصات
لفهم ما وراء الانتشار الفيروسيّ، لا يكفي التّساؤل عن سبب المشاركة فقط، بل يجب أن نفهم كيف تُحدّد المنصّات الاجتماعيّة ما الّذي يظهر للمستخدمين وما الّذي يُخفي؛ فكلّ منصّةٍ تعتمد على اقتصاد الانتباه، حيث يرتكز نموذجها التّجاريّ على إبقاء المستخدمين أطول وقتٍ ممكنٍ مستهلكين للمحتوى ومرئيّين للإعلانات.
لهذا صُمّمت الخوارزميّات لتختار المحتوى الّذي يحتمل أن تتفاعل معه أكثر، وتمنح أوّلويّةً لما يولّد ردود فعلٍ قويّةً، وتشجّع التّفاعلات الّتي تبني مجتمعاً متماسكاً وتكسب ولاء المستخدمين. باختصارٍ، يصبح الانتشار الفيروسيّ نتيجةً طبيعيّةً لقدرة المنشور على استثارة هذه التّفاعلات الجوهريّة، وكأنّ الخوارزميّة تقول بصراحةٍ: "هذا المحتوى بارعٌ في جذب الانتباه وإبقاء المستخدمين على منصّتنا".
في الأيّام الأولى لوسائل التّواصل الاجتماعيّ، كانت المنشورات تظهر بترتيبٍ زمنيٍّ بسيط. أمّا اليوم، ومع إنشاء مليارات المنشورات يوميّاً، تقوم الخوارزميّات بفرز هذا السّيل الهائل لتقدّم لك ما تعتقد أنّه سيشدّ انتباهك أكثر ويثير تفاعلك.
بنية خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي
مع اختلاف التّفاصيل الدّقيقة بين خوارزميّات المنصّات، تشترك جميعها في نفس المبادئ الجوهريّة. إذ يمكن تصوّر عملها كحلقةٍ مستمرّةٍ من التّغذية الرّاجعة، حيث تعلم الخوارزميّات من تفاعلاتك وتصرّفاتك ما الّذي يستهويك وما الّذي يثير اهتمامك، فتقوم بعد ذلك بتوجيه المحتوى بما يتوافق مع رغباتك. بهذه الطّريقة، لا يُعرض لك المحتوى عشوائيّاً، بل يُنسج حول اهتماماتك وتفضيلاتك ليصبح كلّ ما تراه نتيجة تفاعلٍ مع سلوكك، ما يخلق تجربةً رقميّةً مخصّصةً وشخصيّةً لك.
- تفاعلاتك الشّخصيّة: يعكس كلّ إعجابٍ، تعليقٍ، مشاركةٍ أو حفظٍ تقوم به اهتماماتك للخوارزميّة، فتتعلّم ما يجذبك وما ينبغي أن يظهر لك أكثر.
- شبكة علاقاتك: تُمنح الحسابات الّتي تتفاعل معها بشكلٍ مستمرٍّ، سواء أصدقاء أو عائلة أو منشئي محتوى، أوّلويّةً أكبر في خلاصة أخبارك، ما يعكس طبيعة روابطك الاجتماعيّة الرّقميّة.
- صلة المحتوى: تحلّل الخوارزميّات طبيعة المحتوى نفسه، من الكلمات المفتاحيّة إلى العناصر البصريّة داخل الصّور والفيديوهات، لتحديد مدى ملاءمته لما تبحث عنه أو تهتمّ به.
- نوعيّة المحتوى المفضّل لديك: إذا كنت تميل لمشاهدة الفيديوهات، ستزداد ظهورها أمامك، أمّا إن كنت تتصفّح الصّور، فستهيمن المنشورات البصريّة على تجربتك، بما يتماشى مع أنماط استخدامك.
لا تعرف الخوارزميّة بحدّ ذاتها المشاعر؛ فهي لا تشعر بالفرح، الغضب، أو الدّهشة. لكنّها مصمّمةٌ لرصد الأثر الّذي تتركه هذه المشاعر على سلوك المستخدمين الرّقميّ. وهنا يتجسّد الرّابط الحيويّ بين علم النّفس والخوارزميّة، حيث يُغذّي الفهم النّفسيّ طريقة عملها ويمنحها القدرة على التّنبؤ بردود أفعال البشر.
يجذب المحتوى المصمّم لاستثارة انحيازاتٍ معرفيّةٍ قويّةٍ الانتباه، ويحفّز المستخدم على اتّخاذ إجراءٍ، سواء كان مشاركةً، تعليقاً، أو حتّى التّوقّف لفترةٍ أطول أثناء التّصفّح. هذا التّفاعل لا يمرّ دون أثرٍ، بل يتحوّل إلى إشارةٍ كميّةٍ يمكن للخوارزميّة قياسها واستخدامها لتحديد أوّلويّات المحتوى القادم.
كما يعمل الارتفاع المفاجئ في إشارات التّفاعل كزر إطلاقٍ للخوارزميّة، الّتي تفسّر هذا التّدفق السّريع على أنّه مؤشّرٌ على محتوىً جذّابٍ وقويٍّ. ولتحقيق هدفها الأساسيّ المتمثّل في إبقاء المستخدمين أطول فترةٍ ممكنةٍ على المنصّة، تُسرّع الخوارزميّة فوراً من انتشار المنشور ليصل إلى جمهورٍ أوسع بكثيرٍ.
لا يُعدّ الانتشار الفيروسيّ حادثاً عشوائيّاً، بل هو نتيجة تلاقي علم النّفس البشريّ مع هندسة الخوارزميّات؛ فالمحتوى الّذي يحقّق انتشاراً واسعاً، هو الّذي يثير ردود فعلٍ عاطفيّةً لدى الجمهور، وهذه التّفاعلات نفسها -المشاركات، والتّعليقات، ومدّة المشاهدة- توفّر الإشارات الدّقيقة الّتي صُمّمت الخوارزميّات لرصدها وتعظيم تأثيرها.
ومن ثمّ، تكمن الاستراتيجيّة الأكثر فاعليّةً ليس في مطاردة الصّيحات العابرة، بل في صناعة محتوىً مدروسٍ يستثمر هذه المحرّكات النّفسيّة الأساسيّة. وبفهم الآليّات اللّاواعية وراء مشاركة الأفراد، يمكنك خلق الظّروف المثاليّة للخوارزميّة لتؤدّي مهمّتها الرّئيسة: توزيع المحتوى على نطاقٍ واسعٍ وبكفاءةٍ عاليةٍ.