الوحدة تجد في الكتب ملاذاً.. هل ينافسها الذكاء الاصطناعي؟
بينما يروّج مارك زوكربيرغ لفكرة أصدقاء الذكاء الاصطناعي، تُشير الدّراسات إلى أنّ الكتب القديمة قد تكون أفضل دواءٍ لمشكلة الوحدة المنتشرة

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
تمتلئ وسائل الإعلام مؤخّراً بأخبار وباء الوحدة في أمريكا، حتّى أن كبير مسؤولي الصّحة العامّة في الولايات المتّحدة أصدر تحذيراتٍ رسميّةً بشأن هذه الظّاهرة. ويبدو أنّ مارك زوكربيرغ، مؤسس "ميتا" (Meta)، من بين أولئك الذين اطلّعوا بعمقٍ على هذه الأزمة. ففي مقابلةٍ حديثةٍ مع البودكاستر دواركيش باتيل، قال زوكربيرغ: "أعتقد أنّ الأمريكيّ العاديّ لديه أقلّ من ثلاثة أصدقاء -أشخاصٌ يعتبرهم أصدقاءً بالفعل- لكنّ الإنسان بطبيعته يحتاج إلى عددٍ أكبر بكثير من ذلك".
أمّا الحلّ الّذي يقترحه زوكربيرغ لهذه المشكلة؟ أصدقاءٌ من الذكاء الاصطناعي، ويُفضّل أن يكونوا من إنتاج ميتا، بالطّبع.
الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً شافياً للعلاقات البشرية
قوبل اقتراح زوكربيرغ هذا بانتقاداتٍ لاذعةٍ وسخريةٍ واسعةٍ؛ فقد أشار بعض الخبراء إلى أدلّةٍ مبكرّةٍ تُشير إلى أنّ الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي قد يكون مرتبطاً في الواقع بزيادة مستويات الوحدة. كما عبّر علماء النّفس، بنبرةٍ يائسةٍ، عن أنّ العلاقات الإنسانيّة الحقيقيّة تُبنى على التّعاطف والفهم، وهما أمران يفتقر إليهما روبوت الدّردشة تماماً.
ومع ذلك، أبدى بعض الخبراء شيئاً من التّفهّم لمحاولة زوكربيرغ. على سبيل المثال، قال البروفيسور ستيفن شويلر من جامعة كاليفورنيا، إيرفاين، لصحيفة وول ستريت جورنال: "لا يستطيع معظم النّاس الوصول إلى معالجٍ نفسيٍّ؛ لذا بالنّسبة لهم، المسألة ليست روبوت دردشةٍ مقابل معالجٍ نفسيٍّ، بل روبوت دردشةٍ مقابل لا شيءٍ".
رغم كلّ ذلك، يبدو أنّ كلّ من لا يملك حافزاً ماليّاً لبيع أصدقاء الذكاء الاصطناعي يُدرك تماماً أنّ هذه البرامج تُمثّل بديلًا باهتاً ومؤسفاً للعلاقات البشريّة الحقيقيّة. ومع هذا، فإنّ البعض يرى أن وجودها قد يكون أفضل من لا شيءٍ.
هناك بديل أرخص وأكثر إنسانية... الكتب
لكن هناك مشكلةٌ في هذا الطّرح؛ فالعلم يقول إنّ هناك تقنيةً موجودةً بالفعل يمكن أن تكون بمثابة دعمٍ للعلاقات الاجتماعيّة وبلسمٍ للوحدة، وهي أكثر رخصاً وأسهل وصولاً بكثيرٍ من النّماذج اللّغوية الضّخمة التي تُكلّف مليارات الدّولارات لتطويرها. إنّها ببساطةٍ: الكتب.
الكتب: تقنية فعالة لتعزيز الترابط الاجتماعي
أنا شخصٌ مغرمٌ بالكلمات، وتخصّصت في الأدب الإنجليزيّ، لذا لن أدّعي الحياد تجاه القراءة التّقليديّة. لقد كتبتُ مراراً عن فوائد الغوص في عالم الكتب، إذ تجعلك القراءة بطبيعة الحال أكثر ذكاءً ومعرفةً، لكنّها أيضاً تُعيد تشكيل دماغك ليصبح أكثر تركيزاً، وتحسّن ذاكرتك، وتعزّز تعاطفك وذكاءك العاطفي. ولكن حتى مع معرفتي بكلّ هذه الفوائد، إلّا أن نتائج الدّراسات الحديثة عن العلاقة بين القراءة والشّعور بالوحدة فاجأتني.
ففي استطلاع رأيٍ شمل 2000 شخص أجرته مؤسّسة "ذا ريدر" (The Reader) الخيريّة البريطانيّة، تبيّن أنّ قراءة الكتب تُقلّل من مشاعر الوحدة، لا سيما بين الشّباب. وذكر 59% من الفئة العمريّة بين 18 و34 عاماً أنّ القراءة جعلتهم يشعرون بارتباطٍ أكبر بالآخرين، بينما قال 56% إنّها ساعدتهم على الشّعور بقدرٍ أقلّ من العزلة خلال الجائحة.
دعم علم الأعصاب: الروايات تضيء مناطق العلاقات في الدماغ
لا تقتصر الأدلّة على مؤسّسات القراءة فقط؛ فحتى دراسات تصوير الدّماغ العصبيّة أظهرت أنّ قضاء الوقت مع شخصيّاتٍ خياليّةٍ في الكتب يُفعّل نفس مناطق الدّماغ الّتي تنشط عند التّفاعل مع البشر الحقيقيّين.
وذكرت مجلة "نيروساينس نيوز" (Neuroscience News): "أظهرت دراسة تصويرٍ عصبيٍّ لدى شباب بالغين أنّ قراءة القصص الخياليّة، خاصّةً الفقرات ذات الطّابع الاجتماعيّ، نشّطت مناطق في الدّماغ مرتبطةً بالسّلوك الاجتماعيّ والفهم العاطفيّ، مثل قشرة الفص الجبهيّ الظهريّة-الوسطى".
كما أضافت المجلة: "كما ارتبطت هذه المنطقة الدّماغية بزيادة الإدراك الاجتماعيّ لدى من يقرأون القصص الخياليّة بشكلٍ متكرّرٍ، ممّا يشير إلى وجود مسارٍ عصبيٍّ يُفسّر كيف يمكن للقراءة أن تعزّز التّواصل الاجتماعيّ".
تجاهل الضجة حول الذكاء الاصطناعي... واقرأ كتاباً
على الرّغم من الوعود الواسعة الّتي يحملها الذكاء الاصطناعي، مثل: المساعدة في اكتشاف أدويةٍ جديدةٍ أو أتمتة الأعمال الرّوتينيّة أو تقديم خدمة عملاء أفضل، فإنّ أحد أضعف تلك الوعود هو قدرته على أن يكون بديلاً صحيّاً وواقعيّاً للعلاقات الإنسانيّة.
في المقابل، فإنّ الكتب -التي يكتبها عقلٌ بشريٌّ واعٍ- تجبرك على التّأمّل ومحاولة فهم وعيٍ آخر. كثيراً ما تعكس الكتب أجزاءً من نفسك، حتّى تلك التي كُنت تظنّها غريبةً أو مُحرجةً، لتُريك أنّك لست وحيداً في غرابتك، كما أنّها تدفعك للتّفكير في تعقيدات العلاقات الاجتماعيّة وتشابكاتها.
أخيراً، يبقى الحلّ الأفضل دائماً لمشكلة الوحدة هو قضاء المزيد من الوقت مع الآخرين. ولا توجد تكنولوجيا قادرةٌ على تغيير هذه الحقيقة. ولكن، إن كُنت رائد أعمالٍ مشغولاً تبحث عن طريقةٍ تُكمل علاقاتك الاجتماعيّة من دون اللّجوء إلى عشاءٍ عائليٍّ أو لقاءات الأصدقاء، لا تنخدع بالبريق الزّائف للذكاء الاصطناعي، بل اختر كتاباً بدلاً من ذلك.
قد تبدو الكتب قديمة الطّراز وغير جذّابةٍ، ولكن تؤكّد الأدلّة العلميّة قدرتها الحقيقيّة على تخفيف الشّعور بالوحدة. أمّا التّحدث إلى خوارزميّةٍ مكوَّنةٍ من أكوادٍ رياضيّةٍ تبتلع طاقةً هائلةً، فلن يُحدث الأثر ذاته.
هذا الرّأي الخبير من إعداد الكاتبة المساهمة جيسيكا ستيلمان، ونُشر في الأصل على موقع Inc.com.