هل تستطيع السعودية التفوّق على وادي السيليكون في الذكاء الاصطناعي؟
حين يمتزج الطّموح الوطنيّ مع بنيةٍ تحتيّةٍ قويّةٍ وطاقةٍ قابلةٍ للتّوسّع، قد تتبوّأ السعودية موقع الصّدارة عالميّاً في سباق الذكاء الاصطناعي

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
لا يقتصر الذّكاء الاصطناعيّ على أشباه الموصلات أو نماذج اللّغة الكبيرة (LLMs) أو الشّركات النّاشئة الّتي تتصدّر العناوين، بل يتجاوز ذلك إلى منظومة الدّولة ككلٍّ، حيث تلعب القدرة على توفير الطّاقة القابلة للتّوسعة والبنية التّحتيّة المتينة لمراكز البيانات دوراً حاسماً في تحديد من سيصنع الفارق. وفي هذا المضمار، تبرز المملكة العربيّة السّعوديّة كحاضنةٍ فريدةٍ مؤهّلةٍ للتّفوّق.
رغم أنّ وادي السيليكون يمتلك إرثاً من عقود الثّقافة الإبداعيّة الحرّة والاستثمارات المرنة، مدعومةً بعمق اقتصاد الولايات المتّحدة، إلّا أنّ السّباق المقبل للذكاء الاصطناعيّ سيتحدّد وفقاً لمقوّماتٍ مختلفةٍ جوهريّاً. فبحسب الأبحاث المستمرّة التي تُجريها الهيئة الدّوليّة لمراكز البيانات (IDCA)، تتمتّع المملكة بشبكة كهرباءٍ متينةٍ تُتيح نموّاً واسعاً في مراكز البيانات السّحابيّة والمؤسّساتيّة، فضلاً عن شبكتها النّاشئة لمراكز بيانات الذّكاء الاصطناعيّ. والأرقام تبرهن على ذلك، إذ تستهلك مراكز البيانات في السّعوديّة حاليّاً 1.7% من إجمالي الكهرباء، أي أقلّ من نصف المعدّل في الولايات المتّحدة، ما يمنح المملكة قاعدةً صلبةً للانطلاق نحو قيادة السّباق العالميّ في الذكاء الاصطناعيّ.
تُشير أبحاثنا إلى أنّ الدّول قادرةٌ على رفع استهلاك مراكز البيانات إلى نحو 5% قبل أن تظهر أيّ مؤشّراتٍ تحذيريّةٍ تُنذر بوجود ضغوطٍ على الشّبكة أو الموارد. وبناءً على هذا المعيار، يمكن للمملكة العربيّة السّعوديّة إضافة ما يقارب 1000 ميغاواط من سعة مراكز البيانات الجديدة دون الحاجة لتوسيع الشّبكة الكهربائيّة القائمة، ما يضعها ضمن أفضل 20 دولةً عالميّاً من حيث القدرة الحاليّة على النّموّ، ويتصدّرها على مستوى الشّرق الأوسط.
ولا يقتصر الأمر على البنية التّحتيّة فقط، بل تلعب القيادة الرّشيدة والرّؤية الطّموحة دوراً حاسماً، إذ تُتيح القدرة على اتّخاذ القرارات الحاسمة، وتمويلها بسرعةٍ، والتّنفيذ بمرونةٍ عاليةٍ. وفي المقابل، تواجه الدّول الأكبر حجماً تحدّياتٍ هيكليّةً تجعل من تنفيذ مثل هذه القرارات بسرعةٍ أمراً صعباً، إذ تتحكّم العمليّات الانتخابيّة والمصالح الحزبيّة في إيقاع صنع القرار. وكلّ ذلك يوضّح أنّ الفوز في سباق الذّكاء الاصطناعيّ يعتمد على تضافر عدّة عوامل، ليس فقط على الثّقافة الاستثماريّة أو رأس المال، بل على القدرة على توظيف البنية التّحتيّة والطّاقة والإدارة بكفاءةٍ فائقةٍ.
شاهد أيضاً: مؤتمر SYNC'25: جسرٌ بين وادي السيليكون ودمشق
غير أنّ امتلاك الطّاقة وحدها، إلى جانب الرّؤية أو التّمويل للاستثمار في مشاريع متنوّعةٍ، لا يُعدّ الشّرط الوحيد للرّيادة في سباق الذّكاء الاصطناعيّ العالميّ المحتدم، إذ يتطلّب الفوز منصّةً وطنيّةً شاملةً ومتماسكةً، تتضمّن مكوّناتٍ رئيسيّةً مثل استراتيجيّةٍ واضحةٍ للفوز، وسياساتٍ فعّالةٍ، واستثماراتٍ ملتزمةٍ، وطاقةٍ قابلةٍ للتّوسّع، وأحدث المعالجات، وبنيةٍ رقميّةٍ متينةٍ، وقوّةٍ عاملةٍ ماهرةٍ، ورأس مالٍ بشريٍّ مدرّبٍ.
وفي هذا السّياق، يجدر التّنويه إلى أمرين أساسيّين. أوّلاً، الدّول الأخرى ضمن قائمة أفضل 20 دولةً تشمل لاعبين ديناميكيّين ومبادرين مثل كوريا الجنوبية، وتايلاند، والبرازيل، وبالطّبع الهند والصين. على سبيل المثال، تمتلك الهند ما يقارب 8,000 ميغاواط من الإمكانيّات، بينما تتجاوز إمكانات الصين 40,000 ميغاواط دون الحاجة لتعزيز شبكات الكهرباء الحاليّة. بالتّوازي مع ذلك، تولي إدارة البيت الأبيض في الولايات المتّحدة، الّتي تُعدّ الرّائدة الواضحة في مجال الذّكاء الاصطناعيّ، اهتماماً متزايداً بهذا السّباق، حيث أصدرت خطّة عملٍ للذّكاء الاصطناعيّ بعنوان "الفوز بالسّباق" (Winning the Race)، لتأكيد استمرار تفوّقها وتعزيز موقعها القياديّ.
ثانياً، وعلى أساس نصيب الفرد، تتخلّف المملكة العربيّة السّعوديّة عن جميع الدّول الخمس الأعضاء الأخرى في مجلس التّعاون الخليجيّ، وهي: البحرين وقطر والكويت وعمان والإمارات. وتشير هذه البيانات إلى أنّه رغم صغر حجم هذه الدّول مقارنةً بالسّعوديّة، إلّا أنّ لكلٍّ منها القدرة على تحويل ثروتها إلى خططٍ طموحةٍ لتطوير مراكز بيانات الذّكاء الاصطناعيّ والسّعي نحو الرّيادة العالميّة. ومن هذا المنطلق، يتضّح أنّ السعودية ليست وحدها في هذا السباق؛ فدولٌ أخرى في منطقة الشّرق الأوسط ومناطق عالميّة متعدّدةٌ تتقدّم بوتيرةٍ متسارعةٍ ولديها إمكاناتٌ مماثلةٌ.
ويقع على عاتق القيادة السّعوديّة مسؤوليّة الاستمرار في تعزيز مبادرات التّنويع الاقتصاديّ والتّحوّل الرّقميّ الجاري تنفيذها، لتتمكّن المملكة من استثمار هذه الميّزة وتحقيق كامل إمكاناتها في سباق الذّكاء الاصطناعيّ.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ هذه الجهود بدأت بالفعل مع استراتيجيّة الاستثمار الوطنيّة ضمن رؤية السعودية 2030، والّتي تهدف إلى تعزيز دور القطّاع الخاصّ، وزيادة الصّادرات غير النّفطيّة بشكلٍ كبيرٍ، وجذب استثماراتٍ تريليونيّةٍ. ومع ذلك، فإنّ أيّ رؤيةٍ أو خطّةٍ تظلّ فعّالةً طالما تم تحديثها بشكلٍ مستمرٍّ لتعكس أحدث محرّكات النّموّ، ومؤشّرات الأداء الرّئيسيّة، وديناميكيّات العالم المتغيّرة. وفي العصر الحديث -ولا سيما في عالم الذّكاء الاصطناعي- تتغيّر هذه الدّيناميكيّات بوتيرةٍ أسرع ممّا هو مرغوبٌ، الأمر الّذي يستدعي تكيّف الخطط والاستراتيجيّات والرّؤى بمرونةٍ وسرعةٍ عاليةٍ.
يتطلّب بناء استراتيجيّةٍ متينةٍ تمنح تلك الخطط والمبادرات قوّةً تنفيذيّةً حقيقيّةً، جهداً موحّداً يضع جميع العيون على الهدف، مع تنسيقٍ كاملٍ بين مختلف الأطراف لضمان القدرة على المنافسة وتحقيق النّتائج المرجوّة على أرض الواقع.
وتأتي اللّحظة الرّاهنة لتشكل نقطةٍ فارقةٍ تتطلّب حراكاً استراتيجيّاً حقيقيّاً، إذ تمتلك المملكة العربيّة السّعوديّة، بفضل رؤيتها الطّموحة ورأس مالها السّياديّ الهائل، القدرة على تطوير مصادر طاقةٍ مستدامةٍ جديدةٍ بشكلٍ جوهريٍّ، ومن ثم إقامة منشآت ذكاءٍ اصطناعيٍّ متقدّمةٍ، مع احتضان إمكانات نموٍّ ضخمةٍ مصاحبةٍ لهذه المبادرات. على سبيل المثال، يمكن لاستثمار كلّ 100 مليار دولارٍ في الطّاقة المستدامة أن يضاعف تقريباً حجم شبكة الكهرباء الوطنيّة، ويوفّر نحو 2000 ميغاواط إضافيّةً لمراكز البيانات الجديدة المخصّصة للذّكاء الاصطناعيّ، مع الحفاظ على معيار الاستهلاك المرجعيّ البالغ 5%. ومن هذا المنطلق، تبدو إمكانيّات المملكة شبه مفتوحةٍ، حيث تتيح خطط الاستثمار الكبرى تحويل هذه الطّاقات إلى بنيةٍ تحتيّةٍ متكاملةٍ تُعزّز موقعها الرّياديّ في سباق الذّكاء الاصطناعيّ العالميّ.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضيّة، يبدو وادي السيليكون قد تجاوز بالفعل هذا الحدّ المرجعيّ، ما يطرح تساؤلاتٍ جديّةً حول قدرته على توسيع مراكز البيانات القائمة وتطوير منشآت ذكاءٍ اصطناعيٍّ حديثةٍ. ولمواجهة هذا الواقع، تركّز معظم الخطط الجديدة في الولايات المتّحدة على مناطق خضراء لم يتم تطويرها مسبقاً في وسط وجنوب شرق وغرب البلاد، بدلاً من التّركيز على التّوسّع داخل وادي السيليكون ذاته، وهو ما يفتح المجال أمام المملكة للاستفادة من تفوّقها في القدرة على البناء والتّوسّع بسرعةٍ ومرونةٍ تفوق نظيراتها التّقليديّة.
خلاصة القول، إذا ما وُضعت الخطط بشكلٍ دقيقٍ ونُفّذت بمرونةٍ وحنكةٍ، فإنّ المملكة العربيّة السّعوديّة قادرةٌ على التّفوّق على وادي السيليكون في إنشاء مراكز بيانات الذّكاء الاصطناعي الجديدة وستبوّؤ موقعاً رياديّاً عالميّاً في هذا المجال. غير أنّ الأهمّ من ذلك، أنّها لن تتنافس على الصّعيد العالميّ فحسب، بل ستجد نفسها في مواجهة جيرانها من دول مجلس التّعاون الخليجيّ، إضافةً إلى دولٍ طموحةٍ أخرى حول العالم. ولصقل هذه الميّزة التّنافسيّة، يتعيّن على المملكة استثمار مواردها بكفاءةٍ، والتّمسّك بخططها الطّموحة ضمن رؤية 2030، ومواصلة الحلم والتّخطيط والتّنفيذ بما يتجاوز حدود هذه الرّؤية، لضمان وضعها في مصاف الدّول الرّائدة في ثورة الذّكاء الاصطناعي.
حول الكاتب
يشغل مهدي باريَفي منصب رئيس مجلس الإدارة والرّئيس التّنفيذيّ للهيئة الدّوليّة لمراكز البيانات (IDCA)، وهي أبرز مؤسّسةٍ فكريّةٍ عالميّةٍ متخصّصةٍ في الاقتصاد الرّقميّ، وأكبر تجمّعٍ يضمّ صانعي السّياسات والمستثمرين والمطوّرين في مجالات الذّكاء الاصطناعيّ، ومراكز البيانات، والحوسبة السّحابيّة.