التحدّي الحقيقي ليس السوق… بل العقلية المدمّرة بداخلك
حين يتوه الإنسان في زحمة الطّموحات ويظنّ أنّ الفشل خارجه لا داخله، تكشف له الحقيقة أنّ العدوّ الحقيقّي يسكن فكره، وأنّ تحرّره يبدأ من إصلاح ذهنيّته قبل مواجهة العالم
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة المنافسة، يظنّ كثيرٌ من النّاس أنّ العقبة الكبرى أمام النّجاح تكمن في قلّة الموارد أو شدّة المنافسة أو غياب الفرص. غير أنّ الحقيقة أعمق من ذٰلك بكثيرٍ، إذ تنبع الهزيمة الحقيقيّة من الدّاخل لا من الخارج؛ لأنّ العدوّ الأخطر ليس السّوق، بل العقليّة المدمّرة الّتي تترسّخ في أعماق الإنسان وتتحكّم في قراراته وتقيّد طموحاته دون وعيٍ منه؛ فكم من إنسانٍ امتلك فكرةً عظيمةً لٰكنّه لم يجرؤ على تحويلها إلى واقعٍ، وكم من مشروعٍ صغيرٍ تجاوز قسوة السّوق لأنّ صاحبه امتلك عقلاً مرناً لا يعرف الاستسلام.
ما هي العقلية المدمرة وكيف تتكون؟
تتكوّن العقليّة المدمّرة حين يتعوّد الإنسان على رؤية الحياة من زاوية الخوف والشّكّ واللّوم، فيقنع نفسه بأنّ الظّروف أقوى منه، وبأنّ النّجاح حكرٌ على فئةٍ محظوظةٍ دون غيرها. ومع تراكم التّجارب السّلبيّة منذ الطّفولة، حين يتعرّض الفرد للنّقد الجارح أو للفشل دون دعمٍ نفسيٍّ أو توجيهٍ إيجابيٍّ، يتولّد داخله شعورٌ بالعجز المكتسب يجعله أسير فكرة «أنا لا أستطيع». ومع مرور الوقت، تتحوّل هٰذه الفكرة إلى نمط تفكيرٍ ثابتٍ يبرمج العقل على الهروب من المخاطرة وتضخيم الصّعوبات والتّقليل من قيمة الذّات.
ولا تكتفي هٰذه العقليّة المدمّرة بزرع الخوف، بل تغذّي نفسها بما يعرف بـ«الحوار الدّاخليّ السّلبيّ»، ذٰلك الصّوت الخفيّ الّذي يهمس للإنسان بأنّه غير قادرٍ على التّغيير، وبأنّ فشله حتميٌّ مهما حاول؛ فتتحوّل هٰذه العبارات السّلبيّة إلى جدرانٍ نفسيّةٍ تعزله عن إمكانيّاته الحقيقيّة. وبذٰلك، يصير الإنسان عدوّ نفسه قبل أن يواجه تحدّيات العالم حوله. [1]
كيف تعيق العقلية المدمرة النمو الشخصي والمهني؟
تعطّل العقليّة المدمّرة قدرة الإنسان على اتّخاذ القرارات المصيريّة؛ لأنّها تجعله يرى المخاطر مضخّمةً والعوائد ضئيلةً. فكلّ فكرةٍ جديدةٍ تبدو له مغامرةً خطرةً، وكلّ تجربةٍ مختلفةٍ تفسّر كخطرٍ لا كفرصةٍ. ومع هٰذا التّردّد المستمرّ، تتلاشى المبادرة، وتضيع الفرص على من لا يمتلك الجرأة الكافية للانطلاق.
ولا يتوقّف أثر هٰذه العقليّة عند حدود القرارات، بل يمتدّ ليخنق القدرة على التّعلّم من الفشل؛ فحين يرى الإنسان كلّ إخفاقٍ دليلاً على عجزه، يفقد القدرة على تحويل التّجارب إلى دروسٍ، ويتحوّل الفشل إلى وصمةٍ تلاحقه بدل أن يكون سلّماً يرتقي به. وفي بيئة العمل، يظهر أثرها واضحاً، إذ يتجنّب أصحاب هٰذه الذّهنيّة تحمّل المسؤوليّة، ويلجؤون إلى تبرير الأخطاء بالظّروف أو بالإدارة أو بالسّوق، متناسين أنّ التّغيير الحقيقيّ يبدأ من داخلهم لا من خارجهم.
ويزداد خطر العقليّة المدمّرة حين تمتدّ إلى الإبداع، لأنّها تقتل روح التّجريب وتخنق الفضول الّذي هو أساس الابتكار؛ فحين يستولي الخوف على الفكر، يفقد العقل مرونته، ويتحوّل إلى آلةٍ تحفظ ما هو مألوفٌ وتخشى الجديد. وحين يغيب الفضول، يتوقّف التّطوّر، فيموت المشروع قبل أن يبدأ، ويتراجع الطّموح إلى حدودٍ ضيّقةٍ رسمها الخوف لا الواقع. [1]
كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من العقلية المدمرة؟
إنّ التّخلّص من العقليّة المدمّرة ليس مستحيلاً، ولٰكنّه يحتاج إلى وعيٍ متدرّجٍ وإرادةٍ صلبةٍ لمواجهة الذّات. وتبدأ الخطوة الأولى بالاعتراف بوجود المشكلة، لأنّ الإنكار هو ما يمدّها بالقوّة لتبقى. ثمّ تأتي مرحلة المراقبة الذّهنيّة، حيث يتابع الإنسان حواره الدّاخليّ ليميّز بين الأفكار البنّاءة وتلك الهدّامة. وحين يكتشف أنّه يكرّر عباراتٍ سلبيّةً، يجب عليه أن يوقفها فوراً ويستبدلها بتصريحاتٍ واقعيّةٍ تحفّزه على المحاولة، مثل: «سأتعلّم»، أو «سأحاول من جديدٍ»، أو «هٰذا الفشل تجربةٌ وليس نهايةً».
وبعد هٰذه الخطوة، ينبغي للإنسان أن يشيّد بيئةً عقليّةً جديدةً تقوم على التّجربة لا على الخوف، فكلّ نجاحٍ صغيرٍ يضعف سطوة العقليّة القديمة ويغرس في الذّهن شعوراً بالقدرة. كما يساعد الانخراط في بيئاتٍ إيجابيّةٍ ودوائر تحفّز النّموّ الذّاتيّ على تسريع التّحوّل الذّهنيّ، إذ تتأثّر العقول بعضها ببعضٍ كما تتأثّر النّار بالهواء. فحين يرى الإنسان نجاح الآخرين مصدر إلهامٍ لا منافسةٍ مرهقةٍ، يتحرّر من المقارنة المدمّرة، ويبدأ بالتّركيز على مساره الخاصّ.
ويعدّ تبنّي مبدأ «التّفكير النّمائيّ» نقطة تحوّلٍ جوهريّةً، لأنّ هٰذا النّمط العقليّ يعلّم الإنسان أنّ الفشل ليس نهايةً، بل خطوةً طبيعيّةً في طريق التّعلّم. فالعقل النّمائيّ يرى التّحدّي تدريباً لا تهديداً، ويعتبر الأخطاء فرصةً لصقل المهارات لا دليلاً على النّقص. وقد أكّدت الأبحاث النّفسيّة أنّ الأفراد الّذين يتبنّون هٰذا التّفكير يتمتّعون بقدرةٍ أعلى على الصّمود وتحقيق التّقدّم، لأنّهم يقيسون النّجاح بمقدار التّحسّن المستمرّ لا بالنّتائج الفوريّة. [2]
كيف تتحول العقلية المدمرة إلى قوة دافعة للنهوض؟
حين يدرك الإنسان أنّ العقل هو السّوق الحقيقيّة الّتي تحدّد مكاسبه وخسائره، يبدأ بتغيير طريقة تعامله مع ذاته قبل أن يغيّر تعامله مع العالم؛ فكلّ فكرةٍ سلبيّةٍ يمكن تحويلها إلى حافزٍ إذا وجّهت بإدراكٍ، وكلّ تجربةٍ مؤلمةٍ يمكن أن تصبح درساً إذا وظّفت بذكاءٍ. فحين يتحمّل الإنسان مسؤوليّة ذاته ويتوقّف عن تبرير عجزه بالظّروف، يكتشف أنّه يمتلك قوّةً داخليّةً تفوق كلّ ما حوله من تحدّياتٍ.
كما أن تحويل العقليّة المدمّرة إلى قوّةٍ خلّاقةٍ يحتاج إلى فهمٍ لآليّة التّفكير البشريّ؛ فالعقل بطبيعته يميل إلى تجنّب الألم أكثر من سعيه نحو المتعة، ولذٰلك يخشى المجهول. ولٰكن حين يعاد تدريب العقل على النّظر إلى الخطر بوصفه فرصةً للنّموّ، يتحوّل الخوف إلى حافزٍ، والمقاومة إلى دافعٍ للتّطوّر. وعندما يحدث هٰذا التّحوّل، يصبح الفشل معلّماً لا عدوّاً، ويغدو التّحدّي وقوداً لا عقبةً.
الخاتمة
لا يهزم الإنسان في الأسواق أو أمام المنافسين، بل يهزم حين تستولي العقليّة المدمّرة على تفكيره وتقيّد رؤيته؛ فحين ينتصر العقل الواعي على الخوف، يتحرّر الفرد من قيودٍ وضعها بنفسه. إنّ النّجاح يبدأ من الدّاخل، من تلك اللّحظة الّتي يقرّر فيها الإنسان أن يغيّر طريقة تفكيره قبل أن يغيّر واقعه، وأن يرى الفشل لا كإدانةٍ بل كإشارةٍ للاتّجاه الصّحيح. فالسّوق قد تتقلّب، والظّروف قد تتبدّل، غير أنّ الذّهن الواثق لا ينهار، والعقل المنفتح لا يهزم، لأنّهما يعلمان أنّ الاستثمار الأعظم ليس في المال أو السّوق، بل في بناء فكرٍ حرٍّ يخلق من كلّ أزمةٍ بدايةً جديدةً.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين العقلية المدمّرة والعقلية النامية؟ تركّز العقلية المدمّرة على الخوف وتجنّب الفشل، بينما العقليّة النّامية ترى الفشل تجربةً للتعلّم وفرصةً لتحسين الّذات؛ فالأولى تشلّ الإرادة، والثّانية تحفّز التقدّم.
- ما أبرز علامات وجود عقلية مدمّرة لدى الفرد؟ من علامات العقلية المدمّرة كثرة التّفكير السّلبيّ، وتبرير الفشل بالظّروف، والخوف من التّغيير، وضعف الثّقة بالنفّس، والمقارنة المستمرّة بالآخرين دون سعيٍ للتّحسّن.