التحديات الخفية وراء القيادة الأفقية: هل يمكن تجاوزها؟
حين تغيّر مفهوم القيادة من الهرمية إلى الأفقية، أعادت المؤسّسات توزيع السّلطة وبناء الثّقة، لكنّها واجهت تحدياتٍ خفيّةً تستلزم وعياً تنظيمياً وقيادةً تشاركيةً ذكيّةً

تغيّر مفهوم القيادة في القرن الحادي والعشرين بصورةٍ عميقةٍ ومتسارعةٍ، إذ انتقل من نموذجٍ هرميٍّ يركّز على شخصٍ واحدٍ يوجّه الآخرين من موقعٍ سلطويٍّ، إلى نموذجٍ أكثر انفتاحاً وتشاركيّةً هو القيادة الأفقيّة، الّتي أعادت توزيع موازين القوّة داخل الفريق؛ فلم تعد القيادة تقتصر على القائد الفرد، بل أصبح القرار نتاجاً لتفاعل العقول لا أوامر السّلطة. ومن خلال هٰذا التّحوّل، سعت المؤسّسات إلى خلق بيئةٍ قائمةٍ على التّعاون والثّقة والمشاركة، حيث يتشارك الأفراد في التّفكير والتّنفيذ والمسؤوليّة على حدٍّ سواءٍ. غير أنّ هٰذه المقاربة الجديدة، على الرّغم من مرونتها وجاذبيّتها، تخفي وراءها تحدّياتٍ خفيّةً تمسّ جوهر التّنظيم والإدارة، وتجعل من تطبيق القيادة الأفقيّة مهمّةً تحتاج إلى وعيٍ عميقٍ ومهارةٍ دقيقةٍ لضمان نجاحها.
مفهوم القيادة الأفقيّة وأهدافها
تقوم القيادة الأفقيّة على مبدإٍ جوهريٍّ مفاده أنّ السّلطة ينبغي ألّا تتركّز في يدٍ واحدةٍ، بل تتوزّع بشكلٍ متوازنٍ بين أعضاء الفريق بما يضمن مشاركة الجميع في صناعة القرار وتحمّل نتائجه. وترتكز هٰذه القيادة على الشّفافيّة في التّواصل، والثّقة المتبادلة، والعمل التّعاونيّ بدلاً من التّنافسيّ، فتجعل بيئة العمل فضاءً مفتوحاً للأفكار، حيث يملك كلّ فردٍ الحقّ في الإسهام في رسم الاتّجاه العامّ. ومن ثمّ، تهدف القيادة الأفقيّة إلى تمكين الأفراد من التّعبير بحرّيّةٍ عن آرائهم، وتعزيز إحساسهم بالمسؤوليّة الجماعيّة، بحيث لا يبقى القائد مصدراً للأوامر بل محفّزاً للفكر والإبداع.
تأتي القيادة الأفقيّة استجابةً طبيعيّةً لتحوّلات بيئات العمل الحديثة، خصوصاً في الشّركات النّاشئة والمؤسّسات التّكنولوجيّة والإبداعيّة الّتي تحتاج إلى سرعة التّكيّف والابتكار؛ فهي تزيل الحواجز البيروقراطيّة، وتسرّع تبادل المعرفة، وتختصر المسافة بين الفكرة والتّنفيذ. ومع ذٰلك، لا يخل هٰذا النّموذج من صعوباتٍ حقيقيّةٍ، إذ إنّ تطبيقه في بيئاتٍ ما زالت معتادةً على التّسلسل السّلطويّ يتطلّب تغييراً عميقاً في الثّقافة المؤسّسيّة وسلوك الأفراد على حدٍّ سواءٍ. [1]
التحديات الخفية وراء القيادة الأفقية: هل يمكن تجاوزها؟
تعدّ القيادة الأفقيّة من أكثر النّماذج جرأةً في إعادة تعريف السّلطة داخل المؤسّسات، غير أنّها تواجه سلسلةً من التّحدّيات الدّقيقة الّتي قد لا ترى بالعين المجرّدة لكنّها قادرةٌ على إضعاف بنيتها من الدّاخل. وفيما يلي أبرز هٰذه التّحدّيات مع تحليلٍ موسّعٍ لسبل التّعامل معها:
غموض الأدوار والمسؤوليات
يعدّ غياب الوضوح في تحديد الأدوار أحد أخطر التّحدّيات الّتي تواجه القيادة الأفقيّة، إذ يؤدّي إلغاء التّسلسل الهرميّ إلى تداخل الصّلاحيّات بين الأفراد. وحين لا ترسم الحدود بوضوحٍ، يتردّد الأعضاء في اتّخاذ القرارات خوفاً من تجاوز صلاحيّاتهم أو الوقوع في التّكرار. ومع مرور الوقت، يؤدّي هٰذا الغموض إلى بطءٍ في الإنجاز وانخفاضٍ في الإنتاجيّة وتراجعٍ في مستوى الثّقة بين أعضاء الفريق، ممّا يضعف الأداء الجماعيّ ويفقّد العمل تناسقه.
ولتجاوز هٰذا التّحدّي، يجب أن يبنى النّظام الدّاخليّ على مبدإ «الوضوح التّنظيميّ»، أي أن تحدّد المسؤوليّات بدقّةٍ دون أن تقيّد حرّيّة التّفكير والمبادرة. ويمكن، في هٰذا الإطار، أن يطبّق مبدأ «القيادة الموزّعة»، بحيث يتولّى كلّ فردٍ مسؤوليّة القيادة في مجاله التّخصّصيّ، بينما تبقى الرّؤية العامّة مشتركةً. وبهٰذا، يدمج النّظام بالمرونة وتحفظ روح المساواة دون أن يفقد المشروع توازنه أو فاعليّته.
بطء اتخاذ القرار بسبب غياب السلطة المركزية
يحتاج اتّخاذ القرار الجماعيّ في القيادة الأفقيّة وقتاً أطول من القرار الفرديّ، لأنّه يمرّ بمراحل النّقاش والتّقييم والتّصويت. وفي غياب سلطةٍ مركزيّةٍ تحسم الأمور بسرعةٍ، يتأخّر الحسم، ويتفاقم التّردّد خصوصاً في المواقف الطّارئة الّتي تحتاج إلى قراراتٍ فوريّةٍ؛ فبين الرّغبة في التّوافق والخوف من التّفرّد، تصاب القيادة الأفقيّة أحياناً بشللٍ تنظيميٍّ يبطئ سير العمل ويربك الفريق ويفقده زخمه.
ولتجاوز هٰذه الإشكاليّة، ينبغي أن توضع آليّةٌ دقيقةٌ لاتّخاذ القرار، تجمع بين المشاركة والسّرعة في آنٍ واحدٍ. ويمكن أن يعتمد التّصويت بالأغلبيّة أو يحدّدت قياداتٌ ظرفيّةٌ تخوّل الحسم في المواقف الّتي تتطلّب تدخّلاً عاجلاً. كما يمكن استثمار الأدوات الرّقميّة الّتي تساعد على تسريع تبادل الآراء وتوثيق القرارات بشكلٍ فوريٍّ، ممّا يحافظ على فاعليّة الفريق دون الإخلال بروح التّشارك والمساواة الّتي تميّز القيادة الأفقيّة. [2]
ضعف المساءلة الفردية
يؤدّي توزيع السّلطة بالتّساوي في القيادة الأفقيّة أحياناً إلى تراجع الإحساس الشّخصيّ بالمسؤوليّة، إذ يعتقد بعض الأفراد أنّ القرار جماعيٌّ وأنّ المسؤوليّة مشتركةٌ، فيضمر دافع المحاسبة الذّاتيّة. ومع مرور الوقت، يتراجع مستوى الجودة ويضعف التّزام الأفراد، لأنّ الجميع مسؤولٌ نظريّاً ولكن لا أحد يحاسب فعليّاً.
ولمعالجة هٰذا الخلل، يجب أن يربط الأداء الفرديّ بالنّتائج الجماعيّة ضمن نظامٍ واضحٍ للمساءلة؛ فالمشاركة في القرار لا تعني إلغاء المسؤوليّة، بل إعادة تشكيلها على أساس الثّقة والعدل. ويستحسن عقد اجتماعاتٍ دوريّةٍ تعرض فيها النّتائج بشفافيّةٍ، وتناقش النّجاحات والإخفاقات بروحٍ تعلّميّةٍ تهدف إلى التّطوّر وتبادل الخبرة وتحسين الأداء باستمرارٍ.
صراعات خفية بين الشخصيات القوية
يبرز غياب التّسلسل الإداريّ التّقليديّ في القيادة الأفقيّة تداخلاً جديداً في ديناميكيّات القوّة، فقد تنشأ صراعاتٌ خفيّةٌ بين أفرادٍ يمتلكون نفوذاً فكريّاً أو خبرةً أطول، ويتحوّل الحوار أحياناً إلى منافسةٍ خفيّةٍ على التّأثير داخل الفريق، ممّا يؤدّي إلى انقسامٍ ويضعف وحدة الصّفّ ويهدّد الانسجام. وغالباً ما تتفاقم هٰذه الصّراعات بسبب غياب الوعي العاطفيّ أو ضعف مهارات التّواصل الفعّال.
ولتجاوز هٰذه المعضلة، ينبغي أن تبنى الثّقافة الدّاخليّة للفريق على مبدإ الاحترام المتبادل وقبول الآراء المختلفة. كما يجب تدريب الأعضاء على مهارات إدارة الخلاف والتّواصل غير العنيف، وتشجيع الحوار الّذي يركّز على الفكرة لا على الشّخص. وعندما يمارس النّقاش بتوازنٍ وشفافيّةٍ، تتحوّل الاختلافات من مصدرٍ للتّنافس إلى موردٍ للتّكامل والإثراء الفكريّ. [2]
الخاتمة
يظهر الواقع أنّ القيادة الأفقيّة ليست مجرّد تغييرٍ في الهيكل الإداريّ، بل هي تحوّلٌ ثقافيٌّ عميقٌ في طريقة النّظر إلى السّلطة والعمل الجماعيّ. فهي تعيد تشكيل القيادة كممارسةٍ جماعيّةٍ قائمةٍ على التّعاون والثّقة والمسؤوليّة المشتركة، بدلاً من السّيطرة والأوامر. وعلى الرّغم من أنّها تواجه تحدّياتٍ خفيّةً كغموض الأدوار وضعف المساءلة وبطء اتّخاذ القرار، فإنّ تجاوز هٰذه العقبات ممكنٌ عندما تدار القيادة الأفقيّة بذكاءٍ تنظيميٍّ وبثقافةٍ داعمةٍ للتّواصل والاحترام والتّعاون.
شاهد أيضاً: كيف تدير تنوع أساليب القيادة في فريقك؟
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين القيادة الأفقية والقيادة الهرمية؟ تعتمد القيادة الأفقية على المشاركة الجماعيّة وتوزيع الصّلاحيات بين أعضاء الفريق بالتّساوي، بينما ترتكز القيادة الهرميّة على وجود قائدٍ واحدٍ يوجّه الآخرين من الأعلى إلى الأسفل؛ فالقيادة الأفقية تعزّز الإبداع والتّعاون، أمّا الهرمية فتركز على الانضباط وسرعة القرار.
- كيف يمكن للمؤسسات الانتقال من القيادة الهرمية إلى الأفقية بنجاح؟ يمكن تحقيق ذلك تدريجيّاً عبر تقليص المستويات الإداريّة، وتمكين الموظّفين من المشاركة في القرارات الصّغيرة أولاً، ثم التّوسّع إلى قرارات أكبر. كما ينبغي تدريب القادة على أسلوب التّيسير بدلاً من التّوجيه، وتأسيس ثقافة عملٍ قائمةٍ على الثّقة والانفتاح والمسؤوليّة المشتركة.