الإرهاق العاطفي: السبب الخفي وراء انخفاض أداء القادة
حين تتسارع وتيرة العمل وتتعاظم الضّغوط، يجد القادة أنفسهم في صراعٍ خفيٍّ يستنزف طاقتهم العاطفيّة ويقوّض قدرتهم على الإلهام واتّخاذ القرار بصفاءٍ وثباتٍ
يخوض القادة اليوم معركةً معقّدةً داخل بيئة عملٍ تتغيّر بسرعةٍ مذهلةٍ، وتزداد فيها المسؤوليّات ضغطاً وتراكماً يوماً بعد يومٍ، فتتآكل طاقتهم النّفسيّة والعاطفيّة شيئاً فشيئاً من دون أن يدركوا ذلك بوضوحٍ. وبينما يسعى القائد إلى الحفاظ على رباطة جأشه أمام فريقه وإظهار الثّقة والسّيطرة، يتسرّب إليه عاملٌ خفيٌّ يضعف كفاءته تدريجيّاً ويستنزف قدرته على الحكم والابتكار، وهو ا لإرهاق العاطفي. لا يظهر هذا الإرهاق فجأةً، بل يتسلّل بهدوءٍ إلى قلب القائد وعقله حتّى يتحوّل إلى عبءٍ ثقيلٍ يطال رؤيته وتواصله مع فريقه ويعرّض أداءه للانخفاض. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إدراك أنّ تراجع القيادة لا يرتبط دائماً بسوء التّخطيط أو نقص المهارة، بل كثيراً ما يكون نتيجةً لتراكم الإرهاق العاطفيّ غير المدار.
مفهوم الإرهاق العاطفي
يواجه القائد في حياته اليوميّة مزيجاً متداخلاً من الانفعالات المتكرّرة والضّغوط المستمرّة، إذ يتحمّل مسؤوليّة الفريق والنّتائج في آنٍ واحدٍ، فيستنزف بذلك طاقته النّفسيّة والعاطفيّة تدريجيّاً من دون أن يشعر. وعندما تتراكم هذه الضّغوط من دون فترات راحةٍ كافيةٍ أو دعمٍ تنظيميٍّ فعليٍّ، يبدأ الإرهاق العاطفيّ بالظّهور كمؤشّرٍ خطيرٍ ينذر بتدهور الأداء. وتشير الدّراسات الحديثة إلى أنّ هذا النّوع من الإرهاق لا يقتصر على التّعب الجسديّ، بل يمتدّ ليضعف الحافز ويشوّش التّفكير ويقلّل من جودة القرارات. ففي دراسةٍ أجريت على القادة في الولايات المتّحدة، أبلغ اثنان وسبعون في المائة منهم عن شعورٍ واضحٍ بالاستنزاف العاطفيّ قبل أن يدركوا تراجع أدائهم.
وعند هذه المرحلة، لا تتأثّر كفاءة القائد وحده، بل تمتدّ التّداعيات إلى بيئة العمل بأكملها، فتتراجع الالتزامات، وتضعف الثّقة، ويتباطأ التّنفيذ. فالإرهاق العاطفيّ ليس أزمةً فرديّةً، بل خللٌ مؤسّسيٌّ صامتٌ يتسلّل إلى جذور الإنتاجيّة ويقوّض روح الفريق من الدّاخل. [1]
الأسباب الكامنة وراء الإرهاق العاطفي لدى القادة
يتولّد الإرهاق العاطفيّ من مجموعةٍ متشابكةٍ من العوامل التّنظيميّة والنّفسيّة، تبدأ بتراكم المسؤوليّات اليوميّة وتستمرّ حتّى تصل إلى استنزافٍ كاملٍ للطّاقة الذّهنيّة والعاطفيّة: [1]
- يفاقم غياب فترات الرّاحة الفعليّة والتّفويض المتوازن من حالة الضّغط المستمرّ، إذ يتحمّل القائد أكثر ممّا ينبغي دون مساحةٍ كافيةٍ للتّجديد.
- يسهم التّفاعل الدّائم مع الأفراد وإدارة الصّراعات الدّاخليّة في إنهاك المشاعر؛ فالقائد لا يدير مهامّاً فقط، بل يدير عواطف الآخرين أيضاً، وهذا ما يعرف بالعمل العاطفيّ الّذي يعدّ على المدى الطّويل مرهقاً كالإجهاد البدنيّ.
- يزيد غياب الدّعم المؤسّسيّ من سوء الوضع، فعندما لا يجد القائد قيادةً أعلى تسانده أو بيئةً تشجّعه، يشعر بالعزلة ويصبح أكثر عرضةً للاستنزاف النّفسيّ.
- يؤدّي ضعف التّوازن بين الحياة الشّخصيّة والمهنيّة إلى حرمان القائد من فرص التّعافي الذّهنيّ، فيعيش في دوّامةٍ من الإجهاد المستمرّ.
وبذلك ينتج الإرهاق العاطفيّ عن تفاعلٍ معقّدٍ بين ضغط المهامّ وتراجع الدّعم وضعف الاستراحة الذّهنيّة، وهو ما يضعف صمود القائد وقدرته على الاستمرار بثباتٍ.
علامات الإرهاق العاطفي لدى القادة
لا يعلن الإرهاق العاطفيّ عن نفسه بصوتٍ مرتفعٍ، بل يظهر في تفاصيل صغيرةٍ تكشف عن تراجع الحيويّة القياديّة. فعندما يفقد القائد حماسه ويصبح متردّداً في اتّخاذ القرارات أو بطيئاً في تنفيذها، تكون أولى الإشارات قد بدأت بالظّهور. كما يتجلّى الإرهاق في ضعف التّفاعل الاجتماعيّ وانخفاض القدرة على التّواصل الإيجابيّ، إذ يميل القائد إلى الانسحاب أو الصّمت في المواقف الّتي تتطلّب حواراً ودعماً.
كذلك، تضعف السّيطرة العاطفيّة، فيصبح أبسط اجتماعٍ مصدراً للإجهاد، وتنخفض القدرة على تحفيز الفريق أو نقل الطّاقة الإيجابيّة إليه. ومع الوقت، تتأثّر العلاقات داخل الفريق وتزداد الشّكاوى، فيفقد القائد ثقته بتأثيره ويشعر بالعزلة. وتشير الدّراسات إلى أنّ القائد الّذي يصل إلى هذه المرحلة غالباً ما يعاني من ارتفاعٍ في مستويات الإرهاق النّفسيّ، ممّا يدفع بعضهم إلى التّفكير في ترك مناصبهم بحثاً عن التّوازن المفقود. [2]
تأثير الإرهاق العاطفي على أداء القادة والمؤسسات
تنعكس آثار الإرهاق العاطفيّ على الأداء القياديّ والمؤسّسيّ في مستوياتٍ متعدّدةٍ تتجاوز حدود المزاج أو التّعب الشّخصيّ. فعندما تضعف طاقة القائد، تتراجع فاعليّته في اتّخاذ القرارات المصيريّة، وتفقد المؤسّسة بوصلتها التّنفيذيّة. كما يؤدّي الإنهاك المستمرّ إلى ضبابيّة الرّؤية الاستراتيجيّة، إذ يصبح التّفكير المبتكر عبئاً لا إلهاماً.
وبينما يضعف التّفاعل الإنسانيّ مع الفريق، تبدأ فجوات التّواصل بالاتّساع، فيسود سوء الفهم وتتراجع روح الانتماء. ومع تزايد هذا التّآكل العاطفيّ، ترتفع معدّلات المغادرة وتفقد المؤسّسة عناصرها المتميّزة، لتجد نفسها أمام أزمة استقرارٍ حقيقيّةٍ. والأسوأ من ذلك، أنّ الإرهاق العاطفيّ يبطئ وتيرة الابتكار ويجعل بيئة العمل أكثر تحفّظاً وخوفاً من التّجريب.
ومن هنا، يصبح التّعامل مع الإرهاق العاطفيّ واجباً استراتيجيّاً لا خياراً رفاهيّاً، لأنّ حماية القائد من الاستنزاف تعني حماية المؤسّسة من الانهيار التّدريجيّ في أدائها وثقافتها.
الخاتمة
الإرهاق العاطفيّ ليس ظاهرةً نفسيّةً عابرةً، بل عائقاً استراتيجيّاً خفيّاً يهدّد فاعليّة القيادة واستدامتها. فالقائد المنهك لا يستطيع أن يلهم أو يبتكر أو يقود نحو المستقبل مهما كانت مهاراته التّقنيّة عاليةً. ولذلك، ينبغي أن تعامل رفاهيّة القائد النّفسيّة كجزءٍ من النّظام الإداريّ، لا كامتيازٍ شخصيٍّ. فحين يستعاد التّوازن بين الجهد والعاطفة، تستعيد القيادة معناها الحقيقيّ، ويتحوّل القائد من منفّذٍ للمهامّ إلى صانعٍ للثّقة ومحفّزٍ للطّاقات البشريّة.
-
الأسئلة الشائعة
- كيف يختلف الإرهاق العاطفي عن الإرهاق الجسدي؟ يظهر الإرهاق الجسديّ في التّعب البدنيّ الواضح، أمّا الإرهاق العاطفيّ فيؤثّر على المشاعر والانفعالات وقدرة القائد على التّواصل والتّفكير الإبداعيّ.
- ما العوامل التي تساهم في زيادة الإرهاق العاطفي لدى القادة؟ تشمل العوامل التي تساهم في زيادة الإرهاق العاطفي لدى القادة: ضغط المسؤوليّات، وضعف الدّعم التّنظيميّ، والتّفاعل العاطفيّ المفرط مع الفريق، وانعدام التّوازن بين الحياة المهنيّة والشّخصيّة.