من الذكاء الاصطناعي إلى النجاح: رهانات قادة الخليج!
حين تواجه الشركات في الخليج موجة التكنولوجيا المتسارعة، ينجح القادة الذين يحوّلون الذكاء الاصطناعي وأدوات العصر إلى محرّكات نموّ مستدامة وقيمة فعلية للعملاء
هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
ادخل أيّ مجلس إدارةٍ في دبي أو الرياض أو الدوحة اليوم، وستجد النّقاش يتّجه حتماً نحو أحدث التّقنيات البرّاقة، من الذّكاء الاصطناعيّ (AI) وسلسلة الكتل إلى العوالم الافتراضيّة، حيث يسعى كلّ قائدٍ للظّهور مبتكراً وجريئاً ومستعدّاً للمستقبل. ولكن الحقيقة المؤلمة أنّ التّقنية وحدها لا تصنع النّموّ، فالغالبيّة العظمى من التّحوّلات الرّقميّة تفشل. ووفقاً لشركة الاستشارات الإداريّة العالميّة "بين آند كومباني" (Bain & Company)، فإنّ 80% منها لا تحقّق أهدافها، وذلك لأنّ القادة يعاملون التّقنية كغايةٍ بحدّ ذاتها، لا كأداةٍ لإنتاج قيمةٍ حقيقيّةٍ للعملاء
إذن، فالقادة الّذين سيتقدّمون فعلاً في الخليج العربي ليسوا من ينفقون أكثر على أحدث الأدوات، بل أولئك الّذين يتحدّون التّقنية، ويخضعونها للفحص والانضباط، ويستثمرونها استراتيجيّاً لتوليد نموٍّ متراكمٍ. واستناداً إلى خبرتي كمسؤولٍ تنفيذيٍّ ومستثمرٍ ومستشارٍ في الأسواق العالميّة والإقليميّة، أقدّم هنا 5 طرقٍ يمكن للقادة من خلالها تحقيق ذلك بدقّةٍ وفاعليّةٍ:
التقنية كموضة: لا تركض وراء الصّيحات العابرة
تتقلّص اليوم دورات التّقنية بسرعة غيرٍ مسبوقةٍ؛ فما كان يُعدّ سابقاً اتّجاهاً يمتدّ لعقدٍ كاملٍ صار الآن فقاعة ضجّةٍ لا تتجاوز سنةً أو سنتين، فيما تتقلّص نافذة العائد على الاستثمار بسرعةٍ مماثلةٍ، ويبهت حتّى وهج كونك "المبادر الأوّل" من منظور العلاقات العامّة أسرع من أيّ وقتٍ مضى.
في الخليج، تحرق كثيرٌ من الشّركات أموالها لملاحقة الصّيحات وإبهار أصحاب المصلحة، سواء عبر تجربة ذكاءٍ اصطناعيٍّ أوّليّةٍ، أو متجرٍ افتراضيٍّ في العوالم الافتراضيّة، أو بيانٍ صحفيٍّ عن سلسلة الكتل. ولكن حين يتلاشى الاهتمام، تبقى التّكاليف غارقةً بلا أيّ ميّزةٍ دفاعيّةٍ.
لتحدّي هذه المعادلة، اطرح سؤالاً واحداً قبل أيّ إنفاقٍ: هل سيستمرّ هذا الاستثمار في خلق قيمةٍ لعملائي بعد انحسار الضّجة؟ إذا كان الجواب لا، احتفظ بأموالك، لأنّ الانضباط في قول "لا" لا يقلّ أهميّةً عن الشّجاعة في قول "نعم".
شاهد أيضاً: 6 قواعد لجمع التمويل للشركات الناشئة
التّقنية كلعبةٍ: فرّق بين الفضول والاستراتيجيّة
تعزّز تجربة الأدوات الجديدة -مثل النّماذج اللّغويّة الكبيرة (LLMs) في المنزل أو المكتب- الفضول والإبداع وتفتح آفاق التّعلّم، لكن اعتبار هذه التّجارب هوايةً مماثلةً لاستراتيجيّة العمل أمرٌ خطيٌر. إذ إنّ الواقع تغيّر: الحوسبة التّقليديّة حتميّةٌ، فمعادلة "2+2" ستظلّ دائماً تساوي 4، أمّا الذّكاء الاصطناعيّ والنّماذج اللّغويّة الكبيرة فهي قائمةٌ على الاحتمالات لا اليقين، وإدخالها في أعمالك من دون فهم هذا الاختلاف يشبه توظيف موظّفٍ عبقريٍّ لكنّه غير متوقّعٍ؛ يجب أن تعرف أين توظفه، وكيف تشرف عليه، ومتى لا تعتمد عليه.
ولتجاوز هذا الخطر، فرّق بوضوحٍ بين الاستكشاف والتّنفيذ، أي شجّع فرقك على التّجربة واللّعب، ولكن عند دمج التّقنية في العمليّات الأساسيّة، استخدم التّفكير على أسس الأوليّة ولا تخلط بين الحداثة والضّرورة.
التّقنيّة كرمزٍ: الانطباعات لها تاريخ انتهاء
لا بأس باستخدام التّقنية لأغراض الإيحاء والظّهور؛ فواجهة عملاءٍ متقدّمةٌ مدعومةٌ بالذّكاء الاصطناعيّ أو عرض نموذجٍ رقميٍّ في معرضٍ تجاريٍّ يمكن أن يترك انطباعاً لدى العملاء والمنافسين والمورّدين، ويمنحك مصداقيّةً مؤقّتةً، لكن عليك أن تعالجها كما هي: مجرّد انطباعٍ بصريٍّ.
المشكلة أنّ استراتيجيّات التّقنية كرمزٍ قصيرة العمر؛ فكما في الموضة السّريعة، يتحوّل العرض الأحدث اليوم إلى المعيار المتوقَّع غداً، والأسوأ أنّ أيّ مبالغةٍ مكلفةٍ أو تقويضٍ للثّقة قد تنقلب ضدّك. ولتحدّي ذلك، اجعل إنفاقك على الإيحاء محسوباً وأصليّاً، أبهِر دون إسرافٍ، والأهمّ ألّا تَعد بمستقبلٍ لا تستطيع تحقيقه، ففي الخليج، حيث السّمعة والثّقة عملة لا تُقدَّر بثمنٍ، قد تكلّفك المبالغة أكثر من الخسارة الماليّة ذاتها.
التّقنية كأداةٍ: اعرف من يربح فعلاً
غالباً ما يصبح اللّجوء إلى التّقنية الجاهزة أمراً لا مفرّ منه، فمنافسوك يعتمدون عليها، وعملاؤك يتوقّعونها، وفي بعض الحالات تصبح ضرورةً دفاعيّةً. ولكن الخطر يكمن في أن تُظنّ الأدوات استراتيجيّةً.
كما قال المستثمر الأمريكي الملياردير "تشارلي مونجر" (Charlie Munger) في مدرسة الأعمال بجامعة جنوب كاليفورنيا (USC Business School) عام 1994، أكبر المستفيدين من الأدوات المعياريّة هم البائع الذي يطرحها، والمستهلك النّهائيّ الذي يجنّي من انخفاض الأسعار بفعل زيادة الإنتاجيّة، أما الخاسر في كثيرٍ من الأحيان فهو أنت، الشّركة التي تتقلّص هوامشها وتصبح نماذج أعمالها أكثر تقليديّةً.
خذ مثال التّجارة الإلكترونيّة الإقليميّة، حيث تتاح لكلّ اللّاعبين نفس المنصّات وأنظمة الدّفع والتّقنيات اللّوجستيّة. النّتيجة حتميّةٌ: أسعارٌ منخفضةٌ، وهوامشٌ ضئيلةٌ، وسباقٌ نحو القاع. ولتجاوز هذا التّحدّي، اسأل نفسك: إذا كان كلّ منافسٍ في السّوق يمتلك هذه البرمجيّات، فأين تكمن ميّزتي التّنافسيّة؟ استخدم الأدوات بحكمةٍ، ولكن لا تجعلها أساس خندق حماية عملك.
التّقنية كمحرّكٍ للنّموّ: ابنِ عجلات نموٍّ فريدةً
هنا تتجلّى معاني القيادة الحقيقيّة؛ فالسّبيل الوحيد لتحقيق نموٍّ مستدامٍ عبر التّقنيّة هو تحويلها إلى محرّك نموٍّ خاصٍّ بك، يستند إلى أصولك المتميّزة -علاقاتك مع العملاء، وبياناتك التّاريخيّة، وموقعك الجغرافيّ، ومزاياك التّنظيميّة- وتجميعها في دوّارٍ تراكميٍّ يكتسب قوّةً مع الزّمن.
أسمّي هذا إطار (SLASOG): احفظ (Save)، استثمر (Leverage)، نسّق (Align)، بسّط (Simplify)، حسّن (Optimize)، وازدهر (Grow). يبدأ الأمر بتقليص النّفقات المهدورة، ثم استثمار المزايا غير المتكافئة ومواءمة الحوافز، تليها تبسيط العمليّات، وتحسين الأثر، وصولاً إلى النّموّ عبر تراكم الملكيّة والمعرفة.
على أرض الواقع، قد يعني ذلك أن تبني شركة لوجستيّاتٍ في السّعودية نماذج توصيلٍ تنبؤيّةً اعتماداً على بيانات مساراتها الفريدة، أو أن تطوّر جهةٌ صحيّةٌ في الإمارات منصّة رفاهيّةٍ شخصيّةٍ تستفيد من سنواتٍ من نتائج المرضى مجهولة الهويّة. هذه ليست حلولاً جاهزةً، بل خنادق قائمة على البيانات تحوّل التّقنية من مجرّد تكلفةٍ إلى محرّكٍ للنّموّ.
أصرّ على أن ترتبط كلّ مبادرةٍ تقنيّةٍ بعجلة نموٍّ تتضاعف قوّتُها بمرور الزّمن؛ فإن لم تُنشئ خندقاً يحمي عملك، فهي -لا محالة- مجرّد تشتيتٍ .
من البريق إلى الاستراتيجيّة
يعيش الخليج العربيّ اليوم نقطة تحوّلٍ تاريخيّةً، إذ تُستثمر تريليونات الدّولارات في تنويع الاقتصاد، وتوسيع الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة، وبناء أبطالٍ عالميّين. وفي هذا المشهد، ستظلّ التّقنية أداةً محوريّةً، لكن قيمتها الحقيقيّة ستظهر فقط للقادة الذين يتحدّونها ويفهمونها، لا لأولئك الّذين يستهلكونها بلا وعيٍ.
لذلك، لا تركض وراء التّقنية كموضةٍ، ولا تخلط بين الألعاب والهوايات والاستراتيجيّة، ولا تفرط في الإنفاق على رموز الانطباع، ولا تعتمد على الأدوات بلا تدقيقٍ، بل ركّز على بناء محرّكات نموٍّ متماسكةٍ، تنبثق من قيمة عملائك الفريدة وتستند إلى مزاياك التّنافسيّة الخاصّة.
ففي نهاية المطاف، لن تزدهر الشّركات التي تتّبع كلّ صيحةٍ عابرةٍ، بل تلك الّتي تحوّلت فيها التّقنيّة إلى محرّكاتٍ تراكميّةٍ لإنتاج القيمة وابتكارها بشكلٍ مستدامٍ
عن المؤلّف
ريتاڤان (Ritavan)، صاحب عملٍ ومسؤولٌ تشغيليٌّ ومستثمرٌ ومتحدّثٌ، هو مؤلّف كتاب "تأثير البيانات" (Data Impact)، وقد أمضى أكثر من عقدٍ في قيادة مبادراتٍ قائمةٍ على البيانات عبر صناعاتٍ تقليديّةٍ متنوّعةٍ، محقّقاً تأثيراً تجاريّاً ملموساً بملايين اليوروهات. ويقدّم كتابه الأخير رؤيةً مترابطةً وعمليّةً لكيفيّة تسريع خلق القيمة المدفوعة بالبيانات، موجّهةً للشّركات الطّامحة إلى تحقيق نجاحاتٍ بارزةٍ واستدامةٍ تنافسيّةٍ حقيقيّةٍ.