كيف تُطفئ شرارة الإرهاق في وظائف العمل بالساعة؟
جدولةٌ مرنةٌ، تواصلٌ صريحٌ، واستثمارٌ في الموظّفين: ثلاث ركائز عمليّة تقلب معادلة التّسرّب الوظيفيّ وتُعيد التّوازن إلى بيئات العمل الضّاغطة

هذا المقال متوفّر باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
لم يعدّ الإرهاق الوظيفي أزمةً تقتصر على أروقة الشّركات الكبرى، بل امتدّت آثاره لتضرب بجذورها في عمق المؤسّسات الصّغيرة، لا سيما تلك الّتي تعتمد على العمالة بالساعة، حيث تتجلّى وطأته أشدّ وأقسى. إذ تُشير نتائج تقرير "حالة القوى العاملة بالساعة لعام 2025" الصّادر عن شركة "ليجين تكنولوجيز" (Legion Technologies) إلى أنّ الإرهاق الوظيفي، إلى جانب معدّلات التّسرّب المرتفعة، باتا مصدر قلقٍ بالغٍ لنصف المدراء المشاركين في الاستطلاع، إذ عبّروا عن خشيتهم من فقدان وظائفهم. وفي الوقت ذاته، أفصح أكثر من نصف الموظّفين عن استعدادهم التّام لترك مجالاتهم المهنيّة الرّاهنة والانخراط في مساراتٍ جديدةٍ كليّاً، في محاولةٍ للنّجاة من دوامة الإنهاك المزمن.
تكشف هذه الأرقام، وسواها من المؤشّرات المرتبطة بالإرهاق الوظيفي، عن ناقوس خطرٍ يدقّ بإلحاحٍ، لا يمكن تجاهله. ففي دراسةٍ أُجريت عام 2025 من قبل شركة "مودل" (Moodle) المتخصّصة في برمجيّات المصادر المفتوحة، تبيّن أنّ 66% من الموظفين عبر مختلف القطّاعات يعانون من الإرهاق الوظيفي -وهو المعدّل الأعلى الذي تمّ تسجيله حتى الآن. ولم تسلم الشّركات الكبرى من تبعات هذه الظّاهرة، إذ شهدت مؤسّساتٌ مثل: "ستاربكس" (Starbucks) و"تشيبوتلي" (Chipotle) تصاعداً ملحوظاً في معدلات الإرهاق بين موظّفيها، الأمر الّذي أسهم في إبراز أزمةٍ حقيقيّةٍ في تقريرٍ صادرٍ عن موقع "ريستورانت دايف" (Restaurant Dive)، أشار إلى أنّ أكثر من 23,000 عاملٍ في قطّاع الخدمات يقدّمون استقالاتهم يوميّاً. وقد رُصدت هذه الأرقام في فبراير من عام 2024، إلّا أنّ الواقع لم يتغيّر كثيراً، وما زالت الشّركات تكابد آثار هذا النّزيف البشريّ الّذي يثقل كاهلها بمعدّلات تسرّبٍ آخذةٍ في الارتفاع.
ورغم أنّ الإرهاق يُعدّ من السّمات الملازمة للعمل بالساعة، خصوصاً في قطّاعاتٍ كثيفة الضّغط كخدمات الطّعام والشّركات الصغيرة، فإنّه ليس قدراً محتوماً لا فكاك منه. إذ تشير التّجارب المؤسسيّة إلى إمكانيّة الحدّ من آثاره السّلبيّة على العاملين والإنتاجيّة، متى ما أُحسن التّعامل معه باستراتيجياتٍ مدروسةٍ. وفي هذا السّياق، يطرح خبراء الموارد البشرية ومختصّو التّنظيم المؤسّسيّ 3 ممارساتٍ عمليّةٍ أثبتت فاعليّتها في تقليص معدّلات الإرهاق لدى العمّال بالساعة، وتعزيز التّماسك الجماعيّ على المدى البعيد داخل فرق العمل.
تعديل الجداول الزمنية للدوام بالساعة
لقد بلغ الموظّفون حدود طاقتهم، حتّى أفاد 61% من العمّال بالساعة في استطلاعٍ أجرته ليجين بأنّ المرونة تمثّل مطلبهم الأوّل والأكثر إلحاحاً؛ هذا النّداء لم يقتصر على العمّال وحدهم، إذ أيّدهم المدراء، حيث أشار 46% منهم إلى أنّ اضطراب الجداول الزمنية يُعدّ من أبرز العوائق الّتي تحول دون الاحتفاظ بالكفاءات.
في مدينة كانساس، تُدرك كاسيدي كاراواي، مديرة مقهى "أودلي كوريكت كوفي"، هذه الحقيقة جيداً. ومع فريقٍ يضمّ نحو 20 موظّفاً يعملون ما بين 32 و40 ساعةً أسبوعيّاً، لا تتوانى كاراواي عن تشجيعهم على تقليل ساعات العمل عندما تقتضي الحاجة. إذ تقول: "أنا أقول لهم: لديك إجازةٌ مدفوعةٌ، استعملها. خذ يوماً إضافيّاً، أو يوماً مقصوداً للرّاحة، لتنفصل تماماً عن ضغط العمل".
ومن جانبه، يشير ديلان رغلس، نائب رئيس قسم تنفيذ البرامج في "الخدمة المهنية اليهودية"، إلى أنّ أحد التّأثيرات العميقة للإرهاق يتمثّل في ضغوط الوقت، لا سيما عند الموظفين الذين يتحمّلون مسؤوليّاتٍ أُسريّةً كالعناية بالأطفال أو كبار السّن، ممّا قد يؤثّر سلباً في مستوى التزامهم الوظيفيّ. ومن هذا المنطلق، بدأت بعض الشّركات في استكشاف بدائل مرنةٍ، ومن أبرزها تجربة أسابيع العمل ذات الأيام الأربعة.
ووفقاً لمؤسسة "فور داي ويك غلوبال" "4 Day Week Global"، وهي جهةٌ تسعى إلى ترسيخ نموذج العمل لأربعة أيّامٍ أسبوعيّاً على الصّعيد العالميّ، أفاد 39% من الموظّفين المشاركين في البرنامج بأنّ مستويات التّوتر لديهم انخفضت بشكلٍ ملحوظٍ بعد خوض التّجربة.
وتعرب كاراواي عن دعمها الكبير لهذا النموذج قائلةً: "أنا من أشدّ المؤيّدين لأسبوع عملٍ لا يتجاوز 4 أيام، أو أقلّ إن أمكن. ولو توفّرت الموارد الماليّة الكافية، لكنّا منحنا الموظّفين يوماً خامساً مدفوعاً للرّاحة، بلا تردّدٍ".
أمّا ستيفن أندروود، نائب رئيس منهجيّات الأداء في شركة "إكسوس" (Exos) لإدارة التّدريب؛ فيقود فريقاً من المستشارين المعنيّين بتحسين توازن الحياة والعمل. وانطلاقاً من نقاشاتٍ داخليّةٍ عديدةٍ، بادرت الشّركة إلى اعتماد مبادرةٍ مرنةٍ تحت عنوان "جمعتك كما تشاء"، دون التّحوّل الكامل إلى نظام الأربعة أيّامٍ. ويوضح أندروود: "لا يعني هذا أنّنا لا نعمل يوم الجمعة إطلاقاً، بل أنّنا نتمتّع بهامشٍ من الحريّة يسمح لنا بإنجاز المهامّ وفق نسقنا الخاص -بدء اليوم في وقتٍ متأخّرٍ، الخروج في نزهةٍ صباحيّةٍ، أو ببساطةٍ احتساء فنجان قهوةٍ في هدوءٍ. وفي كثيرٍ من الأحيان، أجد نفسي أُنجز في ساعتين أو ثلاث من هذا اليوم ما لا أُنجزه في يوم عملٍ كاملٍ".
ويضيف أنّ المبادرة، الّتي انطلقت بتحفّظٍ من الموظّفين، سرعان ما بدأت تُؤتي ثمارها؛ فقد تبنّى الفريق عاداتٍ أكثر صحيّةً كتحسين نمط التّغذيّة، وزيادة النّشاط البدنيّ، وتحقيق نومٍ أكثر انتظاماً وعمقاً. ويختم بقوله: "نحن نثق بأنّك تعتني بنفسك وتفعل ما يلزم يوم الجمعة لتكون أفضل نسخةٍ من نفسك، وهذا وحده كفيلٌ بأن ينعكس إيجاباً على المؤسّسة بأكملها".
الاستثمار في الموظفين
تُكلّف معدّلات التّسرّب الشّركات أموالاً كان من الممكن استثمارها في تحسين بيئة العمل؛ فقد أظهرت بيانات ليجين تكنولوجيز أنّ نصف الموظفين العاملين بالسّاعة ينوون ترك وظائفهم خلال العام المقبل، بسبب قلّة فرص التّطوّر واستمرار الضّغوط النّفسيّة والمهنيّة.
يؤكّد رَغلس أنّ هذه الوظائف غالباً ما تكون منخفضة الأجر، ممّا يجعل المتقدّمين يعبّرون بصراحةٍ عن الضّغوط التي تثقل كاهلهم، وتأثيرها السّلبيّ على حياتهم وقدرتهم على الاستمرار في العمل. ويشير إلى أنّ بيئة العمل تلعب دوراً حاسماً في قرار الموظّف بالبقاء أو المغادرة، حيث أفاد 43% من موظّفي السّاعة في تقرير ليجين بأنّ شركاتهم لا تبذل أيّ جهدٍ لتحسين ظروف بيئة العمل.
وعلى ضوء هذا الواقع، طوّرت شركة إكسوس نموذجاً تشبيهيّاً يشبه مقعداً ثلاثي الأرجل، يمثّل كلّ منها جانباً من جوانب تجربة الموظّف: الفرد نفسه، البيئة الّتي يعمل فيها، وطبيعة العمل. ويؤكّد أندروود أنّ الإرهاق لن يتراجع بمجرّد تقليل أيّام العمل إذا استمر الموظّف في بيئةٍ سامّةٍ؛ فيقول: "أفضل أسبوع عملٍ كاملٍ في بيئةٍ إيجابيّةٍ على يومين في ثقافةٍ مسمومةٍ".
كما يضيف رغلس أنّ الموظفين يشكّلون استثماراً حقيقيّاً، فإذا ما أوليتهم الاهتمام المناسب، سيبادلونك بالجهد والإخلاص. ويشجّع أرباب العمل على التّعاون مع مؤسّسات تطوير القوى العاملة، مثل: الخدمة المهنية اليهودية، لضمان اعتماد نهجٍ شاملٍ في تصميم الوظائف، يشمل المزايا والتّعويضات التّنافسيّة، ووضوح توصيف الدّور الوظيفيّ، وكلّ ذلك يساهم في تقليل معدّلات الإرهاق والتّسرّب.
التواصل المفتوح
أثبت فتح المجال أمام الموظّفين للتّعبير عن هواجسهم فعاليّته في التّخفيف من آثار الإرهاق. ففي هذا السّياق، تجري كاسيدي كاراواي ثلاث جلساتٍ فرديّةٍ مع كلّ موظّفٍ سنويّاً، مخصّصةٍ للحديث عن الضّغوط والإرهاق المتراكم. وتؤكّد قائلةً: "أحرص على أن يبقى التّواصل مفتوحاً حول موضوع الإرهاق؛ لأنّه أمرٌ لا مفرّ منه في قطّاع الخدمات".
وتضيف أنّ بعض الموظّفين يُصارحونها عند بدء شعورهم بالإرهاق؛ فيلجؤون إلى طلب إجازةٍ لاستعادة نشاطهم. هذا النّوع من التّواصل أصبح جزءاً طبيعيّاً نتيجة التّرابط الوثيق بين أفراد الفريق. كما تعتمد كاراواي على استبياناتٍ تُرسل عبر غوغل فورمز، لقياس تفضيلات الموظّفين تجاه الورديّات المختلفة. وتوضّح: "حين يعمل النّاس في الورديّات التي يختارونها بأنفسهم أو الّتي تناسب حالتهم النّفسيّة، ستنخفض وتيرة الإرهاق".
من جهتها، تؤكّد مارجوري موريسون، المسؤولة المقيمة في الجمعية الأميركيّة لإدارة الموارد البشرية في مجال الصّحة العقليّة، على أهميّة الحديث الصّريح عن الإرهاق، مشدّدةً على ضرورة أن يدافع الموظّف عن نفسه بطريقةٍ بنّاءةٍ. وتنصح عند التّوجه إلى المدير أو المشرف بأن تُطرح المشكلة مصحوبةً بحلولٍ واقتراحاتٍ، لا مجرّد شكوى بلا معنىً. إذ تقول: "تذكّر أنّ أولويّتك الأولى هي إنجاز مهامك الوظيفيّة. تعال وقل: سأُنجز عملي، لكن هذه التّحديّات الّتي أواجهها".
الإرهاق هو تحدٍ يسعى كل مديرٍ إلى احتوائه، إلّا أنّه قلما توجد وصفةٌ واحدةٌ تناسب الجميع. وفي أغلب الأحيان، يبقى التّواصل الجيّد هو المهارة الأسهل والأكثر فاعليةً لدرء هذا الخطر.
تختم كاراواي بالقول: "جزءٌ مهمٌّ من إدارة النّاس هو أن تجعلهم يشعرون بأنّ لعملهم أثراً واضحاً؛ فهم بشرٌ يمرّون بأيّامٍ جيدّةٍ وأخرى سيئةٍ، وعليك أن تعترف بذلك وتلتقي بهم حيث هم".
الرأي الخبير الذي صاغته ناتالي أونكست (Natalie Onkst)، المتدرّبة التّحريريّة في الجمعيّة الأميركيّة للمهندسين الميكانيكيّين (ASME)، نُشِرَ في الأصل على موقع Inc.com.