في عصر الأرقام اللامعة: هل نقيس ما يستحق القياس فعلاً؟
وسط هوس المتابعين والتقييمات والانطباعات، تقع الشّركات النّاشئة في فخ الأرقام الزّائفة. فهل آن الأوان لإعادة النّظر في معايير النّجاح؟

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
في عالمٍ بات مهووساً بالأرقام، هل تساءل أحدكم يوماً عن مدى سهولة الوقوع في شرك قياس ما لا ينبغي قياسه؟ فعدد المتابعين، وتقييمات الشّركات، والانطباعات، ومدى الوصول؛ جميعها مؤشّراتٌ تتصدّر العروض التّقديميّة أمام المستثمرين، وتملأ منشورات مواقع التّواصل الاجتماعيّ. وليس في ذلك عجبٌ، فهي الأرقام الّتي تلمع في العناوين العريضة، وتنتشر كالنّار في الهشيم عبر لقطات الشّاشة، وتشدّ أنظار المستثمرين ببريقها الخادع.
لكن دعونا نُواجه الواقع بوضوحٍ: فليس كلُّ نموٍّ يدفعك قُدماً، ولا كلُّ زخمٍ يقودك إلى وجهةٍ ذات معنى. ثمّة أرقامٌ قد تبدو مبهرةً في ظاهرها -طفرةٌ في عدد الزّيارات، ارتفاعٌ سريع في أعداد المستخدمين، أو لحظةُ انتشارٍ لافتةٌ على وسائل التواصل الاجتماعي- لكنّها، رغم لمعانها، لا تشكّل بالضّرورة دلالةً على تقدّمٍ حقيقيٍّ أو نجاحٍ مستدامٍ؛ فقد تشير إلى حركةٍ، إلى نشاطٍ ما، نعم؛ لكنّها تظلّ في كثيرٍ من الأحيان بعيدةً عن أن تكون برهاناً على أثرٍ فعليٍّّ أو قيمةٍ طويلة الأمد.
وفي عالم البناء وريادة الأعمال، لا سيما في منطقتنا التي لا تزال أنظمتها البيئيّة في طور التّشكُّل والنّموّ، يغدو الخلط بين الانتباه والتّقدّم واحداً من أكثر الفخاخ خطورةً على المؤسّسين. وغالباً ما تبدأ هذه الرّحلة نحو الأرقام الزّائفة بنوايا تبدو بريئةً: تصفيقٌ حارّ في قمةٍ رياديّةٍ، أو ظهورٌ في وسيلةٍ إعلاميّةٍ لامعةٍ، أو تدفّقٌ مفاجئٌ للمتابعين إثر منشورٍ على "لينكدإن" (LinkedIn) نال إعجاب الكثيرين. كلّ ذلك يوحي بالتّقدّم، ويوهم بأنّ ما يحدث مهمٌّ. ولكن إن لم تكن على قدرٍ كافٍ من الوعي، سرعان ما تبدأ هذه الإشارات السّطحيّة في تشكيل تصوّرك الخاصّ للنّجاح؛ فتجد نفسك تبني من أجل الصّورة، لا من أجل الأثر، وتطارد السّرد الإعلاميّ بدلاً من أن تركّز على جوهر المهمّة ومعناها الحقيقيذ.
المشكلة أنّ المقاييس الجماليّة، مهما بدت جذّابةً، لا تُبنى بها شركاتٌ، ولا تُحلّ بها مشكلات العملاء، ولن تكون عوناً لك في اللّحظات العصيبة؛ فما يهمّ فعلاً -وما كان، وسيظلّ دائماً، هو الأهمّ- تلك المؤشّرات الهادئة الّتي لا تلمع في العناوين، لكنّها تحمل في طيّاتها جوهر النّجاح الحقيقيّ: كمعدّلات الاحتفاظ بالعملاء، والاحترام الذي يُكتسب عبر الزمن، والشّجاعة على النّهوض بعد كلّ إخفاقٍ، والقدرة على الظّهور في اليوم التّالي أكثر صلابةً ممّا كُنت عليه بالأمس.
وغالبًا، لا ينبثق هذا النّوع الحقيقيّ من التّقدّم عن استراتيجيّاتٍ صاخبةٍ أو عناوين جريئةٍ، بل يولد بهدوءٍ من بين أيدي فريقٍ يعمل في صمتٍ. أولئك الّذين يأتون يومًا بعد يومٍ، يعتنون بالتّفاصيل الصّغيرة، ويواصلون بثباتٍ حين يخفت الحماس من حولهم؛ إنّه ذلك الاتّساق الهادئ، الّذي لا يُحدث ضجيجاً ولا يلفت الأنظار، لكنّه في الخفاء يؤسّس لأرضيّةٍ صلبةٍ، تُبنى عليها النّجاحات المستدامة.
وبصفتي شخصاً يتابع أخبار النّظام الرّياديّ في المنطقة منذ أكثر من عقدٍ، يمكنني أن أقول بثقةٍ إنّ العمل الحقيقيّ نادراً ما يكون قابلاً للانتشار أو الاحتفاء؛ إنّه يجري خلف الأبواب المغلقة، قبل أن يرى المنتج النّور، وقبل أن يطرق المستثمر الباب. هو ذلك الجهد الدّؤوب، المتجرّد من البهرجة، البعيد عن الأضواء، والمكرّس لبناء شيءٍ يحاول أن يصمد، أن يترك أثراً، وأن يدوم.
هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنّ الاعتراف لا يحمل قيمةً، بل هو مهمٌّ، ولكن فقط حين يكون انعكاساً لتقدّمٍ حقيقيٍّ، لا مجرّد عرضٍ استعراضيٍّ يُرضي التّوقّعات الظّاهريّة. لهذا، إلى كلّ مؤسّسٍ يشقّ طريقه وسط هذا الضّجيج المتزايد: كُن واعياً لما تختار قياسه، متعمّداً فيما تسعى إلى تعزيزه. ولا تسمح للأرقام السّطحيّة أن تشتّت بصيرتك عن الإشارات العميقة، تلك الّتي تحمل المعنى وتدلّ على الأثر. ففي نهاية المطاف، ليس الهدف أن تكون مرئيّاً فحسب، بل أن تبني لتبقى.
نُشر هذا المقال لأوّل مرّةٍ في عدد يونيو 2025 من مجلة "عربية .Inc". لقراءة العدد الكامل عبر الإنترنت، اضغط هنا.