حين تعميك السلطة: لماذا لا يُقال لك كل الحقيقة؟
حين تتسلّل المجاملات إلى أروقة السّلطة، تفسد البصيرة، وتتحوّل القيادة من وعيٍ نافذٍ إلى غشاوةٍ مُغرورةٍ تعجز عن رؤية الخطر في صمته المطبّق

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
إذا كُنت تتولّى منصب قيادةٍ، أيّاً كان مستواه أو مجاله؛ فالغالب أنّك لا تسمع الحقيقة كما هي أو على الأقلّ، لا تصلك كاملةً، ولا بالقدر الكافي، ولا بالسّرعة الّتي تستحقّها. فمنذ اللّحظة الّتي تعتلي فيها موقع المسؤوليّة، يبدأ المحيطون بك بصياغة ما يقولونه وتجميل كيف يقولونه، وستلمح ذلك في إيماءاتهم المتسارعة، وابتساماتهم المتكرّرة، وموافقتهم التي تأتي على عجلٍ، وفي حذرهم المتزايد من أن يخطئوا أمامك أو يصدموك بما لا يرضيك.
فحتّى لو كنت تمارس سلطتك برفقٍ، وتحرص على ألّا تُثقل كاهلك بها، فإنّ مجرد وجودها -قوةً وهيبةً- يكفي ليجعل النّاس أكثر تحفّظاً في حضورك، وأكثر ميلاً لمجاملتك، وأقلّ استعداداً لمخالفتك أو مصارحتك بما قد يُزعجك. لا لأنهم متملّقون بطبعهم، بل لأنّهم بشرٌ. ومن طبيعة البشر، أن يسكنهم الخوف من خيبة ظنّ من يعوِّلون عليه، أو السّعي لكسب رضاه، ولو على حساب الحقيقة.
وإن كان ذلك الشّعور بالقبول والاتّفاق ممتعاً لك كقائدٍ، فهو في حقيقته خادعٌ، بل سامٌّ. إذ إنّه ينسج حولك حجاباً من الطمأنيّنة الكاذبة، ويزرع في قراراتك عوامل ضعفٍ خفيةٍ، لا تقلّ فتكاً بعقلك القياديّ عن السّمّ المتسلل في الشّرايين.
الخطر المزدوج
أولاً، يمكن أن يخلق هذا فجواتٍ معرفيّةً؛ فالنّسخة المعدّلة من الواقع الّتي تُعرض عليك، تكمن خطورتها في استحالة تمييزها عند وقوعها. ومن الصّعب للغاية اكتشاف متى يُحرّف أحدهم كلماته أو يختار الصّمت. ومع ذلك، من شبه المؤكّد أنّه يحدث بالفعل إلى حدٍ ما، وستقلّل بلا شكٍّ من مدى تكراره. وهذا يعني، حتماً، أنّك ستعاني من نقصٍ في المعلومات وثغراتٍ في المنطق، لا تعلم بوجودها، لكنّها قادرةٌ على تقويض حكمك بشكلٍ جذريٍّ.
ثانياً، قد تقلّل هذه البيئة من انفتاحك؛ فغياب الملاحظات الحقيقيّة والتّحديّات الفكريّة قد يبدو كأنّه تأكيدٌ لصّحة رأيك. وهذه الثّقة يمكن أن تكون مفيدةً أحياناً. ولكن، بمرور الوقت، تتحوّل إلى ثقةٍ مفرطةٍ. ومع ذلك، يبدأ القادة في الاعتماد أكثر على تجاربهم الشّخصيّة بدلاً من الأدلّة، ويظنّون أنّهم على صوابٍ أكثر ممّا هم عليه فعليّاً. وهذا ما يجعل القادة الذين يشعرون بالقوّة يستمعون لعددٍ أقلّ من النّاس ويتعلّمون أقلّ من الفشل. إذ تدفعهم الثّقة الزّائدة، إلى تفسير الملاحظات من خلال عدسة معتقداتهم المسبقة: إذا وافقت رؤيتهم، فهي ذكيّةٌ؛ وإذا لم تفعل، تُهمّش. بمعنى آخر، المشكلة لا تكمن فقط في أنّ النّاس يصبحون أقلّ صراحةً معك، بل أيضاً في أنّك، كلّما ارتقيت وظيفيّاً، أصبحت أقلّ استعداداً للاستماع لهم.
دائرة التسميم الصامت: فخ السلطة
تشكّل هذه المخاطر، حين تتآزر، ما أُسميه "فخّ السّلطة" دائرةٌ مسمومةٌ مغلقةٌ، تبدأ حين يُفهم غياب المعارضة على أنّه تأكيدٌ لصوابك، فيغذّي هذا التّأكيد ثقةً مفرطةً بالنّفس، تقودك بدورها إلى انغلاقٍ تدريجيٍّ عن النّقد والرّأي الآخر. ومع مرور الوقت، لا تلبث هذه الدّائرة أن تشتدّ وتشتبك مع تحيزاتنا البشريّة الطّبيعيّة، كميولنا إلى تصفية الأصوات وتفضيل المألوف منها، أو الانجذاب إلى ما يؤكّد قناعاتنا السّابقة؛ فإذا بنا ننسج حول ذواتنا جدراناً صامتةً، نحبس فيها الرّأي الواحد، ونمنع دخول كل ما يعارضه. نتوقّف عن سماع صوت المعترضين، بل نتوقّف عن البحث عنهم. ثم، في نهاية المطاف، نفقد حتّى القدرة على تمييز ذلك الصّوت حين يلوّح من بعيدٍ.
ومن المهمّ أن نُدرك أنّ هذا الانحراف السّلوكيّ لا يحمل طابعاً شخصيّاً أو صفةً نقيصةً فرديّةً، بل هو ميلٌ بشريٌّ طبيعيٌّ، يظهر لدى غالبية القادة، ويتسلّل إلى سلوكهم تدريجيّاً مع تقدُّمهم في المناصب؛ إنّه جزءٌ لا يُفصل عن تحديّات القيادة، لكنّه للأسف بات يتفاقم مع الزّمن. فاليوم، أصبح الشّعور بانعدام الأمان الوظيفيّ أكثر حضوراً، والتّعب والقلق بين الموظّفين أشدّ وطأةً ممّا كان عليه قبل ربع قرنٍ، ما يجعل النّاس أكثر حذراً، وأقلّ استعداداً لتحمّل تبعات التّعبير بصراحةٍ.
ويُضاف إلى ذلك أثر وسائل التواصل الاجتماعي وثقافة الإلغاء، الّتي زادت من حساسيّة الأفراد تجاه الوقوع في الزّلل اللّفظيّ، فباتوا يقيسون كلماتهم بميزان الخوف لا الصّدق. وحتّى سلوك بعض كبار السّاسة ورجال الأعمال -حين يُظهرون تفضيلهم العلنيّ للتملّق، ويصبّون جام غضبهم على من يخالفهم الرّأي- ساهم دون وعيٍ في تشكيل تصوّراتٍ جديدةٍ لدى النّاس عمّا يُتوقَّع منهم، وعمّا هو آمنٌ أن يُقال، وعمّا ينبغي عليهم كتمانه.
شاهد أيضاً: القائد الصامت الذي ترك بصمة لا تُنسى
ما الذي يمكنك فعله؟ ثلاث أدوات لتفكيك فخ السلطة
تشير الأدّلة إلى أنّ هناك ثلاث ممارساتٍ أساسيّةٍ يمكن أن تساعد في هذه المعضلة:
اكسر فقاعة معلوماتك
بدايةٌ جيدةٌ هي أن تفترض أنّك بالفعل داخل فقاعة معلوماتٍ (لأنّك غالباً كذلك)، ثم تستخدم فريقك لكسرها. اطرح الأسئلة، الكثير من الأسئلة. وابحث عن الآراء المختلفة وكأنّها غذاءٌ لا غنى عنه. لأنّك كقائدٍ، هي كذلك فعلاً. على مدار سنوات، حاولت أن ألتزم بمتابعة قناةٍ إخباريّةٍ تنتمي إلى الطّرف السّياسيّ المعاكس لما أؤمن به. وهذا يتطلّب انضباطاً كبيراً؛ لأنه يثير أعصابي في كثيرٍ من الأحيان. لكنّني أملك فهماً أعمق لكيفيّة تفكير الآخرين بسبب ذلك.
حارب التملّق بوعي
قاعدةٌ ذهبيّةٌ تصلح للحياة كما تصلح للعمل: عامِل التّملّق كما لو كان سُمّاً زعافاً؛ فلا تشجّعه، ولا تُظهر قبولك له، ناهيك عن أن تستلذّه. فالاستجابة المحايدة، أو التّجاهل الصّامت المقصود، كثيراً ما يكونان كفيلين بتبديده. وفي أحيانٍ أخرى، قد يكون من الحكمة أن تُقابل عبارات التّودّد المبالغ فيها بقولٍ مباشرٍ مثل: "أنا ممتنّ لدعمك، لكن ما يهمّني فعلاً هو رأيك الصّادق، كيف ترى الأمر حقّاً؟"
وتتضاعف أهميّة هذه المقاربة حين يحدث التّملّق على مرأى من الآخرين؛ فحين يشعر من حولك أنّك تُقدّر كلمات الإطراء أكثر من صدق القول، سيُسرعون بدورهم إلى ذات السّلوك، وتبدأ العدوى بالانتشار. وذلك ليس مجرّد سلوكٍ سطحيٍّ، بل انحدارٌ خفيٌّ وخطيرٌ، لأنّ التملق لا يُقرّب القلوب بل يُباعدها، ولا يعزّز الثّقة بل ينفخ في الغرور، ويغلق الأبواب التي ينبغي أن تبقى مشرعةً أمام الصّراحة والانفتاح.
تحدث عن الشكوك بدلاً من اليقين
نادراً ما يكون العالم باللّونين الأبيض والأسود، رغم أنّ القادة كثيراً ما يُتوقع منهم أن يتحدّثوا بثقةٍ تامّةٍ ويقينٍ مطلقٍ. ولكن في كلّ مرّةٍ تصدر فيها حكماً قاطعاً، فإنّك تُرسل رسالةً ضمنيّةً مفادها أنّ هناك إجاباتٍ صحيحةً وأخرى خاطئة، وهذا بدوره يثير توتراً وقلقاً لدى من حولك من احتمال قول شيءٍ "خاطئ". لذلك، بقدر المستطاع، احرص على استخدام عباراتٍ مخفّفةٍ وموضوعةٍ في إطار الاحتمالات. بدلاً من أن تقول: "الأمر هكذا"، جرّب أن تقول: "الأرجح أنّ الأمر كذلك".
كما يُنصح، حينما تسمح الظّروف، بأن تطلب من الآخرين أن يحددوا مستوى ثقتهم في آرائهم، مثل أن تقول: "أنا واثقٌ بنسبة 80% من أن..." بل وأن تطلب منهم توضيح مصادر عدم اليقين هذه؛ فهذا الأسلوب لا يسهّل عليهم مجرّد التّعبير عن مخاوفهم فحسب، بل يمنحهم مساحةً لرسمها كاحتمالاتٍ ضئيلةٍ، بدلاً من أن تبدو معارضتهم كتناقضٍ صريحٍ مع رؤيتك.
ولا بدّ من التّأكيد أن هذه الخطوات ليست وصفةً شاملةً أو حلّاً نهائيّاً، لكنّها بدايةٌ صلبةٌ تُعيد لك زمام الأمور في مواجهة تلك الدّائرة السّامة الّتي لا يُقال عنها كثيراً، لكنّها ترافق كلّ من يتقلّد منصباً قياديّاً. فالحقيقة المُرّة هي أنّ كلما ارتقيت سلم القيادة، قلّت الحقيقة الّتي تصل إليك. وما لا تعرفه قد يكون أشدّ ضرراً ممّا تتصوّر. وإن شكّكت في ذلك، فاسأل من يختلف معك، إذا ما استطعت العثور عليه.
شاهد أيضاً: كيف تدير تنوع أساليب القيادة في فريقك؟
عن المؤلف
نيك كينلي (Nik Kinley) هو استشاريٌّ في القيادة، ومقيّمٌ ومدرّبٌ يقيم في لندن، ويتمتّع بخبرةٍ تزيد عن 35 عاماً في العمل مع بعض أكبر الشّركات في العالم. وهو مؤلّفٌ حاصلٌ على جوائز، وقد كتب ثمانية كتبٍ، أحدثها "فخ السلطة: كيف تغيّر القيادة الأشخاص وما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟"