الاثنين الأسود وأسواق اليوم: هل يتكرر السيناريو؟
حين تتشابك الأسواق الحديثة وتزداد سرعة التّداول والاعتماد على التّكنولوجيا، يصبح الاستعداد للانهيارات المفاجئة ضرورةً استراتيجيّةً لا خياراً ثانويّاً

شهد العالم في التّاسع عشر من أكتوبر عام 1987 ما عرف لاحقاً باسم الاثنين الأسود، حين انهارت أسواق الأسهم على نحوٍ مباغتٍ لتفقد بورصة وول ستريت ومعها الأسواق العالميّة مليارات الدّولارات في غضون ساعاتٍ قليلةٍ. ومنذ ذٰلك اليوم لم يعد الحديث عن الانهيارات المفاجئة مجرّد تذكيرٍ تاريخيٍّ، بل تحوّل الاثنين الأسود إلى رمزٍ يحذّر من خطورة الإفراط في التّفاؤل الاقتصاديّ من دون وجود خطط طوارئ. ومع ازدياد تشابك الأسواق الحديثة واعتمادها الكبير على التّكنولوجيا والبيانات الضّخمة، يطرح سؤالٌ جوهريٌّ نفسه: هل يمكن أن يتكرّر سيناريو شبيهٌ بالاثنين الأسود في عصرنا الحاليّ؟
ما هو الاثنين الأسود ولماذا ظل حاضراً في ذاكرة الاقتصاد؟
جاء الاثنين الأسود نتيجة تفاعلٍ معقّدٍ بين عدّة عوامل؛ فقد تسبّبت المضاربات المفرطة إلى جانب الاعتماد الكبير على أنظمة التّداول الآليّ وتراجع الشّفّافيّة في تفجير أزمةٍ غير مسبوقةٍ. وانهارت بورصة نيويورك بنسبةٍ فاقت 20% في يومٍ واحدٍ، وهو أكبر هبوطٍ يوميٍّ في تاريخها، الأمر الّذي أحدث صدمةً نفسيّةً هائلةً لم تقتصر على السّوق الأمريكيّة بل امتدّت كالنّار في الهشيم إلى بقيّة الأسواق العالميّة. ومنذ ذٰلك الحين ارتبط اسم الاثنين الأسود بالانهيارات المفاجئة، ليصبح مثالاً صارخاً على هشاشة النّظام الاقتصاديّ أمام الصّدمات السّريعة. [1]
ما العوامل التي قد تؤدي إلى تكرار سيناريو الاثنين الأسود؟
لم يعد احتمال عودة أزمةٍ بحجم الاثنين الأسود مجرّد افتراضٍ أكاديميٍّ، بل هو خطرٌ واقعيٌّ تغذّيه عوامل متشابكةٌ. وصحيحٌ أنّ تفاصيلها قد تختلف عن ظروف 1987، غير أنّ جوهرها يبقى مشابهاً بما يكفي لإعادة مشهد الانهيارات المفاجئة إذا تزامنت هٰذه العوامل في وقتٍ واحدٍ.
الاعتماد على التكنولوجيا والتداول الآلي
تزايد الاعتماد على التّكنولوجيا في الأسواق الماليّة إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ، إذ تنفّذ خوارزميّات التّداول عالية السّرعة ملايين الأوامر في ثوانٍ معدودةٍ. ورغم أنّ هٰذه الأنظمة رفعت كفاءة السّوق وسرعة الاستجابة، فإنّها في المقابل زادت من قابليّة الأسواق لانهياراتٍ حادّةٍ بمجرّد اندلاع موجة بيعٍ مفاجئةٍ. ويكفي أن يتكرّر خطأٌ تقنيٌّ أو أن تتراكم أوامر متشابهةٌ حتّى تنزلق المؤشّرات في دقائق إلى مستوياتٍ خطرةٍ. وما حدث في "الانهيار الخاطف" عام 2010، حين فقدت وول ستريت ما يقارب 9% من قيمتها في لحظاتٍ قبل أن تتعافى سريعاً، يعكس بوضوحٍ أنّ التّكنولوجيا الّتي صمّمت للحماية قد تتحوّل في ظروفٍ معيّنةٍ إلى أداةٍ تسرّع الأزمة.
المديونية المفرطة
أثبتت تجربة الاثنين الأسود أنّ المديونيّة المفرطة تقود الأسواق نحو الانهيار بسرعةٍ مضاعفةٍ، إذ تجعلها أقلّ قدرةً على امتصاص الصّدمات؛ فالشّركات أو المستثمرون الّذين يعتمدون على قروضٍ قصيرة الأجل يجدون أنفسهم عاجزين عند أوّل اضطرابٍ. وعلى الرّغم من إدخال إصلاحاتٍ وتشديد تشريعاتٍ بعد أزماتٍ متتاليةٍ، فإنّ مستويات الدّين العالميّ ما زالت ترتفع بوتيرةٍ مقلقةٍ، سواء لدى الحكومات أو المؤسّسات أو حتّى الأفراد. ويشبه هٰذا التّضخّم في الدّيون وقوداً سريع الاشتعال، يكفي أن تشعل شرارة أزمةٍ جديدةٍ ليشتعل المشهد بانهيارٍ قد لا يختلف كثيراً عن الاثنين الأسود أو أزمة 2008. [2]
هشاشة الثقة وانتقال الذعر
تعتبر الثّقة عصب الأسواق الماليّة، ولٰكن ما إن تتزعزع حتّى ينهار البناء بأكمله؛ فالمستثمرون يميلون إلى ردود أفعالٍ مبالغٍ فيها عند رؤية المؤشّرات تهبط فجأةً، فيندفعون إلى البيع الجماعيّ الّذي يضاعف من حجم الخسائر. وهٰذا السّلوك النّفسيّ يذكّرنا بما جرى في الاثنين الأسود، حين كانت مشاعر الذّعر أقوى من الحسابات الاقتصاديّة نفسها. واليوم، مع سرعة تداول الأخبار عبر الإعلام الرّقميّ ومواقع التّواصل الاجتماعيّ، أصبحت الأسواق أكثر عرضةً لعدوى الخوف الّتي يمكن أن تنتقل من بورصةٍ إلى أخرى خلال دقائق، لتحوّل أزمةً محلّيّةً محدودةً إلى كارثةٍ عالميّةٍ شاملةٍ.
الأزمات الجيوسياسية
تتداخل السّياسة بالاقتصاد بصورةٍ أكبر من أيّ وقتٍ مضى، إذ يمكن لأيّ نزاعٍ دوليٍّ أو حربٍ تجاريّةٍ أو اضطرابٍ سياسيٍّ أن يشعل أزمةً ماليّةً كبرى. فالتّوتّرات بين القوى الاقتصاديّة الكبرى، على سبيل المثال، لا تؤثّر فقط في حركة رؤوس الأموال، بل تضرب أيضاً أسعار الطّاقة والسّلع الأساسيّة، وهو ما ينعكس مباشرةً على الأسواق الماليّة. ومع ازدياد العولمة وتشابك المصالح، لم تعد الأزمات محصورةً داخل حدود الدّول، بل باتت تنتقل سريعاً لتصيب اقتصاداتٍ مترابطةً حول العالم، وهو ما يجعل احتمال تكرار انهياراتٍ مفاجئةٍ ك الاثنين الأسود قائماً عند أيّ تصعيدٍ سياسيٍّ عالميٍّ.
كيف تختلف أسواق اليوم عن أسواق عام 1987؟
رغم تشابه بعض المخاطر، تختلف أسواق اليوم عن أسواق الثّمانينيّات في عدّة جوانب؛ فقد تطوّرت الأدوات الماليّة بشكلٍ لافتٍ، وظهرت المشتقّات وصناديق المؤشّرات والذّكاء الاصطناعيّ في التّحليل الماليّ، إضافةً إلى أنظمة توقّف التّداول الّتي تهدف إلى منع الذّعر الجماعيّ. ومع ذٰلك، فإنّ التّرابط العالميّ العميق جعل أيّ أزمةٍ محلّيّةٍ قادرةً على الانتشار بسرعةٍ مذهلةٍ عبر القارّات. لذٰلك يمكن أن يقال إنّ أسواق اليوم أكثر تطوّراً من حيث الأدوات والرّقابة، لكنّها أيضاً أكثر هشاشةً بسبب التّشابك الشّديد بينها.
الخلاصة
يبقى الاثنين الأسود حدثاً مفصليّاً في تاريخ الاقتصاد العالميّ، لأنّه كشف حدود القوّة الحقيقيّة للأسواق أمام الأزمات المفاجئة. ورغم أنّ العقود الماضية شهدت تطوّراً ملحوظاً في أدوات الرّقابة والشّفّافيّة، فإنّ العوامل نفسها الّتي قادت إلى ذٰلك الانهيار ما زالت حاضرةً بأشكالٍ جديدةٍ. لذٰلك فإنّ الدّرس الأهمّ الّذي لا ينبغي تجاهله هو أنّ الأزمات ليست استثناءً، بل جزءاً أصيلاً من دورة الاقتصاد. والاستعداد المسبق عبر التّنويع، وإدارة المخاطر، والاحتفاظ بالاحتياطيّات، والتّخطيط المرن، هو ما يصنع الفارق بين الانهيار والنّجاة. والسّؤال الّذي يظلّ مطروحاً: ليس هل سيتكرّر الاثنين الأسود، بل متى وبأيّ شكلٍ سيظهر الانهيار القادم؟
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين انهيار 1987 والأزمات الحديثة مثل أزمة كورونا 2020؟ انهيار 1987 كان مفاجئاً وسريعاً بسبب التّداول الآليّ وضعف الثّقة، بينما أزمة كورونا ارتبطت بعوامل صحيّةٍ عالميّةٍ وأدّت إلى ركودٍ واسعٍ، لكن التّشابك الماليّ سرّع انتقال أثرها.
- هل يمكن أن تشكل الأزمات المالية فرصة للنمو لبعض الشركات؟ بالتّأكيد، فالشّركات التي تمتلك سيولةً ومرونةً تنظيميّةً قد تستغلّ الأزمات للاستحواذ على أصولٍ بأسعارٍ منخفضةٍ أو التّوسّع في أسواقٍ جديدةٍ، لتخرج أقوى بعد انتهاء الأزمة.