الإنتاجية السامة: متى تصبح الإنجازات عبئاً على الصحة؟
حين يتحوّل السّعيّ المستمرّ وراء الإنجازات إلى عبءٍ يثقل الجسد ويستنزف النّفس، تفقد الإنجازات معناها الحقيقيّ وتضعف متعة الحياة وجودة الأداء

برز مفهوم الإنتاجيّة السّامّة في السّنوات الأخيرة كأحد أخطر الظّواهر الّتي تواجه بيئات العمل الحديثة، إذ اعتقد كثيرون أنّ زيادة ساعات العمل المتواصلة وتحقيق إنجازاتٍ متراكمةٍ يمثّل الطّريق الأقصر إلى النّجاح، غير أنّ هٰذا النّمط يتحوّل مع مرور الوقت إلى عبءٍ ثقيلٍ يرهق الجسد ويستنزف النّفس. فالإنجازات رغم أهمّيّتها وقيمتها الجوهريّة في مسيرة الأفراد والمؤسّسات، تفقد معناها حين تطارد بلا توقّفٍ، فتتحوّل الطّاقة الإيجابيّة إلى استنزافٍ دائمٍ، ويتراجع مستوى جودة الحياة. ولذٰلك، صار من الضّروريّ تحليل هٰذه الظّاهرة، وفهم أسبابها، ورصد انعكاساتها، ثمّ استكشاف الطّرق العمليّة لمواجهتها.
ما معنى الإنتاجية السامة؟
تعرّف الإنتاجيّة السّامّة بأنّها الحالة الّتي يتحوّل فيها السّعي وراء الإنجاز إلى هوسٍ يقود الأفراد إلى العمل المفرط، ولو على حساب صحّتهم وراحتهم. وهنا يصبح العمل غايةً في ذاته، ويرتبط تقدير الإنسان لذاته بعدد المهامّ الّتي ينجزها، لا بجودة ما يقدّمه. ويتجلّى ذٰلك في ساعات عملٍ مفرطةٍ، وتجاهلٍ لإشارات التّعب والإرهاق، وإهمالٍ لفترات الاستراحة. وهٰكذا تغدو الإنتاجيّة أداة إنهاكٍ، بعدما كان يفترض أن تكون وسيلةً للنّموّ والتّطوّر. ومن هٰذا المنطلق وصفت أيضاً بأنّها ثقافة العمل المفرط أو حتّى عبوديّة الإنجاز. [1]
متى تصبح الإنجازات عبئاً على الصحة؟
تتحوّل الإنجازات من مصدر فخرٍ وتحفيزٍ إلى عبءٍ ثقيلٍ عندما تفقد قيمتها الحقيقيّة، وتغدو مجرّد أرقامٍ تضاف إلى قائمةٍ طويلةٍ لا تنتهي من المهامّ. ويحدث ذٰلك حين يربط النّجاح بعدد الإنجازات دون النّظر إلى أثرها أو معناها. ومع الوقت، يتركّز التّفكير على "المزيد دائماً" دون الالتفات إلى حدود الجسد أو حاجات النّفس، فيذوب التّوازن بين الحياة الشّخصيّة والعمليّة. وتظهر أولى الإشارات عندما يصبح الفرد عاجزاً عن التّوقّف حتّى لبرهةٍ، أو حين يشعر بالذّنب لمجرّد أنّه أخذ قسطاً من الرّاحة. وعندما يختزل النّجاح في السّاعات الطّويلة أو الكمّ الكبير من العمل، تفقد الإنجازات بريقها وتتحوّل إلى وسيلة ضغطٍ نفسيٍّ بدلاً من أن تكون مصدراً للتّحفيز.
وتزداد خطورة الأمر حين يفقد الإنسان القدرة على الاستمتاع باللّحظة أو الاحتفال بإنجازاته، إذ يسرع من هدفٍ إلى آخر وكأنّه في سباقٍ لا ينتهي. وهٰكذا يدخل في دائرةٍ مغلقةٍ: كلّما أنجز مهمّةً، ظهر تحدٍّ جديدٌ أشدّ صعوبةً، فيتضاعف الاستنزاف النّفسيّ والجسديّ. ومع الاستمرار، يتراجع الصّحّة تدريجيّاً، وتصبح الإنجازات نفسها السّبب المباشر في التّعب المزمن والإنهاك، بدلاً من أن تكون وسيلةً للارتقاء والنّموّ. [2]
أسباب نشوء الإنتاجية السامة
لا تنشأ هٰذه الظّاهرة من فراغ، بل من تداخل عوامل متشابكةٍ تتغذّى بعضها من بعضٍ، وفق التّالي:
- تفرض بيئات العمل أهدافاً غير واقعيّةٍ، ليجد الموظّف نفسه مضطرّاً إلى بذل جهدٍ يفو ق طاقته للحفاظ على مكانه.
- تساهم ثقافة المقارنة، وخاصّةً عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، في رسم صورٍ مثاليّةٍ مضخّمةٍ تدفع الفرد إلى مقارنة نفسه بغيره باستمرارٍ.
- يختزل النّجاح غالباً في الإنجاز الوظيفيّ وحده، بينما تهمل الصّحّة النّفسيّة والتّوازن الشّخصيّ.
- وأخيراً، يؤدّي غياب الوعي إلى استسلام كثيرين لفكرة أنّ التّفاني المفرط هو السّبيل الوحيد للنّجاح، دون إدراكٍ لأنّ ذٰلك يقود إلى الاستنزاف.
كيف يمكن مواجهة الإنتاجية السامة؟
لمواجهة هٰذه الظّاهرة، لا بدّ من استراتيجيّاتٍ عمليّةٍ تعيد التّوازن إلى مسار العمل:
- يجب وضع حدودٍ واضحةٍ لساعات العمل تمنع التّمدّد غير الضّروريّ.
- كما يتعيّن على المؤسّسات أن تعزّز ثقافة الرّاحة، بحيث تشجّع الموظّفين على أخذ فترات استراحةٍ منتظمةٍ.
- وينبغي أن يقاس النّجاح بجودة النّتائج وأثرها، لا بعدد المهامّ أو طول الوقت.
- بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من نشر التّوعية بمخاطر العمل المفرط، حتّى يدرك الأفراد أنّ استنزاف النّفس ليس إنجازاً حقيقيّاً.
- وأخيراً، ينبغي دعم الموظّفين بإمكانيّة الموازنة بين حياتهم العمليّة والشّخصيّة عبر سياساتٍ مرنةٍ تقدّر احتياجاتهم الفرديّة.
دور الإدارة في تقليل الإنتاجية السامة
تتحمّل الإدارة دوراً محوريّاً في مكافحة هٰذه الظّاهرة، فهي من تحدّد السّياسات وترسم ثقافة المؤسّسة. فإذا وضعت الإدارة أهدافاً واقعيّةً وأعطت الأولويّة للجودة على الكمّ، ساعدت على بناء بيئةٍ متوازنةٍ. كما أنّ تشجيع الحوار المفتوح يتيح للموظّفين التّعبير عن تحدّياتهم، ممّا يخفّف من الضّغوط. وبالإضافة إلى ذٰلك، يساهم الاستثمار في برامج الصّحّة النّفسيّة والدّعم النّفسيّ في خلق بيئةٍ داعمةٍ تحفّز الموظّف على العطاء دون استنزافٍ. حيث تستطيع الإدارة الواعية أن تحوّل ثقافة الإنجاز من فخٍّ مرهقٍ إلى قوّةٍ مستديمةٍ ترفع من معنويّات الموظّفين وتضمن نجاح المؤسّسة. [1]
الخاتمة
تمثّل الإنتاجيّة السّامّة خطراً خفيّاً يهدّد الأفراد والمؤسّسات على حدٍّ سواءٍ. بينما يفترض بالإنجازات أن تكون مصدراً للإلهام والطّاقة، فإنّها قد تتحوّل إلى عبءٍ يسلب الصّحّة ويضعف الرّضا عن الذّات. ومن هنا، يصبح إدراك حدود الإنجاز والوعي بأهمّيّة التّوازن بين الجهد والرّاحة شرطاً لا غنى عنه للحفاظ على الاستمراريّة.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين الإنتاجية الصحية والإنتاجية السامة؟ تقوم الإنتاجية الصحية على إنجاز الأهداف بجودةٍ مع مراعاة الرّاحة والتّوازن، بينما تقوم الإنتاجية السامة على الاستنزاف والمبالغة في العمل حتّى على حساب الصّحّة.
- هل يمكن أن تكون التكنولوجيا سبباً في تعزيز الإنتاجية السامة؟ نعم، إذ تسهم أدوات العمل الرّقميّ في تكريس ثقافة التّواجد الدّائم وتمنع الموظّفين من الانفصال عن العمل، ما يزيد من الضّغط النّفسيّ والجسديّ.