الانسحاب الذكيّ: حين تُصبحُ خطوة التراجع قوّةً هجوميّة
شركاتٌ عالميّةٌ أدركت أنَّ البقاء في ساحةٍ خاسرةٍ ليس شجاعةً، فاختارت الانسحاب بذكاءٍ من أسواقٍ تغوّل فيها المنافسون، لتُحوّل هذا الانكماش المؤقّت إلى وقودٍ لنجاحاتٍ أطول عمراً وأعمق تأثيراً

الانسحاب استراتيجيّةٌ تختلف تماماً عن الهزيمة، بل تؤجّلها أو تلغيها وتحوّلها إلى نقطة قوّةٍ إذا طبّقت بمهارةٍ، وفي توقيتٍ ملائمٍ مع دراسة طبيعة السّوق والمجهود المبذول والتّكلفة وغيرها من الأمور.
وهي من الاستراتيجيّات الدّفاعيّة الّتي تمكّنك من صدّ هجوم منافسٍ محتملٍ أو التّغلّب على معوّقاتٍ جيوسياسيّةٍ أو طبيعيّةٍ، وتعني ببساطةٍ التّمسّك بما لديك واستغلال مزاياك التّنافسيّة للبقاء في السّوق ثمّ العودة بقوّةٍ من جديدٍ. [1]
شركاتٌ عملاقةٌ نجحت في الانسحاب الاستراتيجيّ لتصبح أكثر قوّةً
خطّة الانسحاب الاستراتيجيّ ليست جديدةً، بل استخدمتها الكثير من الشّركات، قد يكون بعضها تأخّر قليلاً في التّنفيذ، ولكن مع هذا نجح في البقاء، رغم قوّة المنافسة والتّغيّر الكبير في الظّروف. ومن أشهر تلك الشّركات:
انسحاب شركة IBM من سوق أجهزة الكمبيوتر
وجدت شركة IBM نفسها في منافسةٍ شرسةٍ مع شركاتٍ ضخمةٍ في السّنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فاستولت كلٌّ من Compaq وDell وHewlett-Packard على السّوق بشكلٍ شبه تامٍّ، ممّا أدّى إلى تغييراتٍ جذريّةٍ في التّوفّر، وفي طريقة التّصميم، والأسعار.
ومع انخفاض هامش الرّبح بشدّةٍ لشركة IBM، الّتي سيطرت منذ تأسيسها عام 1911 تقريباً على كلّ ما يتعلّق بالبيانات والجدولة ومقدّمات الحواسيب، لتكون بمفردها في السّوق خلال السّتّينات والسّبعينات، إلّا أنّ الشّركة كانت دائماً معروفةً بسعيها الدّائم للأعمال ذات الهامش المرتفع. [2]
تراجعت IBM قليلاً عن سوق الحواسيب بعد انتشار منتجاته وانخفاض ربحها منه، ودخلت مجال النّانو تكنولوجي، لتصبح واحدةً من أكبر أرباب هذا العمل في العالم، وإحدى الشّركات الـ30 المدرجة في مؤشّر داو جونز الصّناعيّ، ويشار إليها الآن باسم "بيج بلو".
انسحاب نوكيا من سوق الهواتف المحمولة
سيطرت نوكيا لسنواتٍ على مجال صناعة الهواتف المحمولة، إلّا أنّ انتشار الهواتف الذّكيّة ورفضها في البداية استخدام نظم التّشغيل الحديثة أدّى إلى تراجعها بشدّةٍ في هذا السّوق.
وعندما حاولت إدخال نظام ويندوز كانت الخطوة متأخّرةً كثيراً، لتنسحب تماماً من هذا السّوق لعدّة سنواتٍ، وتعتمد فقط على قيمتها السّوقيّة فيما يتعلّق بمعدّات الشّبكات، لتصبح من أهمّ مصادر تراخيص الملكيّة الفكريّة، وتمتلك أكثر من 6000 براءة اختراعٍ شكّلت تقنيّة الجيل الخامس 5G.
كما ركّزت شركة HMD المالكة لشركة نوكيا على إصدار الهواتف بالعلامة التّجاريّة نفسها في بعض الأسواق مثل الهند، حيث التزمت بمعايير القوّة والجودة وهي مطلوبةٌ في هذا السّوق. إلّا أنّ علامة نوكيا انتهت بالنّسبة للهواتف الذّكيّة، ومن المتوقّع إصدار هواتف باسم HMD وليس نوكيا.
انسحاب بلاك بيري من حرب الهواتف الذّكيّة
تعرّضت شركة بلاك بيري لهزّةٍ ضخمةٍ بعد ظهور الآيفون وغالاكسي. فبعد أن كانت المنافس الأكثر شراسةً لشركة نوكيا ومبتكرة نظام الرّسائل النّصّيّة، تراجع نجمها بسرعةٍ مع ظهور أنظمة التّشغيل الجديدة الّتي أتاحت تحميل أيّ تطبيقاتٍ. ومع ذلك، خرجت بلاك بيري من سوق الهواتف المحمولة تماماً منذ عام 2022، وتوقّف نظام التّشغيل الّذي تعتمد عليه.
ولكن، على الجانب الآخر، لم تغلق الشّركة أبوابها تماماً، بل واصلت اتّجاهها فيما يتعلّق بالأمن السّيبرانيّ والتّشفير، مع الدّخول في صناعاتٍ إلكترونيّةٍ متطوّرةٍ مثل السّيّارات والأجهزة الطّبّيّة الّتي تعتمد على الذّكاء الاصطناعيّ. لذا، لم يؤدّ خروجها من سوق الهواتف المحمولة إلى دفنها تماماً، بل وجّه تركيزها إلى جوانب أخرى تزال قادرةً على المنافسة فيها. [3]
تراجع شركة جوجل عن سوق الشّبكات الاجتماعيّة
بدأت جوجل خدماتها عام 1994 كشركة إعلاناتٍ مرتبطةٍ بخدمات البثّ عبر الإنترنت، وتطوّرت لما أصبح يعرف بأشهر وأهمّ محرّك بحثٍ عالميٍّ على الإطلاق.
ولكن، مع ظهور فيسبوك، شعرت الشّركة ببعض التّهديد، وقرّرت المنافسة بإطلاق Google+، الّذي تعرّض للفشل الذّريع، وأيقنت الشّركة عدم قدرتها على منافسة فيسبوك.
ورغم ظهور شبكات تواصلٍ اجتماعيٍّ ناجحةٍ أخرى مثل تويتر وسناب شات وواتساب، إلّا أنّ جوجل فضّلت التّركيز في مجال قوّتها. اقتحمت الشّركة عالم الريلز عبر YouTube Shorts، لتنجح في حماية حصّتها السّوقيّة، وتزيد من ضخامتها.
شاهد أيضاً: 10 استراتيجيات لتجعل أعمالك متقدمة على المنافسين
متى تقرّر الانسحاب من السّوق؟
الانسحاب الاستراتيجيّ يعني انكماش شركةٍ أو تراجعها عن المساهمة في سوقٍ تجد نفسها ضعيفةً به، لتحوّل تركيزها إلى مناطق أقلّ تنافسيّةً. فإذا كان هناك هجومٌ متوقّعٌ في الأفق، فيجب اتّخاذ قرارٍ سريعٍ مع حساب التّكلفة المحتملة والخسائر وبدائل الدّفاع عن مكانتك.
فهذا الانسحاب، عندما يأتي في وقتٍ مبكّرٍ، يساعدك في ضخّ استثماراتٍ قويّةٍ في قطاعاتٍ أكثر ربحيّةً دون تغييرٍ كبيرٍ في أولويّاتك أو استراتيجيّتك. [4]
ومن الأسباب الّتي يجب أن تجعلك تفكّر فوراً في الانسحاب الاستراتيجيّ دون تأخيرٍ:
- إذا كنت تواجه هجوماً قويّاً من منافسٍ في سوقٍ أو قطاعٍ من السّوق، وكنت تفتقر تماماً للقدرات اللّازمة للمواجهة والحفاظ على حصّتك.
- إذا كان المنافس عدوانيّاً للغاية، أو يتمتّع بابتكاراتٍ مذهلةٍ، أو يتمتّع بمعدّل نموٍّ شديد الارتفاع.
- إذا كان اتّباع أيّ استراتيجيّات دفاعٍ أخرى سيزيد من المخاطر الّتي تتعرّض لها في المناطق الّتي تمثّل نقاط قوّتك.
- إذا كان السّوق نفسه الّذي تتعرّض به للمنافسة أصبح في حالة انحدارٍ، ولا يجب هدر المزيد من الأموال به، مثل حالة الأقراص المرنة القديمة أو أيّ منتجاتٍ لم يعد الجمهور يقبل عليها بقوّةٍ مثل بدايتها.
- إذا كان المزيد من الاستثمار في هذا القطاع سيلتهم كلّ هامش الرّبح.
استراتيجيّاتٌ أخرى لتقليل الخسائر دون الانسحاب التّامّ
قد تشعر أنّ الانسحاب التّامّ من السّوق حتّى إذا كان مؤقّتاً يعتبر من الأمور المتطرّفة، ويهدّد موظّفيك ومكانتك، وقد يضطرّك إلى إجراء تغييراتٍ إداريّةٍ، ويقلّل من ثقة الجمهور في علامتك التّجاريّة. لذا، يمكنك اللّجوء إلى طرقٍ أخرى للحفاظ على مكانتك وتجنّب الخسائر الضّخمة والاستعداد للعودة بقوّةٍ، ومن هذه الطّرق:
استراتيجيّة المنقّب (Prospector Strategy)
وهي تعني ببساطةٍ التّطوّر والابتكار بلا حدودٍ. وتعتبر iPhone وApple Watch من الأمثلة الحيّة على هذه الاستراتيجيّة. وهو أمرٌ يتطلّب التّطوير المستمرّ دون انتظار وجود كارثةٍ سوقيّةٍ.
استراتيجيّة الدّفاع الاستباقيّ
وهي مثل الّتي تطبّقها أمازون تماماً. فبعد انتشار المتاجر الإلكترونيّة بقوّةٍ، لتصبح منافساً شرساً لها، ورغم تمتّعها بالكثير من القوّة في هذا السّوق، إلّا أنّها دخلت عدّة أسواقٍ أخرى مثل خدمات البثّ، وتوسيع عمليّات السّحابة والذّكاء الاصطناعيّ. ولكن لجوئك لهذه الاستراتيجيّة يجب أن يتمّ بحذرٍ وخطواتٍ مدروسةٍ لتجنّب الاستثمار المفرط وعدم التّركيز.
استراتيجيّة الدّفاع المتنقّل
وهي مثل الّتي تلجأ إليها شركات النّفط والغاز عندما تشعر بالتّهديد من شركات الطّاقة النّظيفة والمتجدّدة. فهنا عليها التّوجّه تلقائيّاً لهذا المجال. كما فعلت الكثير من شركات الاتّصالات عند ظهور تطبيقات المراسلة، والّتي أصبحت تهدّد الاتّصالات المباشرة، وأيضاً الصحف الورقيّة التي اتجهت للبودكاست والمواقع الإلكترونية وقنوات اليوتيوب.
استراتيجيّة التّكلفة المنخفضة
عندما تواجه شركةٌ عريقةٌ منافسةً شرسةً، قد تلجأ لتخفيض أسعار منتجاتها عبر عروضٍ ضخمةٍ. ومع ذلك، يجب ألّا تؤدّي هذه الاستراتيجيّة إلى رداءة الخدمة أو المنتج، كما لا يجب الانحدار لعدم تحقيق أرباحٍ على الإطلاق لكي تنجح في الاستمرار، وتعتبر شركة وول مارت من الأمثلة القويّة لهذه الاستراتيجيّة، إذ نجحت في تخفيض تكلفة خدماتها اعتماداً على التكنولوجيا لتنافس بقوّة في أكثر من 27 دولة وتحت 56 اسماً مختلفاً. [5]
شاهد أيضاً: تحليل SWOT: مفتاح النجاح في زمن المنافسة الشرسة!
في الختام، فإنّه لا مفرّ من المنافسة في عالم الأعمال، وقد يبدو التّهديد الّذي تتعرّض له من المنافسين ومحاولة سرقة العملاء أو الاستيلاء على حصّتك من السّوق من الأمور المرهقة. ولكن هناك الكثير من الخطوات الّتي يمكنك تنفيذها للدّفاع عن منتجاتك وحصّتك، سواءٌ بالانسحاب أو بالخطط الاستباقيّة أو الدّفاعيّة الجانبيّة.