بين الإلحاح والوهم: سرّ المواعيد في فنّ التفاوض
قد ينجح استغلال الإلحاح للوصول للقرار، ولكنّ الصّفقات الرّابحة تحتاج مواعيد حقيقيّةً وصبراً مدروساً وحسّاً بالثّقة

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
هل سبق أن افتعلتَ شعوراً زائفاً بالعجلة أثناء التفاوض على صفقةٍ؟ إنّها حيلةٌ قديمةٌ يتقنها باعة السّيارات والمحتالون: اللّعب على عامل الوقت. فيقول لك المدير في صالة العرض: "هذا العرض صالحٌ لليوم فقط. إن لم تشترِ السّيارة الآن، فلا أضمن بقاءها". أو يصلك إشعارٌ مريبٌ يخبرك بأنّ عليك رسوم طريقٍ غير مدفوعةٍ، أو أنّ شخصاً استخدم بطاقتك الائتمانيّة لشراء هاتفٍ باهظٍ. الرّسالة واحدةٌ: تحرّك فوراً، وإلّا ستخسر كثيراً.
لكن المفارقة الصّادمة أنّ هذا "التّحرّك الفوريّ" قد يكون بوابتك الحقيقيّة إلى خسائر أكبر. إذا كان خلق شعورٍ زائفٍ بالإلحاح ينجح مع المحتالين، فهل يصلح أن يكون قاعدةً للتّصرّف في كلّ ٍشيءٍ؟ الجواب: لا.
لقد تعلّم العالم درساً قاسياً مؤخّراً عن مخاطر المواعيد النّهائيّة المصطنعة في التفاوض. حين فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركيّةً على دول العالم وحدّدت أجلاً اعتباطيّاً لإبرام اتّفاقٍ تجاريٍّ، فقد كشفت التّجربة كيف يمكن للإلحاح المصطنع أن يعرّض الجميع إلى نتائج عكسيّةٍ.
كان العالم كلّه يراقب المشهد: رسومٌ جُمركيّة قُرّر أن تبدأ في أبريل، ثم أُجّلت إلى يوليو، ثم دُفعت مجدّداً إلى أغسطس. كما حظيت بعض الدّول بتمديداتٍ إضافيّةٍ، وأخرى سارعت إلى عقد صفقاتٍ، فيما بقي معظمها بلا اتّفاقٍ. هكذا يتحوّل الموعد المصطنع إلى سيفٍ يرتدّ على صاحبه، منتجاً عكس ما أُريد له. فقد تقلّبت الأسواق صعوداً وهبوطاً، وتقلّبت معها مشاعر المستثمرين بين نشوةٍ وقلقٍ، بين فرحٍ عابرٍ وحزنٍ ثم فرحٍ من جديدٍ.
فالتّوقيت عنصرٌ حاسمٌ في التفاوض. وبوصفي وكيل مواهب، ومحامي إعلام، وأستاذاً بكليّة "غولد للقانون في جامعة جنوب كاليفورنيا" (USC Gould School of Law)، أعلّم طلابي وعملائي كيف يحسنون استخدامه كسلاحٍ ناعمٍ، يوجّه المفاوضة بدل أن يقيّدها. وأكتب أيضاً في كتابي المرتقب TILT the Room عن كيفيّة توظيف التّوقيت، والتّأثير، والرّافعة، والثّقة لصنع أفضل النّتائج؛ فهكذا تُدار المواعيد النّهائيّة:
حدد مواعيد نهائية حقيقية
اجعل مواعيدك حقيقيّةً، لا مصطنعةً، بحيث يترتّب على تفويتها أثرٌ واقعيٌّ ملموسٌ؛ فالحياة مليئةٌ بمواعيد لا مفرّ منها: الضّرائب، والقطارات، والعروض المسرحيّة. تفويتٌ أيٍّ منها يجرّ عواقب فوريّةً: غرامات ماليّة، أو رحلة ضائعة، أو شريكاً ناقماً. والمحصّلة أنّ الموعد يخلق شعوراً بالعجلة، ويدفع النّاس إلى التّحرّك. تأمّل، مثلاً، كم كان سيتقاعس النّاس عن سداد ضرائبهم -في وقتها أو حتّى أصلاً- لو لم تُفرض مهلةٌ فاصلةٌ تقطع باب التّراخي.
وإذا كان لعملك موعدٌ نهائيٌّ حقيقيٌّ لا بدّ من الوفاء به، فأعلنه بوضوح أثناء التفاوض؛ فالإفصاح الصّريح لا يساعد الطّرف الآخر على اتّخاذ قراره في حينه فحسب، بل يكشف عن مستوىً من الشّفافيّة يعمّق الثّقة بينك وبين عملائك، ويحوّل الموعد من تهديدٍ مبهم إلى حافزٍ بنّاءٍ.
تجنَّب المواعيد النهائية المزيفة
لأنّ المواعيد تُثير في النّفوس شعوراً بالإلحاح، ينجرف بعض المفاوضين إلى استغلالها وسيلةً لاستعجال القرار. ولهذا كانت دائماً أداةً مفضّلةً عند المحتالين؛ فالموعد الكاذب يخلق وهم الأزمة، ليُولِّد ضغطاً وقلقاً يفضيان إلى قراراتٍ متعجّلةٍ. قد تنطلي هذه الحيلة على المبتدئين، لكنّها سرعان ما تتهاوى أمام أصحاب الخبرة. والأسوأ أنّها قد تعكس الأثر تماماً؛ فبدل أن تُغلق الصّفقة، قد تُضيّع العميل المحتمل، ومعه ما تبقّى لك من رصيد المصداقيّة.
مارس الصبر
يبقى الصّبر أعظم ما في فنّ توقيت الصّفقات. علّمني جدّي -أو نونّو كما كنت أناديه- أنّ الصّبر في التفاوض كالصّبر في الصّيد؛ فإن أتقنتَ الانتظار، جاءت الغنائم إليك. كان مقاول بناءٍ ومهندساً معماريّاً، وكنتُ أرافقه إلى اجتماعاته في بوسطن، سواء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أو في الأبراج التي كان يعمل على تشييدها.
وقُبيل كلّ اجتماعٍ، كان يوصيني أن أراقب أكثر، وأتكلّم أقلّ، وأُكثِر من الإصغاء. وكان يذكّرني أنّه سيتعمّد زرع فترات صمتٍ في الحديث. وبلهجته الصّقليّة المميّزة كان يقول لي: "تخيّل أنّك على ضفاف البحر تصطاد… اصبر، واترك سنارتك في الماء مهما طال الأمر، حتّى تعضّ السّمكة".
ينفع الصّبر الطّرفين في مائدة التفاوض، سواء قدّمت العرض أو انتظرت الرّدّ. وهو رصيدٌ يثمّر على المدى الطّويل؛ قد تخسر فرصةً عاجلةً، لكن فرصاً أخرى -أكبر وأجدى- ستلوح في الأفق إذا امتلكت فضيلة الانتظار.
نُشر هذا الرّأي الخبير بقلم كين ستيرلينغ (Ken Sterling)، نائب الرّئيس التّنفيذيّ في "بيغ سبيك" (BigSpeak) على (Inc.com).