من القلق إلى التحفيز: سرّ التوتر الإيجابي في تطوير الأداء
حين تتحوّل الضّغوط اليوميّة من عبءٍ مثقلٍ للجسد والعقل إلى طاقةٍ واعيةٍ محفّزةٍ، يصبح التوتر الإيجابي أداةً استراتيجيّةً لتحويل التّحدّيات إلى فرصٍ للنّموّ والإنجاز

تعيش المجتمعات المعاصرة في ظلّ بيئاتٍ يطغى عليها تراكم الضّغوط اليوميّة، ابتداءً من الالتزامات الوظيفيّة والدّراسيّة، وصولاً إلى التّحدّيات الاجتماعيّة والماليّة الّتي تضع الإنسان على محكٍّ دائمٍ مع قدراته النّفسيّة والجسديّة. وبينما جرت العادة على النّظر إلى التّوتّر باعتباره عبئاً ينهك الجسد والعقل ويؤدّي إلى الإنهاك، جاء علم النّفس التّنظيميّ والمعرفيّ ليقدّم رؤيةً مغايرةً عبر مفهوم "التّوتّر الإيجابيّ". هذا المفهوم يؤكّد أنّ التّوتّر ليس بالضّرورة عائقاً أمام النّجاح، بل يمكن أن يتحوّل إلى محفّزٍ فعليٍّ يدفع الإنسان إلى الأداء الأمثل إذا أدير بوعيٍ. وهكذا يغدو التّوتّر الإيجابيّ بمثابة نقطة التّحوّل من القلق المنهك إلى التّحفيز البنّاء، إذ يخلق طاقةً داخليّةً تحثّ الفرد على الإنجاز وتعزّز تركيزه وإصراره على بلوغ أهدافه. ومن هنا تتضح أهمّيّة استيعاب هذا النّوع من التّوتّر وتطبيقه عمليّاً، خاصّةً حين يرتبط الأمر بتطوير الأداء وزيادة الإنتاجيّة.
ما هو التوتر الإيجابي؟
يعرّف التّوتّر الإيجابيّ بأنّه استجابةٌ جسديّةٌ ونفسيّةٌ طبيعيّةٌ لحالات الضّغط المعتدلة الّتي يواجهها الإنسان، حيث تدفعه هذه الحالات إلى رفع مستوى تركيزه وبذل جهدٍ أكبر لتحقيق النّجاح. ويكمن تميّز التّوتّر الإيجابيّ في كونه مؤقّتاً وقابلاً لإدارةٍ وموجّهاً نحو الإنجاز، بخلاف التّوتّر السّلبيّ الّذي يستنزف الطّاقات ويفقد السّيطرة. فعندما يشعر الفرد بضغطٍ معتدلٍ قبل امتحانٍ أو موعد تسليمٍ مهمٍّ، يبدأ الجسم بإفراز هرموناتٍ مثل الأدرينالين والكورتيزول بنسبٍ محسوبةٍ، فتزداد سرعة الانتباه ويتحسّن اتّخاذ القرار. وبذلك يتحوّل التّوتّر إلى عاملٍ محفّزٍ بدلاً من أن يكون عائقاً مثبّطاً. ولهذا السّبب يطلق بعض الباحثين على التّوتّر الإيجابيّ مسمّياتٍ أخرى مثل "الضّغط المحفّز" أو "الشّدّ البنّاء"، لأنّه يرتبط ارتباطاً مباشراً بالدّافعيّة الدّاخليّة والقدرة على توجيه الطّاقة العصبيّة نحو إنتاجٍ ملموسٍ. [1]
كيف يحفز التوتر الإيجابي الأداء؟
لا يتوقّف أثر التّوتّر الإيجابيّ عند حدود استجابةٍ جسديّةٍ عابرةٍ، بل يمتدّ ليصبح أداةً استراتيجيّةً قادرةً على رفع مستوى الأداء في مختلف الميدان. وتظهر فعّاليّته عبر آليّاتٍ مترابطةٍ تتكامل فيما بينها لتعزيز قدرات الفرد على مواجهة التّحدّيات:
يزيد التوتر الإيجابي من التركيز والانتباه
إذ يستنفر الدّماغ موارده العصبيّة تحت ضغطٍ معتدلٍ، ويرفع درجة اليقظة ويمنح الفرد قدرةً أكبر على ملاحظة التّفاصيل الدّقيقة وتقليل التّشتّت وحصر الجهد في المهامّ الجوهريّة. ومن ثمّ يتمكّن الإنسان في كثيرٍ من الأحيان من إنجاز ما يعجز عنه في أوقات الرّاحة المطلقة.
يعزز التوتر الإيجابي الدافعية الداخلية
حيث يولّد إحساساً بالمسؤوليّة ويخلق شعوراً بالإلحاح الإيجابيّ الّذي يدفع الفرد إلى بذل جهدٍ مضاعفٍ، والالتزام بخطواتٍ عمليّةٍ واضحةٍ، والسّعي لإنهاء المهامّ بجودةٍ أعلى. ومن خلال هذا الحافز تتحوّل مشاعر القلق المؤقّتة إلى طاقةٍ عمليّةٍ تدفع نحو بلوغ الأهداف.
يرفع التوتر الإيجابي مستوى المرونة النفسية
إذ يمنح التّعامل الإيجابيّ مع الضّغوط الفرد فرصةً لاكتساب خبراتٍ متراكمةٍ، فيصبح أكثر صلابةً أمام صعوباتٍ أكبر مستقبلاً. وكلّما اجتاز الإنسان مواقف ضاغطةً بنجاحٍ، تعزّزت ثقته بنفسه، وتكوّنت لديه خبرةٌ عمليّةٌ تجعله أقدر على مواجهة الأزمات المقبلة.
يحفز التوتر الإيجابي الإبداع والابتكار
فحين يواجه الفرد تحدّياً يتطلّب حلاً سريعاً، ينشط عقله للبحث عن أساليب جديدةٍ وغير تقليديّةٍ. تفتح هذه الحالة الباب أمام أفكارٍ مبتكرةٍ قد لا تنبثق في الظّروف الاعتياديّة. ومن ثمّ يغدو الضّغط المعتدل محفّزاً على التّفكير خارج الأطر التّقليديّة.
ينمي التوتر الإيجابي مهارات اتخاذ القرار
لأنّه يفرض على الفرد المفاضلة السّريعة بين البدائل المتاحة، واختيار الأنسب منها في وقتٍ محدودٍ. هذا التّدريب المتكرّر يعزّز قدرة الإنسان على تحليل المواقف الحاسمة وتقدير النّتائج بدقّةٍ، الأمر الّذي ينعكس إيجاباً على النّجاح في العمل والحياة اليوميّة على السّواء. [2]
أمثلة عملية على التوتر الإيجابي
لا يبقى التّوتّر الإيجابيّ مجرّد مفهومٍ نظريٍّ جامدٍ، بل يبرز أثره بوضوحٍ في مواقف حياتيّةٍ ملموسةٍ تمتدّ من بيئات العمل والتّعليم، مروراً بالرّياضة، وصولاً إلى تفاصيل الحياة اليوميّة. ففي مجال العمل مثلاً، يواجه الموظّفون مواعيد نهائيّةً لمشاريع مهمّةٍ، وغالباً ما يزيد هذا الضّغط المحدود من إنتاجيّتهم إذا أداروه بذكاءٍ. وفي مجال التّعليم، يشعر الطّالب بقلقٍ قبل الامتحانات، غير أنّه قد يوظّف هذا الشّعور في مضاعفة ساعات المذاكرة وتحسين استيعابه للمادّة.
أمّا في الرّياضة، ويدخل الرّياضيّ المنافسة تحت تأثير التّوتّر الإيجابيّ الّذي يرفع من تركيزه ويحفّزه على بذل أقصى جهدٍ لتحقيق الفوز. وحتّى في تفاصيل الحياة اليوميّة، قد تولّد مواقف بسيطةٌ مثل مقابلةٍ شخصيّةٍ جديدةٍ أو حضور اجتماعٍ عائليٍّ مهمٍّ توتّراً إيجابيّاً يدفع الإنسان إلى إظهار أفضل ما لديه. [1]
الخلاصة
يكشف مفهوم التّوتّر الإيجابيّ عن جانبٍ خفيٍّ من علاقتنا بالضّغوط، حيث يتحوّل القلق من عبءٍ يثقل الجسد والعقل إلى مصدر تحفيزٍ يفتح أبواب النّموّ والتّطوير. ومن خلال إدارة هذا النّوع من التّوتّر بوعيٍ، يصبح الإنسان قادراً على تحسين أدائه وزيادة مرونته وتعزيز دافعيّته نحو النّجاح. ولا يقتصر أثر التّوتّر الإيجابيّ على الأفراد وحدهم، بل يمتدّ أيضاً إلى المؤسّسات الّتي تستطيع استثماره في إدارة الأزمات وتحقيق نتائج أفضل في أوقات الشّدّة. إنّ سرّ النّجاح لا يكمن في غياب الضّغوط، بل في كيفيّة توجيه الطّاقة النّاتجة عنها نحو أهدافٍ بنّاءةٍ، بحيث يغدو التّوتّر الإيجابيّ أداةً استراتيجيّةً لتحويل التّحدّيات إلى فرصٍ حقيقيّةٍ للنّموّ والتّفوّق.
شاهد أيضاً: التوتر كحافز للنمو: كيف قد يعرقلنا السعي الدائم؟
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين التوتر الإيجابي والتوتر السلبي؟ التوتر الإيجابي ينتج عن ضغوط معتدلة يمكن التحكم بها فتزيد من التركيز والتحفيز، بينما التوتر السلبي ينتج عن ضغوط زائدة تؤدي للإنهاك وفقدان السيطرة.
- هل يفيد التوتر الإيجابي جميع الأشخاص بنفس الدرجة؟ لا، فالتأثير يختلف حسب شخصيّة الفرد وقدرته على إدارة الضّغوط، فهناك من يستفيد منه كحافزٍ، وهناك من يتحوّل عنده بسرعةٍ إلى توتر سلبيٍّ إذا لم يضبطه.
- ما دور المؤسسات في الاستفادة من التوتر الإيجابي؟ يمكن للمؤسّسات استثماره عبر وضع تحديّاتٍ واقعيّةٍ للموظّفين، وتقديم بيئةٍ عملٍ داعمةٍ، وتشجيع ثقافة الإنجاز دون إفراط في الضّغوط التي تسبّب الانهيار.