الرئيسية تكنولوجيا هل تتحول التقنيات القابلة للارتداء إلى أداة مراقبة في العمل؟

هل تتحول التقنيات القابلة للارتداء إلى أداة مراقبة في العمل؟

حين تُستخدم الأجهزة القابلة للارتداء بمسؤوليّةٍ، تتحوّل من أدوات مراقبة محتملةٍ إلى وسيلةٍ لتعزيز رفاهيّة الموظّفين وإنتاجيّة بيئة العمل بثقةٍ وشفافيّةٍ

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

تعدّ التّقنيّات القابلة للارتداء من أبرز ملامح الثّورة التّكنولوجيّة المعاصرة، إذ تمضي بسرعةٍ لتصبح البديل الطّبيعيّ للهاتف الذّكيّ التّقليديّ، بفضل التّطوّرات الهائلة في مجالات الواقع المعزّز والواقع الافتراضيّ والأجهزة المدعومة بالذّكاء الاصطناعيّ. غير أنّ هذه التّقنيّات، الّتي بدأت مسيرتها في عالم المستهلكين عبر ساعات اللّياقة والسّاعات الذّكيّة، تجاوزت اليوم حدود الاستخدام الشّخصيّ لتشقّ طريقها إلى بيئات العمل الحديثة، حيث تستخدم كوسيلةٍ لمتابعة أداء الموظّفين ورفاهيّتهم، وتحليل مستويات النّشاط البدنيّ والتّوتّر وجودة النّوم. ومع ذلك، فإنّ هذه القفزة الرّقميّة الّتي تجمع بين الإدارة والتّكنولوجيا لا تخلو من الجدل، إذ ترافقها تساؤلاتٌ أخلاقيّةٌ حادّةٌ حول الخصوصيّة وحدود المراقبة في مكان العمل.

ففي دراسةٍ حديثةٍ أجراها فريقٌ من الباحثين في جامعة Surrey البريطانيّة، جمعت نتائج أبحاثٍ متعدّدةٍ لتقييم أثر الأجهزة القابلة للارتداء على الموظّفين، سواءٌ من حيث المنافع أو المخاطر. وقد تبيّن أنّ معظم المؤسّسات الّتي تبنّت هذه التّقنيّات تستعملها أساساً لرصد مؤشّرات الصّحّة العامّة، مثل جودة النّوم ومستويات التّوتّر والنّشاط البدنيّ، إضافةً إلى مراقبة التّفاعلات الجماعيّة داخل الفرق. ووفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن موقع Phys.org العلميّ، فقد أظهرت هذه الأجهزة قدرةً دقيقةً على قياس مؤشّرات الأداء النّفسيّ والجسديّ، وهو ما يعزّز فاعليّتها كأداةٍ لتطوير بيئة عملٍ أكثر توازناً واستدامةً.

لكنّ الصّورة ليست ورديّةً بالكامل، إذ يؤكّد الباحثون أنّ طريقة تطبيق هذه الأجهزة داخل بعض المؤسّسات تثير القلق أكثر ممّا تطمئن. فالكثير من الشّركات لا تفصح بوضوحٍ عن طبيعة البيانات الّتي تجمع من موظّفيها أو أسباب جمعها، وهو ما يولّد شعوراً بعدم الأمان ويغذّي مخاوف المراقبة المستمرّة. كما أنّ بعض الشّركات، كما أظهرت الدّراسة، تفتقر إلى سياساتٍ صارمةٍ لإدارة هذه البيانات، سواءٌ من حيث تحليلها أو تخزينها بأمانٍ، ممّا يفتح الباب أمام انتهاكاتٍ محتملةٍ للخصوصيّة قد تقوّض ثقة الموظّفين. ومن ثمّ، يمكن أن تتحوّل هذه التّقنيّات من أداةٍ لتعزيز الرّفاهيّة إلى وسيلةٍ للرّقابة المفرطة تهدّد الثّقافة المؤسّسيّة وتضعف الرّوح الجماعيّة.

ومع ذلك، يرى فريق الباحثين أنّه عندما تستخدم هذه التّقنيّات بمسؤوليّةٍ ووضوحٍ، فإنّها تصبح حليفاً حقيقيّاً للمؤسّسات في دعم مواردها البشريّة. فالأجهزة التّجاريّة الجاهزة، مثل السّاعات الذّكيّة وأجهزة تتبّع اللّياقة، يمكن أن تزوّد إدارات الموارد البشريّة ببياناتٍ لحظيّةٍ تساعد على اكتشاف بوادر الإرهاق أو ارتفاع التّوتّر قبل تحوّله إلى حالةٍ من الاحتراق الوظيفيّ، بل ويمكنها أيضاً أن تنبّه إلى المخاطر الأمنيّة قبل وقوع الحوادث. وكما أوضح الدّكتور سيباستيانو ماسّارو، أستاذ علم الأعصاب والمشارك في الدّراسة، فإنّ الاستخدام السّليم لهذه الأجهزة «يتيح للمؤسّسات التنبّه إلى مؤشّرات الخطر قبل تفاقمها، وبالتالي بناء بيئة عملٍ أكثر أماناً وإنتاجيّةً».

غير أنّ ماسّارو حذّر من أنّ غياب ضوابطٍ منهجيّةٍ وأخلاقيّةٍ واضحةٍ قد يحوّل هذه الأدوات من وسيلةٍ علميّةٍ إلى ممارسةٍ رقابيّةٍ مقلقةٍ، بحيث تختلط الحدود بين العلم والزّيف، وبين الدّعم النّفسيّ الحقيقيّ والمراقبة المقنّعة. وفي رأيه، فإنّ الأجهزة القابلة للارتداء يمكن أن تكون خطوةً مهمّةً نحو بيئات عملٍ أكثر تفاعلاً وصحّةً، ولكنّ استخدامها الخاطئ قد يكرّس ثقافة التتبّع غير المبرّر ويزيد من مستويات التّوتّر الّتي كان الهدف من هذه التّقنيّات تخفيفها.

وتزداد هذه المخاوف وجاهةً مع إعلان «أمازون» الأخير عن تطوير نظّاراتٍ ذكيّةٍ موجّهةٍ لسائقي التّوصيل، تقول الشّركة إنّها ستساعدهم على «تجنّب المخاطر والتّنقّل بسلاسةٍ وتحسين تجربة التّسليم». فالنّظّارات، الّتي تشبه نظّارات «ميتا» المعزّزة بالذّكاء الاصطناعيّ، تستخدم تقنيات الرّؤية الحاسوبيّة والاستشعار الذّكيّ لعرض تفاصيل الملاحة والمخاطر والمهامّ المطلوبة مباشرةً في مجال رؤية السّائق، حتّى يتمكّن من تحديد الطّرود الصّحيحة وتسليمها بسرعةٍ ودقّةٍ أكبر. ومن النّاحية التّقنيّة، قد تمثّل هذه الخطوة تقدّماً لافتاً في كفاءة الخدمات اللّوجستيّة، إلّا أنّها في الوقت ذاته أعادت إلى الواجهة المخاوف القديمة بشأن الخصوصيّة.

فقد أثار الإعلان فوراً تساؤلاتٍ حول ما إذا كانت هذه النّظّارات ستستخدم كأداةٍ لتحسين الأداء أم كوسيلةٍ جديدةٍ للمراقبة الدّقيقة، خصوصاً في ظلّ تاريخ «أمازون» المثير للجدل في تتبّع موظّفيها، والّذي أدّى إلى تغريمها 32 مليون يورو في فرنسا عام 2024 بسبب ممارسات المراقبة المفرطة. وهكذا يجد العالم نفسه أمام مفارقةٍ جديدةٍ: فالتّكنولوجيا الّتي وعدنا بأنّها ستجعل بيئة العمل أكثر ذكاءً وإنسانيّةً، قد تتحوّل إذا أسيء استخدامها إلى نظامٍ رقابيٍّ متقدّمٍ يضعف الثّقة ويفاقم الضّغط النّفسيّ.

وعليه، فإنّ تطبيق هذه التّقنيّات داخل المؤسّسات يتطلّب وعياً قياديّاً وأخلاقيّاً عالياً. فمن الممكن تقديم الأجهزة القابلة للارتداء للموظّفين بصورةٍ إيجابيّةٍ تبرز مزاياها الصّحيّة والشّخصيّة، لا كأداةٍ للتتبّع أو المحاسبة. كما يجب أن ترافق أيّ عمليّة تطبيقٍ سياساتٌ واضحةٌ ومعلنةٌ توضّح نوع البيانات الّتي تجمع وأغراضها، مع التزامٍ صارمٍ بحماية المعلومات الشّخصيّة والطّبيّة. فحين تكون الشّفافيّة في مقدّمة العلاقة بين الإدارة والعاملين، تتحوّل هذه التّقنيّات إلى عامل تمكينٍ لا تهديدٍ، وتصبح وسيلةً لتحسين بيئة العمل بدلاً من مراقبتها.

وباختصارٍ، يمكن القول إنّ التّقنيّات القابلة للارتداء تمثّل سيفاً ذا حدّين: فهي إمّا أن تسهم في تعزيز الرّفاهيّة والإنتاجيّة وتأسيس ثقافة عملٍ صحيّةٍ قائمةٍ على الثّقة، أو أن تغذّي هواجس الرّقابة وتحوّل مكان العمل إلى مساحةٍ مضبوطةٍ بالخوارزميّات. والفارق بين الحالتين لا يكمن في الجهاز ذاته، بل في الطّريقة الّتي تختار بها القيادة استخدامه، بين وعيٍ إداريٍّ يراعي الإنسان، وقراراتٍ عمياء تخضعه للآلة.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 5 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: