التسكّع السيبراني: بين الحرية الشخصية والانضباط المهني
حين يتحوّل التصفّح العشوائيّ إلى عادةٍ يوميّةٍ، يصبح التّسكّع السّيبرانيّ مرآةً لصراع الإنسان بين حاجته إلى الحرّيّة الرّقميّة وواجب الانضباط المهنيّ في عالمٍ متّصلٍ بلا انقطاعٍ

يشهد العالم الرّقميّ في السّنوات الأخيرة اتّساعاً لظاهرةٍ تعرف باسم التّسكّع السّيبرانيّ، وهي سلوكٌ يمارسه الأفراد عندما يقضون ساعاتٍ طويلةً في تصفّح الإنترنت دون هدفٍ محدّدٍ، متنقّلين بين المنصّات والمواقع في رحلةٍ رقميّةٍ تبدو بلا غايةٍ إنتاجيّةٍ واضحةٍ. ويكشف هٰذا السّلوك عن مزيجٍ من الفضول الفطريّ والرّغبة في التّرفيه، غير أنّه في الوقت ذاته يطرح تساؤلاتٍ عميقةً حول الخطّ الفاصل بين الحرّيّة الشّخصيّة والانضباط المهنيّ، خصوصاً في بيئات العمل الّتي أصبحت تعتمد على الشّبكة العنكبوتيّة كوسيلةٍ أساسيّةٍ للإنتاج والتّواصل. ومن هنا، تتبلور الإشكاليّة: هل يعدّ التّسكّع السّيبرانيّ استراحةً ذهنيّةً ضروريّةً لاستعادة النّشاط؟ أم هو مظهرٌ من مظاهر الهدر الرّقميّ الّذي يضعف الكفاءة ويقوّض روح المسؤوليّة المهنيّة؟
مفهوم التسكع السيبراني
يقصد بالتّسكّع السّيبرانيّ قضاء الأفراد أوقاتاً طويلةً في التّصفّح غير الموجّه للمحتوى الرّقميّ دون صلةٍ بعملهم أو أهدافهم المهنيّة. ويتّخذ هٰذا السّلوك صوراً متنوّعةً، من متابعة مواقع التّواصل الاجتماعيّ خلال ساعات الدّوام، إلى التّصفّح العشوائيّ لمقالاتٍ أو مقاطع فيديو، أو المشاركة في المنتديات الرّقميّة دون غرضٍ محدّدٍ.
وترجع جذور التّسكّع السّيبرانيّ إلى الطّبيعة الجذّابة للعالم الرّقميّ نفسه، إذ صمّم الإنترنت ليحفّز فضول المستخدم ويدفعه نحو الاستكشاف الدّائم عبر سيلٍ من الرّوابط والمحتويات المتدفّقة. ومع تطوّر خوارزميّات الذّكاء الاصطناعيّ الّتي تغذّي المستخدم بالمحتوى الموجّه وفق اهتماماته، أصبح الفرد يجد نفسه في دائرةٍ مغلقةٍ من التّصفّح الفضوليّ، يتنقّل فيها بلا وعيٍ بين ما يثير اهتمامه وما يضيّع وقته. وهٰكذا يتحوّل الفضاء الرّقميّ من وسيلةٍ للعمل والمعرفة إلى عالمٍ من التّشتّت والانغماس غير المقصود. [1]
التسكع السيبراني: بين الحرية الشخصية والانضباط المهني
يطرح التّسكّع السّيبرانيّ إشكاليّةً دقيقةً تمسّ صميم العلاقة بين حرّيّة الفرد ومسؤوليّته المهنيّة. ففي عالمٍ تتقاطع فيه الحياة الواقعيّة والافتراضيّة، تزداد الحدود بين الحرّيّة والانضباط ضبابيّةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فمن جهةٍ، يملك الإنسان الحقّ في قدرٍ من الحرّيّة الرّقميّة الّتي تتيح له التّنفيس عن ضغوط العمل واستعادة توازنه الذّهنيّ من خلال تصفّحٍ سريعٍ أو تفاعلٍ اجتماعيٍّ بسيطٍ. وتعدّ هٰذه الحرّيّة امتداداً لحقّه الطّبيعيّ في التّعبير والاستراحة الذّهنيّة، إذ لا يمكن اختزال الإنسان في أدواره الوظيفيّة وحدها أو تقييد وجوده المهنيّ بإطارٍ آليٍّ يخلو من المرونة الإنسانيّة.
ومن جهةٍ أخرى، تفرض بيئة العمل الحديثة التزاماً واضحاً بالانضباط المهنيّ الّذي يشكّل العمود الفقريّ لأيّ منظومةٍ إنتاجيّةٍ ناجحةٍ. فالمؤسّسات لا تدار فقط برأس المال المادّيّ، بل أيضاً بوقت الموظّفين وجهودهم، وهو ما يجعل إهدار السّاعات في تصفّحٍ غير منتجٍ شكلاً من أشكال الهدر التّنظيميّ غير المرئيّ. ومن هنا، ينبثق التّساؤل المحوريّ: كيف يمكن حماية الحرّيّة الفرديّة من جهةٍ، دون التّفريط في الكفاءة والانضباط من جهةٍ أخرى؟
يتحقّق هٰذا التّوازن حين يمارس الموظّف حرّيّته الرّقميّة بوعيٍ ومسؤوليّةٍ، فيخصّص فتراتٍ محدّدةً لتصفّحٍ ترفيهيٍّ أو شخصيٍّ لا يؤثّر على التزامه المهنيّ ولا يخلّ بجودة أدائه. فعندما يستخدم الإنترنت كوسيلةٍ لتجديد الطّاقة الذّهنيّة بدلاً من تشتيتها، يتحوّل من عبءٍ إلى موردٍ. وفي المقابل، تسهم المؤسّسات في تحقيق هٰذا التّوازن حين تضع سياساتٍ رقميّةً مرنةً تراعي احتياجات الأفراد النّفسيّة وتضمن في الوقت ذاته ضبط استخدام الإنترنت بما يخدم المصلحة العامّة. ومن خلال ذٰلك، تستبدل الرّقابة الصّارمة بثقافة الثّقة، ويتحوّل الانضباط من قيدٍ خارجيٍّ إلى وعيٍ ذاتيٍّ نابعٍ من الإحساس بالمسؤوليّة. [2]
كيف يمكن مواجهة التسكع السيبراني؟
تتطلّب مواجهة التّسكّع السّيبرانيّ مقاربةً شموليّةً تدمج بين التّوعية الفرديّة والتّنظيم المؤسّسيّ والدّعم التّكنولوجيّ. فلا يكفي أن يمنع السّلوك أو يدان، بل يجب أن يفهم ويوجّه نحو الاستخدام الإيجابيّ للفضاء الرّقميّ. ويمكن تحقيق ذٰلك من خلال مجموعةٍ من الإجراءات العمليّة المترابطة الّتي تضمن وعياً ومساءلةً وتغييراً سلوكيّاً حقيقيّاً.
- يجب تعزيز الوعي الرّقميّ عبر برامج تدريبيّةٍ وورش عملٍ توضّح مخاطر التّصفّح العشوائيّ وتأثيره في الإنتاجيّة والأمن المعلوماتيّ. فالمعرفة تسبق السّلوك، وكلّما ازداد وعي الأفراد بتبعات أفعالهم الرّقميّة، تقلّصت الاحتمالات الّتي تدفعهم نحو التّسوّف الإلكترونيّ أو الإدمان الرّقميّ.
- يلزم تطبيق سياساتٍ مرنةٍ وواضحةٍ تنظّم استخدام الإنترنت في بيئة العمل، بشكلٍ يتيح فتراتٍ محدّدةً للتّصفّح الشّخصيّ ضمن حدودٍ مقبولةٍ، مع الحفاظ على الخصوصيّة واحترام الثّقة المتبادلة بين الموظّف والمؤسّسة. فتنظيم الحرّيّة الرّقميّة لا يعني قمعها، بل توجيهها بما يحقّق التّوازن بين الاسترخاء والإنتاج.
- ينبغي اعتماد أدوات تحليلٍ رقميّةٍ غير متطفّلةٍ تراقب أنماط الاستخدام العامّ دون المساس بالخصوصيّات الفرديّة، لتساعد في اكتشاف فترات التّشتّت أو الانخفاض في التّركيز، ثمّ معالجتها بطرقٍ بنّاءةٍ مثل إعادة توزيع المهامّ أو تخفيف ضغط العمل. فهٰذه الأدوات تسهم في تصحيح السّلوك بدون فرض رقابةٍ قسريّةٍ تقوّض الثّقة.
- يجب تصميم بيئةٍ رقميّةٍ محفّزةٍ تقلّل الحاجة إلى التّسلية العابرة، وتدفع الموظّفين نحو المشاركة والإبداع والتّفاعل البنّاء مع محتوًى مؤسّسيٍّ ذي معنًى. فكلّما شعر الفرد بأنّ الفضاء الرّقميّ الّذي يعمل فيه ملهمٌ ومثمرٌ، قلّت حاجته للهروب منه نحو التّسكّع أو التّجوّل الإلكترونيّ غير المجدي.
- يلزم غرس قيم المسؤوليّة الذّاتيّة والوعي الأخلاقيّ من خلال ثقافة عملٍ تعلّي من شأن الالتزام والثّقة، وتعتبر الوقت الرّقميّ مورداً ثميناً يجب استثماره بوعيٍ وحكمةٍ لا استهلاكه عبثاً. فبناء مسؤوليّةٍ رقميّةٍ فرديّةٍ يعدّ أكثر فاعليّةً من أيّ رقابةٍ خارجيّةٍ.
الخاتمة
يجسّد التّسكّع السّيبرانيّ إحدى أبرز مفارقات العصر الرّقميّ، إذ يجمع في طيّاته بين البحث عن الحرّيّة والرّغبة في الهروب من الالتزام المهنيّ؛ فهو من جهةٍ يمنح الإنسان متنفّساً نفسيّاً ضروريّاً في عالمٍ سريع الإيقاع، ومن جهةٍ أخرى يهدّد كفاءة المؤسّسات ويقوّض روح الانضباط. ومن ثمّ، لا يكمن الحلّ في قمع هٰذه الظّاهرة، بل في توجيهها وتهذيبها حتّى تصبح شكلاً من أشكال الرّاحة الواعية لا التّشتّت العشوائيّ.
شاهد أيضاً: متصفح الويب: أداة البحث عبر الإنترنت
-
الأسئلة الشائعة
- ما أبرز أسباب انتشار التسكّع السيبراني في بيئة العمل؟ تنتشر الظّاهرة بسبب ضغط العمل، والملل، وضعف الرّقابة الذّاتيّة، وسهولة الوصول إلى المحتوى التّرفيهيّ عبر الإنترنت. كما تساهم الخوارزميّات التي تقترح محتوىً جذّاباً في تعزيز هذا السلوك دون وعيٍ من المستخدم.
- ما الفرق بين التسكّع السيبراني والإدمان الرقمي؟ يُعدّ التسكّع السيبراني سلوكاً مؤقتاً مرتبطاً بالتّصفح غير الموجّه خلال فترات العمل، بينما الإدمان الرّقميّ حالةٌ أعمق تنطوي على اعتمادٍ نفسيٍّ وسلوكيٍّ طويل المدى يجعل الفرد غير قادرٍ على الانفصال عن العالم الافتراضيّ.