الإرهاق المهني ليس ضعفاً: فكيف تتعامل معه بذكاء؟
الإرهاق المهنيّ ليس ضعفاً فرديّاً بل استجابة طبيعيّة لضغوط العمل المستمرّة، ويتطلّب إدارةً واعيةً للطّاقة وإعادة ترتيب الأوّلويّات للحفاظ على الأداء والاستدامة
يبرز الإرهاق المهنيّ اليوم كواحدٍ من أكثر الظّواهر حضوراً في بيئات العمل الحديثة، لا باعتباره ضعفاً شخصيّاً أو فشلاً فرديّاً، بل بوصفه نتيجةً طبيعيّةً لتراكم الضّغوط، وتسارع الإيقاع المهنيّ، واختلال التّوازن بين الجهد المبذول والموارد النّفسيّة المتاحة. ويقع كثيرون، رغم ذٰلك، في فخّ تفسير الإرهاق المهنيّ على أنّه نقصٌ في التّحمّل أو ضعفٌ في الانضباط، بينما يكشف الواقع، على العكس، أنّ الإرهاق المهنيّ يمثّل استجابةً ذكيّةً من العقل والجسد لإشارات استنزافٍ طويلة الأمد لم تعالج في وقتها. ومن هنا، تفرض المرحلة فهماً أعمق لطبيعة الإرهاق المهنيّ، وتفرض معها تعلّم كيفيّة التّعامل معه بوعيٍ وذكاءٍ، لا عبر الإنكار أو جلد الذّات، بل عبر إدارةٍ واعيةٍ للطّاقة وإعادة ضبط العلاقة مع العمل على أسسٍ أكثر استدامةً.
ما المقصود بالإرهاق المهني؟
يعرّف الإرهاق المهنيّ على أنّه حالةٌ من الاستنزاف الجسديّ والنّفسيّ والذّهنيّ تنتج عن التّعرّض المستمرّ لضغوط العمل دون فترٍ كافيةٍ للتّعافي. ويتشكّل هٰذا الإرهاق تدريجيّاً، لا بشكلٍ مفاجئٍ، إذ تتراكم مشاعر التّعب مع الوقت، وتتراجع الدّافعيّة خطوةً بعد أخرى، ويضعف التّركيز، إلى أن يتحوّل الإنجاز من مصدرٍ للرّضا إلى عبءٍ ثقيلٍ. ولا يقتصر الإرهاق المهنيّ على كثرة المهامّ وحدها، بل يتغذّى أيضاً من غموض التّوقّعات، وغياب التّقدير، وضعف السّيطرة على القرارات، وتضارب الأدوار داخل المؤسّسة، ما يجعل الشّعور بالاستنزاف أكثر تعقيداً وأعمق أثراً.
الإرهاق المهني ليس ضعفاً: فكيف تتعامل معه بذكاء؟
لا يعبّر الإرهاق المهنيّ عن ضعفٍ في القدرة أو تراجعٍ في الكفاءة، بل يكشف عن تراكمٍ طويلٍ للضّغوط تجاوز حدود التّحمّل الطّبيعيّ. ولذٰلك، يصبح التّعامل الذّكيّ مع الإرهاق المهنيّ خطوةً واعيةً لإعادة التّوازن، وحماية الأداء، ومنع تحوّل الاستنزاف المؤقّت إلى عائقٍ دائمٍ يهدّد الاستقرار المهنيّ والنّفسيّ معاً. [1]
اعترف بالإرهاق دون إنكار
يبدأ التّعامل الذّكيّ مع الإرهاق المهنيّ عندما يعترف الفرد بوجوده بوضوحٍ ودون تبريرٍ أو مقاومةٍ. ويقود الإنكار غالباً إلى محاولة الاستمرار بالقوّة، غير أنّ هٰذه المحاولة لا تؤدّي إلّا إلى تعميق الاستنزاف مع مرور الوقت. في المقابل، يفتح الاعتراف باب الفهم والتّحليل، ويمنح العقل فرصة الانتقال من ردّ الفعل التّلقائيّ إلى الفعل الواعي القائم على الإدراك والتّخطيط.
حلل مصادر الضغط بدقة
ينبغي أن يحدّد الفرد، بعد الاعتراف، ما الّذي يصنع الإرهاق المهنيّ تحديداً، هل يتمثّل في تراكم المهامّ، أم في غموض التّوقّعات، أم في غياب السّيطرة، أم في تداخل العمل مع الحياة الخاصّة. ويساعد التّفكيك الدّقيق لمصادر الضّغط على تحويل الإرهاق من شعورٍ مبهمٍ إلى مشكلةٍ محدّدةٍ قابلةٍ للإدارة، كما يمنع تعميم التّعب على كلّ جوانب العمل دون تمييزٍ.
أعد ترتيب الأولويات بواقعية
يفرض التّعامل الذّكيّ مع الإرهاق المهنيّ إعادة ترتيب الأولويّات وفق الطّاقة المتاحة، لا وفق الطّموحات المثاليّة أو الضّغوط الخارجيّة. ويؤدّي التّركيز على المهامّ الأعلى أثراً إلى تقليل الاستنزاف النّاتج عن الانشغال الدّائم بالتّفاصيل الثّانويّة. ومن خلال هٰذا التّرتيب الواعي، يستعيد الفرد شعوره بالتّحكّم، وهو عنصرٌ محوريٌّ في تقليل حدّة الإرهاق.
ضع حدوداً مهنية واضحة
يحمي وضع الحدود المهنيّة الفرد من التّحوّل إلى حالة عملٍ دائمةٍ بلا توقّفٍ. ويشمل ذٰلك تحديد أوقات الاستجابة، وضبط العمل خارج الدّوام، ورفض تحميل الذّات مسؤوليّاتٍ تتجاوز القدرة الواقعيّة. ويعدّ بناء الحدود مهارةً أساسيّةً في الوقاية من الإرهاق المهنيّ، لأنّه يمنح العقل مساحاتٍ منتظمةً للتّعافي، ويمنع استنزافه المستمرّ.
استثمر في التعافي لا في التوقف السلبي
لا يكفي التّوقّف المؤقّت عن العمل لمعالجة الإرهاق المهنيّ، بل يتطلّب الأمر استثماراً واعياً في أنشطةٍ تعيد شحن الطّاقة الذّهنيّة والنّفسيّة. ويشمل ذٰلك تنظيم النّوم، وممارسة الحركة الجسديّة، وتقليل التّعرّض الرّقميّ، والانخراط في أنشطةٍ تمنح الإحساس بالمعنى. ومن خلال هٰذا التّعافي الفعّال، يستعاد التّوازن الدّاخليّ بدل تأجيل الانهيار إلى وقتٍ لاحقٍ.
عدل طريقة التفكير تجاه الأداء
يفرض الإرهاق المهنيّ أحياناً مراجعةً عميقةً للقناعات المرتبطة بالكمال، والإنجاز المستمرّ، وربط القيمة الذّاتيّة بالإنتاج فقط. ويساعد تبنّي مفهوم الأداء المستدام على تخفيف الضّغط الدّاخليّ، كما يمنح الفرد مساحةً لتحقيق النّجاح دون الوقوع في دائرة الاستنزاف الدّائم.
اطلب الدعم عند الحاجة دون تردد
يعدّ طلب الدّعم خطوةً ذكيّةً عندما يستمرّ الإرهاق المهنيّ رغم محاولات التّنظيم الذّاتيّ. ويساعد الحوار مع الإدارة، أو الاستعانة بمختصّين، على بناء حلولٍ عمليّةٍ طويلة الأمد. ويعبّر طلب الدّعم عن وعيٍ بالذّات ومسؤوليّةٍ تجاه الصّحّة المهنيّة، لا ضعفاً أو فشلاً كما يعتقد خطأً.
الخاتمة
لا يعدّ الإرهاق المهنيّ ضعفاً، بل إشارةً ذكيّةً إلى خللٍ في التّوازن بين الجهد والموارد. ويقود التّعامل الواعي مع الإرهاق المهنيّ إلى فهمٍ أعمق للذّات، وإدارةٍ أذكى للطّاقة، وبناء علاقةٍ صحّيّةٍ مع العمل تقوم على الاستدامة لا الاستنزاف. وعندما يدرك الفرد والمؤسّسة معاً أنّ الوقاية من الإرهاق المهنيّ شرطٌ أساسيٌّ للنّجاح طويل الأمد، يتحوّل العمل من عبءٍ ثقيلٍ إلى مساحة إنتاجٍ متوازنٍ، يحقّق الإنجاز دون أن يستهلك الإنسان.
شاهد أيضاً: كيف تُطفئ شرارة الإرهاق في وظائف العمل بالساعة؟
-
الأسئلة الشائعة
- هل يمكن أن يصيب الإرهاق المهنيّ الأشخاص الناجحين فقط؟ نعم، يُصيب الإرهاق المهنيّ غالباً الأشخاص الأكثر التزاماً ومسؤوليةً، لأنهم يميلون إلى تحميل أنفسهم أعباءً إضافيةً والسعي الدائم للإنجاز. ويؤدي هذا النمط، مع غياب فترات التعافي، إلى استنزافٍ تدريجيٍّ للطاقة حتى لدى أصحاب الكفاءة العالية.
- هل تغيير الوظيفة يحل مشكلة الإرهاق المهني؟ لا يحل تغيير الوظيفة المشكلة دائماً، لأن الإرهاق المهنيّ قد ينتقل مع الفرد إذا لم يعالج أسلوب العمل والحدود والقناعات الداخلية. وقد يخف الضغط مؤقتاً، لكن يعود الإرهاق إذا استمرت أسباب الاستنزاف.