من القرارات العشوائية إلى التخبط: تأثير الفصام الإداري على الإنتاجية
حين تتناقض القرارات والتّوجيهات داخل المؤسّسة، يظهر الفصام الإداري الذي يضعف الإنتاجيّة ويخلق بيئة عملٍ مضطربةً تحتاج لمعالجة جذوره
تدفع بيئات العمل المتقلّبة اليوم القادة إلى اتّخاذ قراراتٍ سريعةٍ، غير أنّ هٰذه السّرعة تتحوّل في كثيرٍ من الأحيان إلى سلسلةٍ من القرارات العشوائيّة الّتي تدخل المؤسّسة في حالة ارتباكٍ إداريٍّ يصعب احتواؤها. وما إن تتراكم هٰذه القرارات حتّى يظهر الفصام الإداريّ بوصفه نتيجةً طبيعيّةً لواقعٍ تتناقض فيه التّوجيهات، وتتراجع فيه الإدارة عن مواقفها، أو تتبنّى خطاباً لا يعكس ما يجري فعليّاً على أرض الواقع. ومع اتّساع هٰذا التّناقض، يكشف تأثير الفصام الإداريّ أنّ المشكلة لا تقتصر على إرباك الموظّفين، بل تتجاوزهم لتعطيل منظومة الإنتاج بأكملها ودفع بيئة العمل نحو التّخبّط وفقدان الاتّجاه. ومن هنا، يصبح فهم هٰذا الاضطراب ضرورةً لا مفرّ منها، لأنّ إدراك جذوره وسلوكيّاته وآثاره هو المدخل الأوّل نحو استعادة التّوازن التّنظيميّ ومنع تدهور الأداء.
طبيعة الفصام الإداري ولماذا يظهر
يعرّف الفصام الإداريّ بأنّه حالةٌ تنظيميّةٌ تفقد فيها الإدارة انسجامها بين ما تعلن وما تطبّق، إذ تطلق القيادة سياساتٍ واضحةً في ظاهرها، ثمّ تتصرّف على خلافها تماماً في الواقع اليوميّ. وتنشأ هٰذه الازدواجيّة غالباً عندما تتضارب المصالح الدّاخليّة، أو عندما تتغيّر التّوجّهات من دون توضيح الأسباب، أو تفشل الإدارة في بناء رؤيةٍ ثابتةٍ تحتكم إليها عند اتّخاذ القرارات. وبالإضافة إلى ذٰلك، يزيد الاضطراب حين يعتمد القادة على الانطباعات السّريعة بدل البيانات الدّقيقة، أو عندما يحاولون إرضاء جميع الأطراف فتخرج القرارات ملتبسةً وغير متناسقةٍ. وبمرور الوقت، تتحوّل هٰذه الممارسات المتفرّقة إلى نمطٍ إداريٍّ راسخٍ يعطّل القدرة على توقّع الخطوات التّالية، ويجعل البيئة الدّاخليّة أكثر هشاشةً وتقلّباً. [1]
كيف يؤثر الفصام الإداري على الإنتاجية؟
يدخل الفصام الإداريّ إلى المؤسّسة عادةً من بوّابة القرارات السّريعة غير المدروسة، ثمّ لا يلبث أن يمتدّ تأثيره من قرارٍ واحدٍ إلى منظومة العمل بأكملها. وكلّما تبدّلت التّوجيهات بشكلٍ مفاجئٍ، أو ألغيت قراراتٌ رئيسيّةٌ بعد ساعاتٍ من تنفيذها، أو ابتعد الخطاب الإداريّ عن الواقع الفعليّ، يتراجع مستوى الإنتاجيّة بصورةٍ واضحةٍ، لأنّ الموظّفين يفقدون القدرة على فهم الاتّجاه العامّ أو ترتيب الأولويّات. ومع تكرّر تغيّر التّوجّه، يعاد العمل على المهامّ نفسها مرّاتٍ، فيضيع الوقت وتهدر الموارد، ويزداد الإرهاق الذّهنيّ لدى الفريق.
وتشير التّجارب التّنظيميّة إلى أنّ الفصام الإداريّ يصنع بيئةً يسودها التّردّد والخوف من المبادرة، إذ لا يعرف الموظّف ما إذا كان قرار اليوم سيبقى أو سيستبدل غداً. ومع استمرار هٰذا الاضطراب، تتراجع جودة المخرجات، ويضعف الالتزام، وتختفي الرّغبة في الابتكار. وسرعان ما تنتقل المؤسّسة من التّخطيط إلى ردّ الفعل، فتتآكل روح الفريق، وتنخفض القدرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة بشكلٍ خطيرٍ.
ومع تفاقم هٰذا الاضطراب، تتّسع الفجوة بين ما تنتظره الإدارة وما يستطيع الفريق تنفيذه فعليّاً، فتظهر اختلافاتٌ واضحةٌ في تفسير المهامّ وتحديد نطاق كلّ دورٍ. ويزيد هٰذا الانفصال حين تتضارب الأولويّات بين الأقسام، فينشغل كلّ فريقٍ بإطفاء حرائق اللّحظة بدل التّركيز على العمل الحقيقيّ ذي القيمة. ولا يتوقّف أثر الفصام الإداريّ عند حدود الأداء اليوميّ، بل يمتدّ ليضرب القرارات المستقبليّة، لأنّ غياب الثّبات يمنع المؤسّسة من بناء تجارب تراكميّةٍ تحسّن جودة القرار مع الوقت. وهٰكذا، يتحوّل التّخبّط الإداريّ إلى عبءٍ ثقيلٍ يستهلك طاقة الموظّفين ويحدّ من قدرة المؤسّسة على النّموّ في سوقٍ يتطلّب وضوحاً واتّساقاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. [2]
الأسباب العميقة للفصام الإداري
يظهر الفصام الإداريّ نتيجة مجموعةٍ من العوامل المترابطة الّتي تتفاعل معاً وتضعف قدرة المؤسّسة على اتّخاذ قراراتٍ مستقرّةٍ ومتماسكةٍ، ويمكن تلخيص أبرزها كالآتي:
- يقود الغموض الاستراتيجيّ الإدارة إلى الانفصال عن رؤيتها الطّويلة المدى، إذ تتّخذ القرارات في إطارٍ قصير الأجل ومن دون منطقٍ ثابتٍ، ممّا يمهّد الطّريق أمام تناقضاتٍ متكرّرةٍ.
- يساهم ضعف مهارات التّواصل القياديّ في توسيع الفجوة بين الإدارة والفرق، لأنّ القرارات تفهم بطريقةٍ مختلفةٍ في كلّ قسمٍ، فينتشر الالتباس ويزداد تأثير الفصام الإداريّ على التّنسيق الدّاخليّ.
- تنتج حالات الاضطراب الإداريّ أحياناً عن ضغوط المنافسة ومتطلّبات السّوق الّتي تدفع القائد إلى تغيير الاتّجاه فجأةً، فتفقد المؤسّسة استقرار خطّتها وتدخل في دائرة التّخبّط.
- يحدث الخلل عندما يفتقر القادة إلى البيانات والتّحليل، فيعتمدون على الحدس والانطباع، ممّا يجعل القرارات غير متناسقةٍ مع الواقع وغير قابلةٍ للتّنفيذ المستمرّ.
- يعمّق غياب الحوكمة المؤسّسيّة الفعّالة مشكلة الفصام الإداريّ، لأنّ ضعف الضّوابط يسمح بصدور قراراتٍ فرديّةٍ غير مدروسةٍ دون مراقبةٍ أو مراجعةٍ، فتتراكم الأخطاء داخل بنية المؤسّسة.
- يتجذّر الاضطراب مع مرور الوقت حين تتكرّر التّناقضات دون تصحيحٍ، فتتحوّل إلى ثقافةٍ داخليّةٍ تربك العمل وتضعف الإنتاجيّة وتزيد تأثير الفصام الإداريّ على أداء الموظّفين.
الخاتمة
يؤكّد تأثير الفصام الإداريّ أنّ التّناقض في القرارات لا يضرّ الإنتاجيّة فحسب، بل يهدّد تماسك المؤسّسة وقدرتها على النّموّ على المدى الطّويل. ومع امتداد الاضطراب الإداريّ، يتراجع الأداء، وتضعف الثّقة، وتعمّ حالة الارتباك داخل الفرق. غير أنّ هٰذه المشكلة ليست قدراً محتوماً، إذ تستطيع المؤسّسات تجاوزها حين تبني رؤيةً واضحةً، وتلتزم بالاتّساق بين القول والفعل، وتعتمد على البيانات لا الانطباعات، وتفعّل قنوات التّواصل الدّاخليّ بشكلٍ مستمرٍّ. وعندما تعالج المؤسّسة جذور الفصام الإداريّ مبكّراً، تستعيد قدرتها على التّخطيط وتعيد بناء بيئة عملٍ مستقرّةٍ تحفّز الإبداع وتعزّز الإنتاجيّة.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين الفصام الإداري والتخبط الإداري؟ يحدث الفصام الإداري عندما تتناقض القرارات والخطابات داخل المؤسسة، بينما يظهر التخبط الإداري كنتيجة عملية لهذا التناقض، حيث تتشتت الأولويات ويتعطل التنفيذ. بمعنى آخر، الفصام الإداري هو السبب الجذري، والتخبط الإداري هو الأثر الظاهر الذي يعكس غياب الاتساق في الرؤية والتوجيه.
- كيف يميز الموظفون علامات الفصام الإداري قبل تفاقمه؟ تبدأ العلامات بظهور رسائل متضاربة من الإدارة، ثم تتكرر التغييرات المفاجئة في الاستراتيجيات، وتليه حالة ارتباك في توزيع المهام أو تفسيرها. كما يلاحظ الموظفون غياب المتابعة الحقيقية للقرارات، وتناقض ما يقال في الاجتماعات مع ما يُطلب عملياً. هذه المؤشرات تساعد الفريق على كشف المشكلة قبل أن تتحول إلى أزمة إنتاجية.