لزيادة الإنتاج وجذب المواهب.. كيف تبني ثقافة عمل استثنائية؟

يعزّز بناء ثقافة عملٍ فريدةٍ دون تقليد الآخرين من قيمة الشّركة محلّيّاً وعالميّاً، فعندما تجتذب أفضل المواهب، وتحتفظ بهم وتزيد من حافزهم للنّجاح والتّفوّق، فإنّ هذا يعني مواجهةً أفضل للتّحدّيات المختلفة والخروج منها أكثر قوّةً، بالإضافة إلى تحسّنٍ واضحٍ في صورة الشّركة العامّة أمام العملاء وزيادة الإنتاجيّة والأرباح بأقلّ التّكاليف.

إنّ ثقافة الشّركة هي مجموعة القيم والمعتقدات والسّلوكيّات والعادات والمواقف والأهداف الّتي تلخّص هويّة الشّركة، وهي إمّا تدفع المؤسّسة إلى النّجاح السّاحق أو الفشل الذّريع.

فكيف تبني ثقافة عملٍ فريدةً تميّزك تماماً، وتكون من مصادر قوّتك التّنافسيّة مع الاستمرار في النّموّ والتّطوّر؟ ^[1]  

ماذا يمكن لمدير الشّركة أن يفعل لبناء ثقافة عملٍ فريدةٍ؟

يختلف تطبيق خطوات بناء ثقافة عملٍ فريدةٍ من شركةٍ إلى أخرى وفقاً للأهداف والميزانيّة وطبيعة مجال العمل وقيم التّنافسيّة وغيرها. ومن أهمّ ثقافات العمل السّائدة عموماً:

• ثقافة العشيرة (Clan Culture): تعني تقدير العمل الجماعيّ والارتباط العاطفيّ بين الموظّفين والإدارة بعضهم البعض، ومن أمثلةٌ هذه الثّقافة شركتا غوغل وزابوس (Zappos).
• ثقافة الأدهقراطيّة (Adhocracy Culture): تعني الابتكار لحلّ المشكلات الطّارئة بدلاً من التّخطيط لتجنّبها، والكلمة أصلها لاتينياً، وتعني "من أجله"، ومن أمثلةٌ هذه الثّقافة؛ شركة آبل.
• ثقافة السّوق (Market Culture): تعتمد على الضّغط الشّديد على الموظّفين للحصول على أفضل ما لديهم مع منح عوائد مرضيةٍ من رواتب مرتفعةٍ ومزايا صحّيّةٍ، تركّز على الأهداف والنّتائج، ومن أمثلةٌ هذه الثّقافة شركتا تسلا وأمازون، كما أنّها السائدة في معظم الشركات.
• ثقافة التّسلسل الهرميّ (Hierarchy Culture): تعتمد على فكرة تنفيذ كلّ شيءٍ بطريقةٍ صحيحةٍ تماماً، مع الالتزام بترتيب الأحداث وهيكليّة الشّركة، ولا تشجّع الإبداع والحلول غير التّقليديّة، وتفضّلها عادةً شركات التّجارة الإلكترونيّة. ^[2]  

ومن أهمّ الخطوات الّتي يمكن تنفيذها لبناء ثقافة عملٍ فريدةٍ وفقاً للنّوع الأكثر ملاءمةً لأهداف الشّركة وطبيعتها:

الحرص على التّوظيف وفقاً لمتطلّبات ثقافة الشّركة

فلا توظّف شخصاً كفئاً ولكن لا يتمتّع بالإبداع، وأنت تنتهج ثقافةً أدهقراطيّةً، والعكس صحيحٌ، فلا توظّف مبدعاً في وظيفةٍ تحرمه من تجربة أمورٍ مختلفةٍ.

وقد نجحت شركة "زابوس" في تنفيذ هذه الخطوة بفاعليّةٍ، فهي تهتمّ بسعادة الموظّفين ورضاء العملاء في المقام الأوّل، وتوضّح ثقافتها تماماً لكلّ موظّفٍ جديدٍ، وتخضعه لمقابلةٍ خاصّةٍ بثقافة الشّركة فقط، ولا تتطرّق لأيّ مهاراتٍ أو خبراتٍ أخرى خلال تلك المقابلة.

كما تنظم لقاءاتٌ بين المرشّحين الجدد والموظّفين القدامى لتحديد مدى ملاءمتهم الثّقافيّة وقدرتهم على العمل معاً.

فهم التّوقّعات وتحديدها

يؤدّي فهم توقّعات الموظّفين إلى تحسين الدّيناميكيّة والتّعاون وتعزيز الرّضاء الوظيفيّ، وهذا ما نجحت فيه شركة نتفلكس، فهي تحدّد التّوقّعات المطلوبة من الموظّف في مرحلة التّوظيف، وتتعرّف على توقّعاته أيضاً.

وهذا يضمن أنّ كلّ موظّفٍ جديدٍ على درايةٍ تامّةٍ بما هو مطلوبٌ منه. ولكنّ الكثير من الشّركات تتجاهل هذا العامل، وبالتّالي يؤدّي ذلك إلى إفساد ثقافة الشّركة وتكرار الأخطاء نفسها.

الاهتمام المطلق بالتّقدير

من الضّروريّ الاحتفال بالإنجازات ومكافأة أصحابها علناً مع الاهتمام بالعدل والشّفافيّة في هذا النّطاق، وقد نجحت Airbnb في هذا لتحصل على لقب أفضل مكان عملٍ في 2016 من Glassdoor، وارتفعت قيمتها إلى الغاية خلال وباء كوفيد-19 مع الاهتمام البالغ بدعم ثقافة المشاركة ومعالجة جميع مشاكل الموظّفين في هذه الفترة الحرجة على العالم أجمع.

اعتماد الملاحظات والتّقييم بطريقة 360 درجة

وهي تعني تقديم ملاحظاتٍ متنوّعة المصادر تجمع بين رؤساء الموظّف ومرؤوسيه وزملائه، بالإضافة إلى التّقييم الذّاتيّ من الموظّف نفسه، كما يشمل الأمر جهاتٍ خارجيّةً يتعامل معها الموظّف مثل العملاء والمورّدين، فهذا يؤدّي للتّطوّر المستمرّ، وتعتبر شركة Shopify من الأمثلة النّاجحة إلى الغاية في هذا الخصوص، إذ تركّز على الملاحظات الصّادقة دون توجيه اتّهاماتٍ؛ ممّا يدفع الموظّفين للتحسّن المستمر.

المرونة وتجنّب الإدارة التّفصيليّة

من أهمّ طرق بناء ثقافة عملٍ مميّزةٍ هو تبنّي المرونة سواءٌ في عدد ساعات العمل أو مكانها، فهذا يزيد من التّوازن بين العمل والحياة، ويعزّز الرّضاء الوظيفيّ، ولكن قد تنتج بعض مشاكل مثل التّسويف وعدم الالتزام بالمواعيد النّهائيّة، ممّا يضرّ بالشّركة، وهنا لا يكون الحلّ في تبنّي نظام الإدارة التّفصيليّة والمراقبة المستمرّة للموظّفين.

ولكن يجب تطوير ثقافة المساءلة والاعتراف بالموظّفين الّذين يظهرون التّميّز في عملهم ومعالم هذا التّميّز، مع تنفيذ استراتيجيّات التّواصل الفعّال، وتوفير الموارد اللّازمة لتعلّم مهاراتٍ جديدةٍ وتلقّي التّدريب والتّوجيه، مع التّركيز على الأهداف وتوضيحها تماماً لتجنّب الالتباس.

ما أفضل شركاتٍ حقّقت ثقافة عملٍ فريدةٍ؟

يؤكّد ديفيد كامينجس المؤسّس المشارك في باردوت Pardot لأتمتة التّسويق والتّابعة لشركة Salesforce أنّ ثقافة العمل هي الميزة التّنافسيّة الوحيدة الّتي تخضع بالكامل لسيطرة رجل الأعمال، وسواءٌ كانت سامّةً وعدائيّةً أو مشجّعةً ومحفّزةً، فإنّها بالتّأكيد من الأسباب الأساسيّة لتشكيل هويّة الشّركة وتحديد موقعها السّوقيّ. ومن أهمّ الشّركات الّتي تتمتّع بثقافةٍ فريدةٍ نرصد كلّاً من: ^[3]  

غوغل وتعزيز الرّفاهية والتّعاون والابتكار

فازت شركة غوغل بجائزة أفضل ثقافةٍ عالميّةٍ من Comparably في 2024، فهي تعتمد ثقافة الإبداع والابتكار وتمكين الموظّفين، ومع وضع سياسة 20% والّتي تنصّ على قضاء الموظّف 20% من وقت العمل لمحاولة ابتكار أفكارٍ جديدةٍ، فإنّ غوغل تمكّنت من إنشاء نماذج مبتكرةٍ مثل أخبار غوغل أدسنس للمحتوى.

ولكن حتّى المشروعات الّتي فشلت، فإنّ غوغل تقدّرها؛ لأنّها تضيف قيمة التّعلّم، ومع الاهتمام بالرّفاهية المطلقة للموظّفين من حجرات قيلولةٍ ووجباتٍ مجّانيّةٍ ومرافق ترفيهيّةٍ، فإنّ غوغل ضربت مثالاً قويّاً في بيئة العمل الّتي تقوم على الشّمول والانتماء وتعزيز التّنوّع والاتّصال.

شركة باتاغونيا والالتزام بقيمٍ بيئيّةٍ مستدامةٍ

اشتهرت شركة باتاغونيا Patagonia للملابس الأمريكيّة باهتمامها الشّديد بقضايا البيئة والتّنمية المستدامة، وهي تدعو موظّفيها باستمرارٍ للدّفاع عن تلك القيم وإعلائها يوميّاً، وتؤكّد تخصيص جزءٍ من الأرباح لمعالجة قضايا المناخ.

وهذا يجعلها جذّابةً إلى الغاية للموظّفين المهتمّين بتلك القيم، وتمنحهم إجازةً مدفوعة الأجر للمشاركة في التّطوّع البيئيّ، كما تجذب نسبةً كبيرةً من العملاء المهتمّين بتلك القضايا والرّاغبين في إضافة شيءٍ مجتمعيٍّ خلال نشاطهم اليوميّ.

شركة HubSpot والالتزام بالشّفافيّة والاستقلاليّة والنّموّ

حدّدت شركة HubSpot ثقافتها بوضوحٍ تامٍّ في "مدونة الثّقافة" وهي وثيقةٌ تؤكّد على الشّفافيّة والاستقلاليّة والتّعلّم المستمرّ. ولكنّ هذه المدونة تتطوّر باستمرارٍ للتّكيّف مع احتياجات الموظّفين وفقاً لتغيّر الظّروف. وتدعم الشّركة مشاركة المعلومات بحرّيّةٍ والتّمتّع بالثّقة والاستقلاليّة في تنفيذ المهامّ مع تبنّي المرونة المطلقة والميل نحو التّأثير طويل الأجل بحيث تكون الأخطاء مقبولةً، لكن مع أهمّيّة التّعلّم منها.

شركة نتفلكس والاهتمام بالأداء والمسؤوليّة والشّفافيّة

تتمتّع شركة نتفلكس بثقافةٍ مميّزةٍ تعتمد على تقدير الأداء المرتفع والاحتفاظ بالمواهب المميّزة مع منح الموظّفين درجةً عاليةً من الاستقلاليّة لاتّخاذ القرارات، ولكن مع توقّع المساءلة عن أفعالهم في الوقت ذاته. فكلّ فردٍ يتولّى تماماً مسؤوليّة عمله مع المحاسبة على النّتائج سواءٌ إيجاباً أو سلباً، مع الحرص على توفير كافّة المعلومات والإمكانات المطلوبة لتنفيذ المهامّ بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ. وهي تعتبر واحدةً من أفضل أماكن العمل المحبوبة وفقاً لاستطلاع رأيٍ من Newsweek في 2023.

شركة Spotify والدّمج بين الابتكار والمرونة والتّعاون

تشتهر شركة Spotify بثقافتها المرنة والمتكيّفة مع الظّروف المختلفة، والّتي تـمكّن الفرق من الابتكار والتّعاون بفاعليّةٍ أكبر. وتلتزم تماماً بمبادئ الابتكار مهما كانت المخاطرة كبيرةً، مع القيادة بشفافيّةٍ والتّفاعل بعقولٍ منفتحةٍ. بالإضافة إلى تعزيز الشّغف وتحفيز الآخرين، وإعلاء قيم التّعاون بين أفراد الفريق.

وكما أنّ هناك نماذج متنوّعةً لثقافة عملٍ مميّزةٍ، فإنّ بعض الشّركات اشتهرت بثقافة عملٍ سامّةٍ مثل أوبر الّتي وضعت النّتائج فوق كلّ شيءٍ ممّا قلّل من معدّلات نموّها، كما أنّ فوريفر 21 Forever 21 من النّماذج السّيّئة أيضاً، والّتي كانت تجبر الموظّفين على البقاء في المكتب لساعاتٍ طويلةٍ واستقطاع فترات راحة الغداء مع عدم تقديم أجورٍ عادلةٍ؛ ممّا جعلها عرضةً لأكثر من دعوى قضائيّةٍ.

وفي الختام، ليس من السّهل مطلقاً الوصول إلى ثقافة عملٍ فريدةٍ وإيجابيّةٍ ومستدامةٍ، فهي من الأمور الّتي يجب أن تعمل على تطويرها باستمرارٍ مع إعادة تقييم أهداف الشّركة ونتائجها للتّوصّل لأفضل شكلٍ، والحرص على غرس هذه الثّقافة باستمرارٍ في نفوس الموظّفين والتّأكّد من وعيهم بها وحفاظهم عليها، ودعم المشاركة المستمرّة بالآراء والتّجارب والخبرات للتّأكّد من التزام الجميع بتلك الثّقافة داخل العمل وخارجه.