كيف يساعد دمج معايير ESG في جذب التمويل الأخضر الخليجي؟
تشهد دول الخليج تطوراً ملحوظاً في تبنّي معايير الاستدامة البيئيّة والاجتماعيّة والحوكمة، مدفوعةً برؤىً وطنيّةٍ تعزّز التّنوّع الاقتصاديّ والاستثمار المسؤول

في السّنوات الأخيرة، أصبحت معايير ESG، وهي معايير تتعلّق بالبيئة والمجتمع والحوكمة، عنصراً جوهريّاً في تقييم أداء الشّركات وفعاليّة المشاريع من ناحية الاستدامة والمسؤوليّة المجتمعيّة. تركّز هٰذه المعايير على خفض الانبعاثات الكربونيّة، والحفاظ على الموارد الطّبيعيّة، وتعزيز مبادئ العدالة الاجتماعيّة، إلى جانب إرساء نظم حوكمةٍ تسودها الشّفافيّة والأخلاق والمساءلة.
ويرافق هٰذه المعايير مفهومٌ متصاعدٌ في الأسواق العالميّة يعرف بـ "التمويل الأخضر" (Green Financing)، ويقصد به توجيه رؤوس الأموال والاستثمارات نحو المشاريع الّتي تساهم في حماية البيئة، كإنشاء محطّات الطّاقة المتجدّدة، وتحسين كفاءة الاستهلاك، وتقليل الفواقد في سلسلة الإنتاج، ودعم مبادر التّوجيه البيئيّ للمؤسّسات.
وعندما يجتمع البعد البيئيّ والاجتماعيّ والإداريّ في نظامٍ موحّدٍ، يمكن تطوير إطار عملٍ يدمج معايير ESG مع أهداف التمويل الأخضر، ممّا يساهم في صياغة قراراتٍ استثماريّةٍ ذكيّةٍ وطويلة الأمد. ويعتبر هٰذا الاندماج مفتاحاً لمواكبة التّوجّهات العالميّة المتزايدة نحو تبنّي نماذج نموٍّ مستدامةٍ، خصوصاً في المناطق الّتي تسعى إلى تنويع مصادر دخلها وتقليل الاعتماد على القطاعات التّقليديّة.
ومع تصاعد الأزمات المناخيّة، وازدياد المتطلّبات الدّوليّة في مجال الإفصاح والالتزام، أصبح من الضّروريّ لأيّ مبادرةٍ رياديّةٍ أو مشروعٍ استثماريٍّ أن يضع معايير ESG في صلب خطّته، لكي يضمن جذب التّمويل وثقة المستثمرين، ويساهم في بناء اقتصادٍ أكثر مرونةً ومسؤوليّةً.
ما هو مفهوم ESG؟
مفهوم ESG -اختصار لـ (Environmental, Social, Governance)- هو معيارٌ معتمدٌ على نطاقٍ عالميٍّ في تصنيف المشاريع وفهم سلوك المستثمرين الواعين. يقدّم هٰذا المعيار إطاراً منهجيّاً يعتمد عليه صنّاع القرار في تقييم الفرص الاستثماريّة وتفضيل تلك المبنيّة على مبادئ الاستدامة والمسؤوليّة المجتمعيّة.
ففي الجانب البيئيّ، يركّز المعيار على إدارة الأثر البيئيّ للمشروع، مثل خفض الانبعاثات الكربونيّة، والتّوجّه نحو الطّاقة النّظيفة، وترشيد الاستهلاك المائيّ والطّاقة، والحفاظ على التّنوّع الأحيائيّ. أمّا في البعد الاجتماعيّ، فيتمحور حول تحسين ظروف العمل، واحترام حقوق العاملين، وتطبيق مبادئ الإنصاف والتّنوّع والضّمان الاجتماعيّ. وفيما يتعلّق بالحوكمة، فإنّها تشمل نظم الإدارة الشّفّافة، ومحاربة الفساد، وضمان المساءلة، وحفظ حقوق المساهمين والمستفيدين.
وعلى خطٍّ موازٍ، يُعرّف التمويل الأخضر بأنّه نهجٌ استثماريٌّ يركّز على توجيه الموارد الماليّة نحو المشاريع الّتي تحمل أثراً إيجابيّاً على البيئة، كمشاريع الطّاقة المتجدّدة، ومعالجة النّفايات، وتطوير المدن المستدامة، وغيرها من المبادرات الّتي تدعم المستقبل البيئيّ للكوكب.
وفي ظلّ الارتفاع المطّرد في الوعي العالميّ بقضايا الاستدامة، بدأ التّكامل بين معايير ESG ومفاهيم التمويل الأخضر يأخذ طابعاً عمليّاً في الخليج، حيث أصبحت الجهات الرّقابيّة والمؤسّسات الماليّة تدرج معايير الاستدامة ضمن أولويّاتها، بغرض تعزيز جاذبيّة البيئة الاستثماريّة وتحقيق تنميةٍ طويلة الأمد.
وتظهر أهمّيّة هٰذه المعايير في الخليج من خلال ارتباطها المباشر بالرّؤى الوطنيّة الّتي تسعى إلى تنويع القطاعات وتقليل الاعتماد على النّفط. وعلى سبيل المثال، فإنّ رؤية السعوديّة 2030 تضع في جوهرها تطوير مشاريع ذات بعدٍ بيئيٍّ وتقنيٍّ، مثل مشروع نيوم، الّذي يعدّ أحد أكبر النّماذج في المنطقة لمدينةٍ ذكيّةٍ تجسّد معايير ESG في تصميمها وتشغيلها.
كما أصبحت الكرافيكات الماليّة والبورصات الخليجيّة تشجّع على تبنّي هٰذه المعايير، فقد أصدرت "تداول" في السّعوديّة في عام 2021 إرشاداتٍ رسميّةً للشّركات المدرجة بشأن الإفصاح عن مؤشّرات ESG، لتشجيع الشّفافيّة واستقطاب المستثمرين الأجانب. وعلى صعيدٍ متزايدٍ، يبدي المستهلك الخليجيّ اهتماماً أكبر بالمنتجات والخدمات الّتي تلتزم بمبادئ الاستدامة، وهٰذا ما يضع ضغطاً إيجابيّاً على الشّركات لتبني معايير ESG كجزءٍ أصيلٍ من نموذجها التّشغيليّ والإداريّ.
أمّا على المستوى التّنظيميّ؛ فقد بدأت كلٌّ من السّعوديّة والإمارات ودولٍ خليجيّةٍ أخرى في تطبيق إلزاماتٍ تشريعيّةٍ للإفصاح عن الأداء البيئيّ والاجتماعيّ والحوكميّ، وهٰذا ما يساهم في وضع أسسٍ صلبةٍ لتعميم هٰذه المعايير على كافّة القطّاعات الماليّة والإنتاجيّة. وعلى هٰذه الخلفيّة، يمكن القول بثقةٍ إنّ دمج معايير ESG في خطط التّمويل لا يعود أمراً اختياريّاً، بل أصبح ضرورةً استراتيجيّةً لأيّ مشروعٍ يرنو إلى جذب رؤوس الأموال في الخليج، وخصوصاً في المملكة العربيّة السّعوديّة الّتي تقود المنطقة نحو اقتصادٍ أكثر خضرةً ومسؤوليّةً.
تحولات التمويل في الخليج
شهد قطّاع المال والخدمات الماليّة في الخليج نقلةً نوعيّةً نحو ممارساتٍ تمويليّةٍ أكثر استدامةً، في إطار التّوجه الإقليميّ المتسارع لتبنّي الاستثمار الأخضر كأحد معالم التّنميّة المستدامة؛ فقد أطلقت دول المجلس التّعاوني للخليج العربي أطراً وطنيّةً ودوليّةً لتنظيم التّمويل المستدام، تتضمن التزاماتٍ بيئيةً واقتصاديّةً وإداريّةً تهدف إلى خلق بيئةٍ جاذبةٍ للاستثمار ومتصالحةٍ مع المتغيرات الكونيّة.
في المملكة العربية السّعودية، أطلق في شهر أكتوبر من عام 2021 إطارٌ وطنيٌّ للتمويل الأخضر، جاء في سياق برامج الإصلاح المالي، ويتضمّن الالتزام بتخفيض الانبعاثات والوصول إلى الحياد الكربونيّ بحلول عام 2060، إلى جانب اتّباع نهج "الاقتصاد الدّائري للكربون". وقد عملت وزارة الماليّة والمركز الوطنيّ لإدارة الدّين على وضع هٰذا الإطار، وذٰلك بغرض تعزيز دور الاستثمار البيئيّ وتحفيز القطّاعين العام والخاصّ على الاتّجاه نحو التّمويل المستدام.
أمّا في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، فقد تأسّست مجموعة عمل التّمويل المستدام في عام 2019، وهي تضمّ ممثلين عن جهاتٍ حكوميّةٍ وسلطاتٍ رقابيّةٍ ومصارف وصناديق، تعمل جميعها على تنظيم الاستثمار البيئيّ وإصدار مبادئ وإرشاداتٍ لتطوير المواءمة مع معايير ESG. وفي عام 2024، أطلقت الهيئة الماليّة في الإمارات "مبادئ الإفصاح المرتبط بالاستدامة"، وقد أصبح الالتزام بها إلزاميّاً على كافة الكيانات الماليّة المرخصة، وذٰلك بهدف رفع مستوى الشّفافيّة في البيانات البيئية والاجتماعيّة.
وفي دولة قطر، أصدر المصرف المركزيّ في عام 2024 إطاراً للتّمويل المستدام، يلزم المصارف التّجاريّة بتوجيه نسبةٍ محددةٍ من محافظها التّمويليّة نحو المشاريع الخضراء والاجتماعيّة، وذٰلك في إطار التّوافق مع "رؤية قطر الوطنية 2030".
وفي سياقٍ متقاربٍ، أطلقت كلٌّ من عمان والكويت مبادراتٍ تستهدف تطوير سبل التمويل الأخضر، وتزايد في الأعوام الأخيرة إقبال الأسواق المصرفيّة في الخليج على إصدار الصّكوك والسّندات الخضراء. على سبيل المثال، شهد إصدار عمان لصكوكٍ خضراء في عام 2021 طلباتٍ تجاوزت 1.75 مليار دولارٍ، فيما أكمل صندوق الاستثمارات العام السّعودي إصداره الثّاني لسنداتٍ خضراء في عام 2024، محقّقاً تمويلاً بلغ 5.5 مليار دولارٍ.
وتأتي هٰذه الخطوات في إطار رؤىً وطنيّةٍ تسعى لتنويع الاقتصاد وتقليل الارتباط بقطّاع النّفط، ممّا يشير إلى أنّ السّياسات الخليجيّة أصبحت تضع الاستثمار البيئي ضمن جداول الأولويّة الاستراتيجيّة. وعلى الصّعيد الحكوميّ، أعلنت الوكالة الرّسميّة للأنباء في المملكة في شهر مارس 2025 عن إطلاق برنامجٍ تمويليٍّ بيئيٍّ كبيرٍ، تتولاه "صندوق البيئة السعودي"، وتبلغ قيمته مليار ريالٍ سعوديٍّ (أيّ ما يقارب 266.6 مليون دولارٍ)، وذٰلك لتشجيع القطّاع الخاصّ على تبني الحلول الصّديقة للبيئة وتعزيز دوره في رؤيّة 2030.
كذٰلك، تستعدّ المملكة لإصدار أوّل سنداتٍ خضراء مقوّمةٍ باليورو لتمويل مشاريع الطّاقة المتجدّدة، في إطار الالتزام الرّسمي بإطار التّمويل الأخضر المعتمد. وتثبت هٰذه الأمثلة وغيرها أنّ دول الخليج، وفي مقدّمتها السّعودية، قد أصبحت تهيئ بنيةً تشريعيّةً وتمويليّةً توافق طموح الانتقال إلى اقتصادٍ منخفضٍ الكربون، وتجذب الاستثمارات الخضراء على أسسٍ راسخةٍ.
كيف يساعد دمج معايير ESG في جذب التمويل الأخضر الخليجي؟
تتمتّع معايير ESG بصلةٍ وثيقةٍ بالتّمويل الأخضر؛ لأنّها تمثّل المقياس الأساسيّ الّذي يعتمد عليه المستثمرون لتقييم أداء الشّركات ومستوى الالتزام بالاستدامة. فمن النّاحية العمليّة، تساهم هٰذه المعايير في تقليل المخاطر المترتّبة على الاستثمار، وتحسّن قدرة الشّركات على جذب رؤوس الأموال، وذٰلك لأنّ المستثمرين يرون فيها دليلاً على الإدارة المستبصرة والانضباط الحوكمي. [1] [2]
وقد أظهرت دراساتٌ دوليّةٌ أنّ الشّركات الّتي تحصل على تصنيفاتٍ مرتفعةٍ في مقياس ESG تتمتّع بتكلفة رأس مالٍ أقلّ في أسواق الأسهم والسّندات، وذٰلك نظراً لانخفاض معدّل المخاطر وزيادة ثقة المموّلين في إدارة هٰذه المؤسّسات. وينعكس هٰذا الأثر مباشرةً على جاذبيّة المشاريع في عيون المستثمرين، إذ تتّجه رؤوس الأموال بشكلٍ متزايدٍ نحو المحافظ الّتي تضمّ مشاريع تدمج أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة.
وفي منطقة الخليج، تبرز أمثلةٌ متعدّدةٌ لدور المؤسّسات الماليّة في دعم هٰذا المسار؛ فقد خصّصت 7 بنوكٍ إماراتيّةٍ كبرى، منها بنك أبوظبي الأوّل وبنك إمارات دبي الوطنيّ وبنك المشرق، ما يزيد عن 190 مليار درهمٍ إماراتيٍّ، أي نحو 52 مليار دولارٍ أمريكيٍّ، لتمويل مشاريع خضراء في مجالاتٍ مثل الطّاقة المتجدّدة وإدارة المخلّفات.
كما أظهرت البيانات في قطر أنّ بنك قطر الوطنيّ QNB رفع نسبة القروض المرتبطة بمعايير ESG إلى نسبةٍ بلغت 12% من محفظته للشّركات في عام 2024، بعد أن كانت 5% فقط في عام 2022، فيما أطلقت بنوكٌ قطريّةٌ أخرى وحداتٍ متخصّصةً في تمويل المشاريع الأخضر.
وفي نفس الإطار، ظهرت صناديق استثماريّةٌ مخصّصةٌ لمطابقة معايير الاستدامة، ومنها صندوق يقين S&P ESG MENA ETF، وهو أوّل صندوق متاداولٍ في الشّرق الأوسط يركّز على معايير ESG، وقد تمّ إدراجه في سوق الأسهم السّعوديّة.
وعلى نفس النّهج، يساهم "صندوق الاستثمارات العامّ السّعوديّ" (PIF) في مبادر عالميّةٍ، مثل: "مبادرة الصّناديق السّياديّة الكوكب الواحد" (One Planet Sovereign Wealth Fund Initiative)، حيث يدعم هٰذا الصّندوق مشاريع طاقةٍ نظيفةٍ ضخمةٍ، وهو ما يعكس الاتّجاه الاستراتيجيّ لهٰذه المؤسّسة نحو الاستدامة. وفي المجموع، تشكّل هٰذه المبادرات أدلّةً واضحةً على أنّ دمج معايير ESG في الخطط الاستثماريّة لم يعد خياراً تكتيكيّاً، بل أصبح عنصراً أساسيّاً في القدرة على جذب التّمويل وتخفيض المخاطر وبناء سمعةٍ تنافسيّةٍ في الأسواق الماليّة.
كيف تدمج معايير ESG في خطة عملك؟
لكي تضمن جذب التمويل الأخضر، يجب أن تكون معايير ESG مدمجةً في صلب خطّة العمل منذ المرحلة الأولى للتّخطيط، وليس كعاملٍ مستجلبٍ في نهاية التّنفيذ. فلا يمكّن هٰذا الادماج فقط من تعزيز ثقة المستثمرين، بل يساهم كذٰلك في رفع جودة الأداء المؤسّسي والامتثال للمتطلّبات التّنظيميّة الحديثة.
- أوّلاً: حدّد المؤشّرات الأكثر صلةً بمجال مشروعك، في المجال البيئي مثل: نسبة انبعاث غازات الدّفيع، وكمّيّة استهلاك المياه والطّاقة، وفي الجانب الاجتماعي كمعايير السّلامة المهنيّة، ونسبة العمّالة المحلّيّة، وفرص التّدريب والتّمكين، وفي الحوكمة كمستوى الشّفافيّة، ووجود لجانٍ رقابيّةٍ مستقلّةٍ، ووضوح آليّات اتّخاذ القرار.
- ثانياً: ضع أهدافاً واضحةً وقابلةً للقياس لكلّ مؤشّرٍ من هٰذه المؤشّرات، مثل: تخفيض الانبعاثات بمقدار نسبةٍ محدّدةٍ لنقل: 20% خلال ثلاث سنواتٍ، أو زيادة نسبة العمّالة المحلّيّة إلى أكثر من 50%. ثمّ ربط هٰذه الأهداف بمؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs)، لتصبح جزءاً من تتبّع الكفاءة ونتائج الأعمال.
- ثالثاً: اعتمد نظاماً للتّقارير الشّفّافة والمنتظمة لمتابعة أداء ESG، حيث يعدّ جمع البيانات بدقّةٍ، وتحليلها، وإصدار تقارير منتظمةٍ، قاعدةً أساسيّةً لتوثيق التّقدّم. وينصح باتّباع أطرٍ دوليّةٍ معترفٍ بها، مثل: معيارات GRI (مبادئ الإفصاح العالميّة)، وإرشادات TCFD (الإفصاح عن المخاطر المناخيّة)، أو المعايير المستجدّة من IFRS (معايير التّقارير الماليّة الدّوليّة)، وخاصّةً المعيارين S1 وS2، لتوحيد شكل التّقارير وزيادة مصداقيّتها.
- رابعاً: ادمج الأهداف البيئيّة في سلسلة القيمة، فليس كافياً أن تضع أهدافاً في مستنداتٍ، بل يجب أن تظهر في اختيارك للمورّدين (بشرط التزامهم بالمعايير البيئيّة)، وفي نوعيّة المواد والتّقنيات، وفي وجود سياساتٍ لإعادة التّدوير وإدارة المخلّفات بناءً على أسسٍ علميّةٍ.
- خامساً: طوّر نظام حوكمةٍ داخليّاً يدعم ESG، مثل: إنشاء لجنةٍ مختصّةٍ أو فريق متابعةٍ يراقب التّقدّم في الأهداف، وربط أداء مجال ESG بتقييم القيادة الإداريّة والمكافآت التّنفيذيّة؛ فهٰذا يرسّخ جدّيّة الالتزام ويوفّر مظلّةً مؤسّسيّةً للتّوجيه والمساءلة.
- أخيراً: إنّ إشراك القيادة العليا وتفعيل دور الهيئات الرّقابيّة في المنظّمة يعدّ عاملاً حاسماً لنجاح نموذج ESG؛ فتزداد ثقة المستثمرين والجهات الرّقابيّة بوضوح الأدوار وتحميل المسؤوليّات، ويصبح المشروع أكثر قابليّةً للنّموّ والاستقطاب التّمويلي.
تحوّل هٰذه الخطوات -إذا طبّقت بانضباطٍ- أهداف الاستدامة من شعارٍ دعائيٍّ إلى معيارٍ تشغيليٍّ ومؤشّر نجاحٍ وفرصةٍ للنّموّ المتواصل.
تحسين الجاذبية التمويلية لمشروعك
إنّ وضع خطّةٍ واضحةٍ وموثّقةٍ لتطبيق معايير ESG يعدّ عنصراً مفصليّاً في تعزيز ثقة المستثمرين، وبخاصّةٍ في الأسواق الّتي تشهد تطوّراً في الأدوات التّمويليّة وتوجّهاً نحو الاستدامة. حيث يبحث المستثمر الواعي عن مشاريع تظهر جدّيّةً في الالتزام والتّخطيط لمعالجة المخاطر وتعظيم الأثر الإيجابي. وقد أثبتت تحليلاتٌ صادرةٌ عن MSCI أنّ الشّركات الّتي تحمل تصنيفاً مرتفعاً في مجال ESG تميل إلى الاستفادة من تكلفة تّمويلٍ أقلّ، نظراً لانخفاض مخاطرها الماليّة، وهٰذا ما يرفّع من جاذبيّة أدائها في الأسواق ويسهّل وصولها إلى قروضٍ وأدواتٍ تّمويليّةٍ أكثر مرونةً.
ومن الجوانب العمليّة الّتي تعزّز موقفك الاستثماريّ، هو أن تظهر في دراسة الجدوى كيف أنّ الأهداف البيئيّة والاجتماعيّة قد تمّ دمجها في الحسابات والتّكلفة وتوقّعات العوائد، مثل: احتساب وفرٍ في انبعاثات الكربون، أو إبراز فرص شراكاتٍ بيئيّةٍ محتملةٍ؛ فهٰذا يطمئن المموّلين بأنّ المشروع يُدار برؤيةٍ طويلة الأمد، ويقلّل من المخاطر التّنظيميّة المستقبليّة.
على الصّعيد الاتّصاليّ، يوصى بصياغة سرديّةٍ استثماريّةٍ خضراء تستعرض كيف يساهم مشروعك في تحقيق أهداف الاستدامة الوطنيّة والدّوليّة، مثل دوره في تنويع مصادر الطّاقة أو دعم رؤية السّعوديّة 2030، إذ تجذب مثل هٰذه السّرديّات المستثمرين الّذين يبحثون عن أثرٍ إيجابيٍّ إلى جانب العائد المالي. وتتجسّد أهمّيّة ذٰلك في التّوجّهات الفعليّة في الأسواق؛ فقد ارتفعت إصدارات الصّكوك والسّندات الخضراء في دول الخليج من 605 مليون دولارٍ في عام 2021، إلى أكثر من 8.5 مليار دولارٍ في عام 2022، وهٰذا يعكس ازدياد الثّقة في هٰذه الأدوات وتوسّع الإقبال عليها.
تحديات تطبيق معايير ESG في الخليج
على الرّغم من الزّخم المتزايد الّذي تحظى به معايير ESG في دول الخليج، ومع وضوح الفوائد المحتملة لتبنّيها، إلّا أنّ تطبيقها على أرض الواقع لا يزال يواجه تحدّياتٍ متعدّدةً تحول دون تحقيق أثرٍ فعّالٍ وموحّدٍ.
- يظهر تفاوتٌ كبيرٌ في السّياسات والأطر التّنظيميّة بين دول الخليج؛ فتختلف متطلّبات الإفصاح، ومستويات التّقييم، وطرق التّوثيق، بنسبٍ كبيرةٍ من دولةٍ إلى أخرى. يعرقل هٰذا الخلاف إمكانيّة التّناسق بين الممارسات، ويضع حواجز أمام إنشاء نموذجٍ إقليميٍّ موحّدٍ لتطبيق ESG، ويصعّب على المستثمرين مقارنة المشاريع وتقييم أهليّتها بمقياسٍ واحدٍ.
- تواجه العديد من المؤسّسات صعوباتٍ في قياس النّتائج البيئيّة والاجتماعيّة بدقّةٍ؛ فغالباً ما تفتقر المشاريع -خصوصاً في مراحلها الأولى- إلى الخبرات الفنّيّة والأدوات الإحصائيّة الّتي تساعد على رصد الأداء وتحليل البيانات بشفافيّةٍ وكفايةٍ، ممّا يؤدّي أحياناً إلى ضعف التّقارير، أو حتّى غيابها، ممّا يقوّض ثقة المموّلين ويعيق نموّ التّمويل الأخضر.
- يبرز تحدٍّ أخرى أكثر تعقيداً وهو ما يعرف بـ "غسل الاستدامة" (Greenwashing)، حيث تلجأ بعض الشّركات إلى تضخيم ادّعاءاتها في مجال ESG دون أدلّةٍ موثّقةٍ، أو تبني سياساتٍ ظاهريّةٍ لا تنعكس في نتائج عمليّةٍ. وهٰذا يؤدّي إلى تقويض الثّقة العامّة في المبادرات الأخضر، ويقلّل من فاعليّة نظم الإفصاح والمساءلة.
- يكمن تحدٍّ جوهريٌّ في غياب معايير إقليميّةٍ موحّدةٍ لتطبيق ESG، ممّا يؤثّر سلباً على إمكانيّة مقارنة أداء المشاريع وتقييم مخاطرها بأطرٍ مشتركةٍ، ويقيّد تطوّر أسس التمويل المستدام على نطاقٍ إقليميٍّ ودوليٍّ.
وأمام هٰذه التّحدّيات، يبدو من الواضح أنّ تحقيق نجاحٍ في تطبيق ESG في الخليج يتطلّب تنسيقاً أعمق بين الجهات الرّقابيّة والمؤسّسات الماليّة، إلى جانب تطوير أدوات القياس وآليّات التّقييم وتوحيد مراجع الإفصاح والمطابقة، لضمان نضج التمويل الأخضر وزيادة فاعليّته.
دراسات حالة خليجية ناجحة
توجد نماذج واقعيّةٌ في منطقة الخليج تجسّد نجاح دمج معايير ESG في المشاريع التّنمويّة والاستثماريّة، وتظهر كيف أنّ الالتزام بهٰذه المعايير يساهم في جذب التمويل الأخضر وتعزيز ثقة المستثمرين. فعلى الصّعيد السّعوديّ، يعدّ مشروع محطّة دومة الجندل لطاقة الرّياح -بقدرة 400 ميجاواط- أوّل محطّة رياحٍ كبيرةٍ في المملكة، وقد بلغت تكلفته نحو 500 مليون دولارٍ، وتمّ تنفيذه بدعمٍ حكوميٍّ في إطار جهود تنويع مصادر الطّاقة وتعزيز بدائلها.
كما أطلقت شركة أرامكو السّعوديّة مشاريع عدّةً في مجال الطّاقة المتجدّدة وتقنيات خفض الكربون، من أبرزها مشروع سكاكا للطّاقة الشّمسيّة، الّذي دخل حيّز التّشغيل في عام 2019، بشراكةٍ مع الحكومة المحلّيّة في منطقة أبها. وفي نطاقٍ مختلفٍ، أنشأت شركة روشن -وهي واحدةٌ من مبادرات صندوق الاستثمارات العامّ- مدينةً سكنيّةً مستدامةً في الرّياض تراعي معايير ESG في كلٍّ من عمليّات التّخطيط والبناء وإدارة الموارد.
كذٰلك أطلق صندوق البيئة السّعوديّ بالتّعاون مع قطّاع المصارف مبادرةً تمويليّةً قيمتها 1 مليار ريالٍ -أي نحو 266.6 مليون دولارٍ- وتهدف هٰذه المبادرة إلى تشجيع القطاع الخاصّ على تبنّي المشاريع المتوافقة مع معايير ESG. وفي بقيّة دول الخليج، يتواصل طرح نماذج مماثلةٍ تدعم التمويل الأخضر، وتبيّن كيف أنّ دمج معايير ESG في هيكل المشروع يساهم في تعزيز فرص الاستثمار وتسريع نموّه على نحوٍ يتّفق مع أهداف الاستدامة الإقليميّة والعالميّة.
توصيات عملية لتطبيق معايير ESG
لضمان جاهزيّة مشروعك للحصول على تمويلٍ أخضرٍ، يستحسن اتّباع خطواتٍ استباقيّةٍ تعكس جدّيّة الالتزام وتحقّق توازناً بين المتطلّبات البيئيّة والمعايير الدّوليّة:
قبل تقديم طلب التّمويل، اجمع معلوماتٍ أوّليّةً عن جاهزيّة مشروعك في ضوء معايير ESG، وذٰلك من خلال تقييمٍ داخليٍّ للوضع البيئي والاجتماعيّ والإداريّ، ووضع أهدافٍ واضحةٍ وقابلةٍ للقياس لكلّ مجالٍ، ثم استخدم أدوات تّقييمٍ جاهزةٍ ومعترفاً بها دوليّاً، مثل: معايير مجلس تقارير الاستدامة الدّوليّ (Sustainability Standards Board)، أو مؤشّرات ESG الصّادرة عن حكوماتٍ وصناديق تمويلٍ سياديّةٍ. حيث توفّر هٰذه الأطر هيكلاً منهجيّاً، وتضفي مصداقيّةً أعلى على المشروع في عيون المموّلين. إلى جانب ذٰلك، توجد برامج رقميّةٌ ومؤشّرات تّقييمٍ حاسوبيّةٌ يمكن أن تساعد الشّركات على قياس الانبعاثات الكربونيّة، وتحليل أثرها الاجتماعيّ والبيئيّ، ممّا يساعد على وضع تّقاريرٍ دقيقةٍ. [3]
كما يمكنك البحث عن شراكاتٍ استراتيجيّةٍ تدعم أهدافك؛ فقد تعاونت وزارة البيئة مع قطّاع المصارف وشركاتٍ كبرى في السّعوديّة، كما فعل صندوق البيئة السّعوديّ بدعمٍ من بنك الرّياض، لتمويل المشاريع الخضراء وتوفير آليّات تمويلٍ تّنافسيّةٍ. كذٰلك، يمكن الاستفادة من شراكاتٍ مع منظّماتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ، مثل المبادرات الخليجيّة للاستدامة، أو برامج الأمم المتّحدة للتّنمية، وذٰلك للحصول على خبراتٍ تّقنيّةٍ أو ضماناتٍ قانونيّةٍ تزيد من فرصك في تمويل مشروعك.
وعند تطبيق هٰذه التّوصيات، يصبح طلبك للتمويل الأخضر أكثر متانةً، وأوضح في تحقيق أهداف الاستدامة، ممّا يساهم في تعزيز قدرتك التّنافسيّة والمسؤوليّة المجتمعيّة في آنٍ واحدٍ.
الخلاصة
لم يعد الالتزام بمعايير ESG خياراً تطوّعيّاً، بل أصبح حتميّةً استراتيجيّةً لكلّ من يرغب في جذب التّمويل المستدام وبناء مشاريع تنعكس في أدائها قيم المساءلة والتأثير الإيجابيّ. في سياق دول الخليج، وخاصّةً في المملكة العربيّة السّعوديّة، يتعاظم دور الاستدامة في رؤىً وطنيّةٍ طموحةٍ كرؤية 2030، ويصبح دمج البعد البيئيّ والاجتماعيّ والحوكميّ في خطط الأعمال أساساً لكلّ نهجٍ تمويليٍّ ناجحٍ.
ومع تسارع وتيرة التّحوّل الاستراتيجيّ نحو الاستدامة في الخليج، ستكون معايير ESG ليست فقط أداةً لجذب التّمويل، بل أيضاً جسراً نحو تحقيق أثرٍ ممتدٍّ، وبناء قيمةٍ مضافةٍ تستمرّ مع الوقت. فكن سبّاقاً، واجعل الاستدامة جوهر قرارك، لتكون في صدارة المبادرين الّذين يعيدون تشكيل معالم الاستثمار الخليجيّ لغدٍ أنظف، وأكثر نضجاً، وأعمق أثراً.
-
الأسئلة الشائعة
- ما معنى ESG؟ ESG هو اختصارٌ لمعايير البيئة (Environmental)، والمسؤولية الاجتماعيّة (Social)، والحوكمة (Governance)، وتُستخدم لتقييم استدامة وأخلاقيّة الشّركات والمشروعات.
- ما الفرق بين ESG والتمويل الأخضر؟ معايير ESG تُستخدم لتقييم أداء الشّركات في مجالات البيئة والمجتمع والحوكمة، بينما التمويل الأخضر هو تمويلٌ يُوجه للمشروعات ذات الأثر البيئيّ الإيجابيّ مثل الطّاقة المتجدّدة.
- لماذا يهتم المستثمرون السعوديون بـ ESG؟ يهتم المستثمرون السعوديون بـ ESG؛ لأنّ الشّركات الّتي تطبق ESG تتمتع بمخاطر أقل وشفافيّةٍ أعلى، ممّا يزيد من جاذبيتها ويقلّل تكلفة التّمويل ويرفع من فرص الحصول على استثمارٍ طويل الأمد.
- كيف يمكن لمشروعي الصغير أن يطبق معايير ESG؟ ابدأ بتحديد مؤشّراتٍ بيئيّةٍ واجتماعيّةٍ واضحةٍ، ثم اجمع بيانات عنها، أاصدر تقارير شفّافةٍ، وادمج هذه الأهداف في سلسلة القيمة وإدارة المشروع.
- هل هناك أمثلة ناجحة في السعودية لتطبيق ESG؟ نعم هناك أمثلة ناجحة في السعودية لتطبيق ESG، مثل مشروع دومة الجندل لطاقة الرّياح، ومشروع روشن السّكنيّ، وسندات أرامكو الخضراء، وغيرها من المبادرات التي جذبت تمويلاً ضخماً بفضل تبنّي ESG.
- ما أول خطوة للبدء في طلب تمويل أخضر؟ أول خطوة للبدء في طلب تمويل أخضر، هو: إجراء تقييمٍ داخليٍّ لمواءمة مشروعك مع معايير ESG، ثم اعتماد أداة تقييمٍ دوليّةٍ، وإنشاء خطّةٍ واضحةٍ تبرز أهداف الاستدامة وجدواها الماليّة.