جيل Z يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي: كيف تتعامل الشركات مع هذه الظاهرة المتنامية؟
حين يختار جيل "زد" الذكاء الاصطناعيّ بدل الخبراء البشريّين في قراراته المهنية، يعيد رسم مستقبل العمل والثقة بين الإنسان والتقنيّة
يظهر الواقع المعاصر أنّ جيل "زد" ينظر إلى عالم العمل بعينٍ مختلفةٍ جذريّاً عن الأجيال السّابقة، سواءٌ من حيث سلوكه داخل المكاتب أو من حيث توقّعاته للتّدريب المهنيّ أثناء العمل. ومع أنّ هذه الفروقات باتت مألوفةً في سلوك هذا الجيل، فإنّ تقريراً جديداً كشف عن ظاهرةٍ أكثر إدهاشاً قد تعيد رسم ملامح المسارات المهنيّة للشّباب في السّنوات القادمة. فبحسب دراسةٍ أجرتها جامعة ولاية أركنساس الأمريكيّة، ونشرتها مجلّة .Inc، تبيّن أنّ طلّاب "جيل زد" باتوا يبتعدون عن استشارة الخبراء البشريّين وأساتذتهم الجامعيّين عندما يبحثون عن نصيحةٍ مهنيّةٍ، ويتّجهون بدلاً من ذٰلك إلى الاعتماد على ChatGPT للحصول على التّوجيه. وتظهر هذه الظّاهرة أنّ الأمر لا يقتصر على المجال الأكاديميّ فقط، بل يمتدّ أيضاً إلى أساليب التّوظيف وتوقّعات أصحاب الأعمال عند انضمام هذا الجيل إلى بيئاتهم.
وتشير الدّراسة إلى أنّ 60% من الطّلّاب الّذين شملهم الاستطلاع استخدموا الذّكاء الاصطناعيّ في "اختيار التّخصّص أو تحديد المسار المهنيّ"، بينما عبّر 32% منهم عن ثقتهم باتّخاذ قراراتٍ أكاديميّةٍ كبرى استناداً إلى نصائح الذّكاء الاصطناعيّ وحده. وربّما يبدو ذٰلك تطوّراً طبيعيّاً في عالم الإرشاد المهنيّ، خصوصاً مع الاعتماد المتزايد منذ سنواتٍ على الأدوات الرّقميّة مثل اختبارات الشّخصيّة لمساعدة الشّباب في اكتشاف ذواتهم المهنيّة. غير أنّ نتائج أخرى في الدّراسة تحذّر من مخاطر هذا التّوجّه، إذ أقرّ 41% من المشاركين بأنّهم اتّبعوا نصائح من الذّكاء الاصطناعيّ تبيّن لاحقاً أنّها غير صحيحةٍ، في حين أفاد 66% منهم – أي ما يعادل اثنين من كلّ ثلاثةٍ – بأنّهم لم يتلقّوا أيّ تصحيحٍ أو توجيهٍ من بالغٍ بعد تنفيذهم تلك النّصائح الخاطئة.
وفي مظهرٍ آخر لهذا التّحوّل في السّلوك، أقرّ 22% من الطّلّاب بأنّهم تجنّبوا مقابلة المستشارين أو الأساتذة لأنّ "الذّكاء الاصطناعيّ أجاب بالفعل عن أسئلتهم"، وهٰذا ما يعكس تراجع الدّور الإنسانيّ في الإرشاد الأكاديميّ لصالح الأدوات الرّقميّة. ومع ذٰلك، لا يبدو أنّ الخبراء البشريّين فقدوا مكانتهم بالكامل بعد، إذ تظهر الدّراسة أنّ استخدام الطّلّاب للذّكاء الاصطناعيّ يرتبط إلى حدٍّ كبيرٍ بالسّياق. فبينما قال 19% إنّهم يثقون بالذّكاء الاصطناعيّ أكثر من مواقع جامعاتهم الرّسميّة عند طلب المساعدة الأكاديميّة أو الإداريّة، فإنّ الغالبيّة – 62% – لا تزال تفضّل الاعتماد على المصادر المؤسّسيّة التّقليديّة. أمّا الفئة المتردّدة، والّتي تمثّل 19%، فهي تجسّد "تحوّلاً تدريجيّاً في مصادر الثّقة" يستحقّ متابعة القادة الأكاديميّين عن كثبٍ.
ورغم أنّ هذه النّتائج تنبع من بيئةٍ تعليميّةٍ، فإنّها تنذر بتحوّلٍ ثقافيٍّ واسعٍ في طريقة تفكير جيل "زد"، إذ ترسّخ نمطاً جديداً من اتّخاذ القرار يقوم على الثّقة بالأنظمة الذّكيّة أكثر من الاعتماد على الخبرة البشريّة. وهذا التّوجّه لا يقتصر على التّعليم، بل يمتدّ إلى الحياة المهنيّة، خصوصاً في ظلّ تقارير تظهر أنّ العديد من طلّاب هذا الجيل يستخدمون الذّكاء الاصطناعيّ لتجاوز المناهج الجامعيّة أو لتسهيل المهامّ الدّراسيّة، وهو ما قد يضعف مهارات التّفكير النّقديّ لديهم – وهي المهارات نفسها الّتي يقدّرها أصحاب الأعمال في بيئات التّوظيف الحديثة. كما يظهر السّلوك الرّقميّ المتسارع لجيل "زد" ميله للاعتماد على مصادر غير تقليديّةٍ مثل "تيك توك" للحصول على النّصائح المهنيّة ومعلومات سوق العمل، ما يعكس تبدّلاً جذريّاً في علاقة الشّباب بالمعلومة ومصدرها.
إنّ مجموع هذه الاتّجاهات يرسم صورةً لجيلٍ جديدٍ يضع ثقته في الذّكاء الاصطناعيّ أكثر من ثقته بالخبراء أو حتّى بمحرّكات البحث التّقليديّة مثل "غوغل". ومن هنا، ينبغي لمسؤولي الموارد البشريّة وأصحاب الشّركات الّذين يسعون لتوظيف أفرادٍ من هذا الجيل أن يدركوا أنّ بعض المتقدّمين للوظائف قد بنوا قراراتهم المهنيّة على نصائح تولّدها الخوارزميّات، لا الخبرات البشريّة، وهو ما قد يؤثّر في توقّعاتهم وطريقة تعاملهم مع بيئات العمل بشكلٍ يختلف عن الأجيال السّابقة.
أمّا المدراء الّذين سيشرفون على هؤلاء الموظّفين مستقبلاً، فعليهم – إن أرادوا النّجاح – أن يستوعبوا هذه الذّهنيّة الجديدة وأن يتعاملوا معها بذكاءٍ استراتيجيٍّ. يمكنهم، من جهةٍ، أن يوعّوا موظّفيهم الجدد بأهمّيّة التّفاعل الإنسانيّ والثّقة بالزّملاء والقادة أكثر من الاعتماد الأعمى على الأنظمة الذّكيّة، مؤكّدين أنّ الذّكاء الاصطناعيّ – مهما بلغت دقّته – يظلّ أداةً قابلةً للخطأ وقد يقدّم أحياناً معلوماتٍ مضلّلةً. ومن جهةٍ أخرى، يمكنهم تبنّي مقاربةٍ أكثر مرونةً تجعل الذّكاء الاصطناعيّ شريكاً مساعداً داخل الفريق، لا بديلاً عن الإنسان، بحيث يستخدم لتعزيز الكفاءة وتسريع الإنجاز دون أن يضعف روح العمل الجماعيّ. وربّما يصبح من المألوف مستقبلاً أن يضمّ الفريق "موظّفاً افتراضيّاً" يشارك في تنفيذ المهامّ جنباً إلى جنبٍ مع البشر، وهو ما يتماشى مع ما أعلنه المدير التّسويقيّ في شركة Slack، رايان غافين، حين توقّع أنّ المستقبل القريب سيشهد بيئات عملٍ يتواصل فيها الموظّفون مع الذّكاء الاصطناعيّ أكثر ممّا يتبادلون الحديث مع زملائهم البشر.
وبذٰلك، يتّضح أنّ جيل "زد" لا يعيد فقط تعريف العلاقة بين الإنسان والتّقنيّة، بل يرسم ملامح حقبةٍ جديدةٍ من العمل قوامها الذّكاء الاصطناعيّ، حيث يصبح الإبداع قائماً على التّكامل بين الإنسان والآلة، لا على استبدال أحدهما بالآخر.