من الرسمي إلى العفوي: متى تستخدم المقابلة الحوارية لنجاح الحوار؟
حين يوازن المحاور بين الرّسميّة والعفويّة، تتحوّل المقابلة الحواريّة من تبادلٍ للأسئلة إلى مساحةٍ نابضةٍ بالفكر والإنسانيّة، تكشف جوهر الشّخصيّة وتثري الحوار الحقيقيّ

تعدّ المقابلة الحواريّة إحدى أهمّ أدوات التّواصل في مجالات الإعلام، والبحث الأكاديميّ، والتّوظيف، والعلاقات العامّة، إذ تتيح تبادل الأفكار والآراء بطريقةٍ تكشف شخصيّة المتحدّث وتبرز عمق فكره وموقفه من القضايا المطروحة. ولأنّ الحوار لا ينجح بمجرّد طرح الأسئلة، بل يتوقّف على أسلوب إدارته وطبيعة بنائه، يصبح من الضّروريّ إدراك متى يستخدم النّمط الرّسميّ الصّارم ومتى يستحسن اعتماد الطّابع العفويّ المنفتح. فبين الجدّيّة والانسيابيّة تتحدّد هويّة المقابلة وفاعليّتها، ويطرح السّؤال الجوهريّ: متى يعتمد الأسلوب الرّسميّ لتحقيق الدّقّة؟ ومتى تصبح العفويّة مفتاحاً لـنجاح الحوار؟
ما المقابلة الحوارية ولماذا تعد أداة أساسية للتواصل؟
تعرّف المقابلة الحواريّة بأنّها لقاءٌ منظّمٌ يجمع بين طرفين أو أكثر، تطرح فيه أسئلةٌ تهدف إلى جمع المعلومات، واستكشاف الآراء، واستعراض التّجارب. ويستفاد منها في مجالاتٍ متنوّعةٍ: في الإعلام لإبراز الشّخصيّات العامّة وتحليل الأحداث، وفي التّوظيف لاختيار الكفاءات، وفي البحث العلميّ لاستخلاص البيانات النّوعيّة. وتتميّز بطابعها الإنسانيّ القائم على الإصغاء العميق والتّفاعل الّذي يبني الثّقة والاحترام المتبادل.
وتتجاوز المقابلة الحواريّة مفهوم التّبادل اللّغويّ البسيط بين سؤالٍ وجوابٍ؛ فهي أداةٌ لنقل المعلومات بصورةٍ حيّةٍ ومباشرةٍ تقرّب المستمع أو القارئ من المتحدّث وتعطيه لمحةً عن ملامح شخصيّته وأبعاده الإنسانيّة. إذ تتداخل فيها نبرة الصّوت، وتعابير الوجه، وحركات الجسد، فتتحوّل إلى لوحةٍ تفاعليّةٍ تجمع بين المنطوق والمعبر عنه ضمنيّاً، ممّا يجعلها أكثر صدقاً وتأثيراً من أيّ وسيلةٍ كتابيّةٍ جامدةٍ. [1]
من الرسمي إلى العفوي: متى تستخدم المقابلة الحوارية لنجاح الحوار؟
تستخدم المقابلة الحواريّة بأسلوبيها الرّسميّ والعفويّ حسب الهدف من الحوار وطبيعة المشاركين فيه. فإذا أراد المحاور كشف الحقائق الدّقيقة، أو مناقشة القضايا السّياسيّة والاقتصاديّة الحسّاسة، أو جمع بياناتٍ علميّةٍ موثوقةٍ، لجأ إلى النّمط الرّسميّ الّذي يبنى على التّحضير المسبق للأسئلة وضبط الإيقاع بصرامةٍ لضمان الدّقّة والاتّزان. ويتيح هٰذا الأسلوب الحفاظ على الموضوعيّة ويقدّم مضموناً واضحاً يمكن توثيقه ونشره.
ولكن حين يكون الهدف بناء تفاعلٍ إنسانيٍّ عميقٍ أو الكشف عن الجوانب الشّخصيّة والإبداعيّة للضّيف، تبرز العفويّة بوصفها الخيار الأمثل. ففي المقابلة العفويّة، يفسح المجال للحديث الطّبيعيّ، وتخفّف القيود لتسمح للمتحدّث بالتّعبير بحرّيّةٍ وصدقٍ، فينشأ حوارٌ نابضٌ بالحياة يجذب الجمهور ويبرز الصّدق الدّاخليّ في الإجابات.
ويقاس ذكاء المحاور بقدرته على الانتقال السّلس بين الرّسميّ والعفويّ، إذ لا يقيّد الحوار بجمودٍ مطلقٍ ولا يتركه لعفويّةٍ تفقده الاتّجاه. فهو يبدأ بمقدّمةٍ منظّمةٍ تؤسّس للثّقة، ثمّ يفتح الحوار تدريجيّاً نحو انسيابيّةٍ تضفي روحاً واقعيّةً وقرباً إنسانيّاً. وبهٰذا التّوازن تتحوّل المقابلة الحواريّة إلى تجربةٍ فكريّةٍ ووجدانيّةٍ تجمع بين الحرفيّة والمشاعر، فتقنع العقل وتلمس القلب في آنٍ واحدٍ. [2]
الفرق بين المقابلة الرسمية والمقابلة العفوية
ينقسم أسلوب إدارة المقابلة الحواريّة إلى نوعين رئيسيّين: رسميٍّ وعفويٍّ، ويتميّز كلٌّ منهما بخصائص تحدّد مواضع استخدامه وأسلوب تطبيقه حسب طبيعة الموقف. ففي المقابلة الرّسميّة، تفرض الدّقّة والانضباط كأسسٍ أصيلةٍ، ويعدّ المحاور أسئلته مسبقاً، ثمّ يدير الحوار بتسلسلٍ منطقيٍّ يبدأ بالعوامل العامّة وينتهي بالتّفاصيل الدّقيقة. ويستخدم هٰذا النّمط عادةً مع الشّخصيّات السّياسيّة والمسؤولين التّنفيذيّين والباحثين الأكاديميّين، حيث تتقدّم المعلومة على الانطباع، وتقدّم الموضوعيّة على الودّ الشّخصيّ.
أمّا المقابلة العفويّة، فتسعى إلى إحياء البعد الإنسانيّ في الحوار. يترك فيها الحديث يجري بطبيعته دون تكلّفٍ أو التزامٍ صارمٍ بالأسئلة، فينشأ تفاعلٌ متدفّقٌ يتخلّله حسّ الدّعابة أو التّأمّل أو الانفعال الصّادق. وتستخدم هٰذه الصّيغة مع الفنّانين والمبدعين، أو في البرامج الثّقافيّة والاجتماعيّة، حيث يراد كشف الشّخصيّة لا تحليل المعلومة فقط. وتسهم هٰذه المقابلات في إزالة الحواجز النّفسيّة بين الضّيف والمحاور، فتجعل الإجابات أكثر صدقاً ودفئاً، وتقرّب الجمهور من الجوهر الإنسانيّ للمتحدّث.
كيف يحقق المحاور التوازن بين النمطين؟
لكي ينجح المحاور في توظيف المقابلة الحواريّة توظيفاً فعّالاً، يجب أن يملك حسّاً مرهفاً يمكّنه من قراءة الموقف في لحظته. فإذا لاحظ أنّ الضّيف متحفّظٌ أو متوتّرٌ، بدأ بأسئلةٍ رسميّةٍ تشعره بالثّقة والجدّيّة. وإذا لمس انفتاحاً وطمأنينةً، انتقل بسلاسةٍ إلى الأسلوب العفويّ الّذي يطلق المشاعر ويضفي نبضاً حيّاً على الحوار. ومن خلال هٰذا التّنوّع، يبقي المحاور المقابلة نابضةً بالحياة، فلا تنزلق إلى الرّتابة ولا تتجاوز حدود المهنيّة.
ويستحسن أن يبنى الحوار على تسلسلٍ متدرّجٍ يبدأ بتمهيدٍ تعريفيٍّ، ثمّ ينتقل إلى صلب الموضوع، ويختم بخالصةٍ تجسّد المفهوم الأساسيّ أو الرّؤية المطروحة. ومع استخدام أدوات الرّبط اللّغويّة كـ "إضافةً إلى ذٰلك"، و"في المقابل"، و"مع ذٰلك"، و"من ناحيةٍ أخرى"، يتماسك النّصّ ويتّحد إيقاعه اللّغويّ، فيحقّق سلاسةً في القراءة ويعزّز التّرابط في المعنى.
الخاتمة
تبرز المقابلة الحواريّة، بصورها الرّسميّة والعفويّة، كمرآةٍ تجسّد جوهر التّواصل الإنسانيّ. فهي لا تعتمد على الكلمات وحدها، بل تبني جمالها على فهم السّياق وإدراك اللّحظة وتقدير الموقف. فعندما يستخدم الانضباط ليخدم الوضوح، وتستثمر العفويّة لتغذّي الصّدق، يتكوّن حوارٌ ناجحٌ يجمع بين الفكر والعاطفة، وبين العقل والوجدان.
شاهد أيضاً: 5 أخطاء شائعة في المقابلات الحوارية وكيف تتجنبها
-
الأسئلة الشائعة
- ّّما الهدف الأساسي من المقابلة الحوارية؟ يتمثل الهدف في جمع المعلومات أو الآراء أو عرض التّجارب بطريقةٍ تفاعليةٍ تكشف فكر المتحدّث وشخصيّته؛ فهي ليست مجرّد طرح أسئلةٍ، بل وسيلةٌ لفهم الإنسان وموقفه بعمقٍ.
- ما الذي يجعل المقابلة الحوارية مميزة ومؤثرة؟ تتميّز المقابلة النّاجحة بتكاملها بين المعلومة والمشاعر، فتعرض الحقائق بدقّةٍ وتبني في الوقت نفسه تواصلاً إنسانيّاً صادقاً. كما تترك انطباعاً مستمرّاً لأنّها تكشف الإنسان خلف الفكرة، لا الفكرة فقط.