من السؤال إلى الاستماع: أسرار نجاح المقابلات الحوارية
حين تتقاطع الأسئلة الذّكيّة مع الاستماع الواعي، يُخلَق حوارٌ حيٌّ لاكتشاف الأفكار وبناء جسور التّواصل الحقيقيّة

تعدّ المقابلات الحواريّة من أبرز الأدوات الإعلاميّة الّتي اعتمدت عليها الصّحافة التّقليديّة والمنصّات الرّقميّة على حدٍّ سواءٍ، إذ مكّنتها من نقل الأفكار والآراء والخبرات مباشرةً إلى الجمهور. ومن خلال الحوار المباشر مع الشّخصيّات العامّة أو المتخصّصين أو حتّى الأفراد العاديّين، تنكشف زوايا جديدةٌ من المعرفة والخبرة الإنسانيّة لا يمكن الوصول إليها عبر الوسائل الأخرى. وعندما يدار الحوار باحترافيّةٍ، يتحوّل من مجرّد تبادل أسئلةٍ وأجوبةٍ جامدةٍ إلى مساحةٍ حيّةٍ للتّفاعل الفكريّ والثّقافيّ. ومن هنا يتبيّن أنّ نجاح المقابلات الإعلاميّة لا يقف عند حسن صياغة الأسئلة فقط، بل يتجاوز ذٰلك ليصل إلى عمق الاستماع، وذكاء التّفاعل، وفنّ بناء الثّقة مع الضّيف.
مفهوم المقابلات الحوارية وأهميتها
عرّف الخبراء المقابلات الحواريّة بأنّها لقاءٌ إعلاميٌّ يراد منه جمع معلوماتٍ أو آراءٍ أو قصصٍ مباشرةً من الضّيف، سواء في سياقٍ صحفيٍّ أو إذاعيٍّ أو تلفزيونيٍّ أو حتّى عبر المنصّات الرّقميّة. غير أنّ جوهرها لا يتمثّل في تسجيل كلمات الضّيف فحسب، بل يكمن في إظهار شخصيّته وخلفيّته وتجربته بوضوحٍ. ولهٰذا السّبب، ينظر إلى الحوار النّاجح باعتباره أداةً قادرةً على بناء جسرٍ بين الصّحفيّ والجمهور عبر الضّيف نفسه، بحيث لا يشعر القارئ أو المشاهد أنّه أمام نصٍّ جامدٍ، بل أمام رحلةٍ استكشافيّةٍ زاخرةٍ بالمعرفة والتّجارب الإنسانيّة. [1]
من السؤال إلى الاستماع: أسرار نجاح المقابلات الحوارية
يظهر فنّ المقابلات الحواريّة أنّ النّجاح الحقيقيّ لا يتحقّق بمجرّد إعداد قائمة أسئلةٍ مسبقةٍ، بل يتجلّى في الانتقال الذّكيّ من طرح السّؤال إلى ممارسة الاستماع العميق. فالمحاور المحترف لا يقرأ أسئلته بجمودٍ، بل يستخدمها بوصفها بوّابةً تفتح مساراتٍ جديدةً داخل الحوار. إذ يبدأ بطرح سؤالٍ مفتوحٍ بلغةٍ واضحةٍ ومحايدةٍ، فيمنح الضّيف مساحةً للتّعبير بحرّيّةٍ، ثمّ ينصت بانتباهٍ شديدٍ ليمسك بالتّفاصيل الدّقيقة، سواءٌ في نبرة الصّوت أو تعابير الوجه أو حتّى في لحظات التّردّد. ومن خلال هٰذه التّفاصيل، يتمكّن من طرح أسئلةٍ متابعةٍ أعمق، فتتحوّل اللّقاءات الصّحفيّة من تبادل كلماتٍ عابرٍ إلى رحلةٍ معرفيّةٍ وإنسانيّةٍ غنيّةٍ.
ويرى خبراء الإعلام أنّ الاستماع الفعّال يشكّل نصف النّجاح في الحوارات الإعلاميّة، لأنّه يسمح للصّحفيّ بالخروج من إطار النّصّ المعدّ مسبقاً إلى اللّحظة الحيّة الّتي تكشف ما لم يكن متوقّعاً. وكم من مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ تحوّلت إلى حدثٍ استثنائيٍّ لأنّ المحاور التقط فكرةً عابرةً في حديث الضّيف، فجعل منها محوراً أساسيّاً غيّر مجرى اللّقاء كلّه! وعلى النّقيض، تفقد الحوارات قيمتها حين ينشغل المحاور بترتيب أسئلته، فيغفل عن الإصغاء لما يقال أمامه.
كما يتيح الاستماع الواعي بناء جسور ثقةٍ متينةٍ بين الصّحفيّ والضّيف. فحين يدرك الضّيف أنّ كلماته تسمع وتقدّر، ينفتح أكثر ويقدّم إجاباتٍ أصدق وأغنى بالمعلومات. وبهٰذا تتجسّد المعادلة الذّهبيّة لنجاح المقابلات الحواريّة: سؤالٌ مدروسٌ يفتح الأبواب، واستماعٌ واعٍ يضيء الطّريق، وتفاعلٌ حيٌّ يحوّل اللّقاء إلى قيمةٍ مضافةٍ للجمهور والإعلام على حدٍّ سواءٍ. [2]
كيف تصنع مقابلة حوارية ناجحة؟
يصنع الصّحفيّ المقابلات الحواريّة النّاجحة حين يتعامل معها باعتبارها فنّاً متكاملاً لا مجرّد مهمّةٍ عابرةٍ. فنجاح الحوار لا يقوم على جلوس المحاور أمام ضيفه وطرح أسئلةٍ روتينيّةٍ، بل على نسج عمليّةٍ مدروسةٍ توازن بين التّحضير والارتجال. ويبدأ ذٰلك من الإعداد الجيّد، إذ يبحث الصّحفيّ بعمقٍ عن خلفيّة الضّيف وسيرته وتجربته، ويطّلع على كلّ ما يرتبط بموضوع اللّقاء، ممّا يمنحه قدرةً على صياغة أسئلةٍ ذكيّةٍ تكشف معلوماتٍ جديدةً وتضيف قيمةً حقيقيّةً.
ومن ثمّ، تأتي صياغة الأسئلة المفتوحة الّتي تحفّز الضّيف على التّوسّع في الإجابة وتوضيح رؤاه، بدلاً من الاكتفاء بإجاباتٍ مقتضبةٍ. ويترافق ذٰلك مع استخدام لغةٍ بسيطةٍ وواضحةٍ، تساعد على إزالة أيّ حاجزٍ بين الضّيف والجمهور، وتجعل الحوار سلساً وقريباً. وفي هٰذا السّياق، يصبح الاستماع مهارةً حاسمةً، إذ ينصت الصّحفيّ بانتباهٍ لالتقاط الأفكار الخفيّة وتحويلها إلى محاور إضافيّةٍ تثري اللّقاء.
وفي الوقت نفسه، لا يغفل المحاور عن أهمّيّة خلق بيئةٍ مريحةٍ تشجّع الضّيف على الانفتاح، وذٰلك من خلال لغة جسدٍ مطمئنّةٍ ونبرة صوتٍ حياديّةٍ، ممّا يعزّز ثقة الضّيف ويدفعه إلى البوح بمزيدٍ من التّفاصيل. ومع تطوّر الوسائط الحديثة، تسهم التّكنولوجيا في توسيع دائرة الانتشار، حيث تمنح وسائل البثّ المباشر والبودكاست ومنصّات الفيديو فرصة وصول الحوار إلى جمهورٍ عالميٍّ متنوّعٍ، وهو ما يضاعف من تأثير اللّقاء الإعلاميّ. وعندما تتكامل هٰذه العناصر جميعاً، تتحوّل المقابلات الحوارية إلى تجربةٍ حيّةٍ تحمل في طيّاتها المعرفة والمتعة معاً، وتترك أثراً عميقاً في وعي الجمهور وذاكرته.
خلاصةٌ
تثبت المقابلات الحوارية أنّها أكثر من مجرّد أسئلةٍ وأجوبةٍ، فهي فنٌّ يرتكز على التّفاعل الإنسانيّ والمعرفيّ في آنٍ واحدٍ. وينجح الحوار حين يصاغ السّؤال بذكاءٍ، ويمارس الاستماع بوعيٍ، وتبنى الثّقة مع الضّيف بروحٍ من الاحترام والاهتمام. ومع هٰذا التّوازن بين التّحضير والارتجال، يمنح الحوار الجمهور فرصةً لاكتشاف زوايا جديدةٍ من المعرفة، ويجعل من اللّقاء الصّحفيّ أو الإعلاميّ أداةً أساسيّةً لفهم العالم والأشخاص. وهٰكذا يظلّ نجاح الحوارات مرهوناً بالانتقال من السّؤال إلى الاستماع، باعتباره مفتاحاً لفتح العقول وبناء جسور التّواصل.
-
الأسئلة الشائعة
- ما الفرق بين المقابلات الحوارية والمقالات الصحفية؟ تقوم المقابلات الحوارية على التّفاعل المباشر مع الضّيف عبر أسئلةٍ وأجوبةٍ، بينما المقالات الصحفية تعتمد على سردٍ وتحليلٍ من الصّحفيّ نفسه، مع الاستعانة بالمصادر والبيانات دون وجود تواصلٍ حيٍّ مع شخصيّةٍ معيّنةٍ.
- هل يحتاج الصحفي المبتدئ إلى تدريب خاص قبل إجراء المقابلات الحوارية؟ نعم، يحتاج الصحفي المبتدئ إلى تدريبٍ على تقنيات صياغة الأسئلة، وإدارة الحوار، ومهارة الاستماع، إضافةً إلى التّدرب على لغة الجسد ونبرة الصّوت لضمان تواصلٍ فعّالٍ مع الضّيف.