أسعار النفط تتراجع… ما تأثير ذلك على الاقتصادات الناشئة؟
حين تتراجع أسعار النفط عالميّاً، تواجه الاقتصادات الناشئة مزيجاً معقّداً من الضغوط على الدول المصدّرة وفرصًا محدودة للدول المستوردة في ظل تقلبات الأسواق
شهدت أسواق الطّاقة العالميّة في الآونة الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في أسعار النّفط، ممّا أثار موجةً من التّساؤلات حول مدى انعكاس هٰذا الانخفاض على الاقتصادات الصّاعدة والنّاشئة. ورغم أنّ انخفاض أسعار النّفط قد ينظر إليه في بعض الحالات على أنّه مكسبٌ للدّول المستوردة للطّاقة، فإنّ أثره في الاقتصادات النّاشئة يتّسم بالتّعقيد والتّباين، إذ يتفاوت بين ضغطٍ ماليٍّ حادٍّ على الدّول المصدّرة، وفرصٍ محدودةٍ أو مؤقّتةٍ للدّول الماسّة (المستوردة).
تأثير انخفاض أسعار النفط على الدول المصدرة
يترك انخفاض أسعار النّفط بصماتٍ عميقةً على الاقتصادات الّتي تعتمد على تصديره، إذ يربك موازناتها العامّة ويقلّص إيراداتها ويضعف قدرتها على تمويل التّنمية والحفاظ على الاستقرار الماليّ. [1]
تراجع الإيرادات الحكومية والنفطية
يؤثّر انخفاض أسعار النّفط بشكلٍ مباشرٍ في إيرادات الدّول المصدّرة له، إذ تتقلّص العوائد النّفطيّة الّتي تشكّل العمود الفقريّ لميزانيّاتها العامّة. فعندما يهبط سعر البرميل، تتراجع حصيلة الدّخل الوطنيّ الّذي تعتمد عليه الحكومات في تمويل مشاريعها وبناها التّحتيّة ودعمها الاجتماعيّ. ومع مرور الوقت، يتفاقم عجز الموازنة وتضعف قدرة الدّولة على تحفيز النّموّ الاقتصاديّ. وقد بيّنت دراسةٌ للبنك الدّوليّ أنّ الهبوط الحادّ في أسعار النّفط يؤدّي إلى خسائر ملموسةٍ في النّاتج المحلّيّ الإجماليّ تستمرّ لسنواتٍ بعد وقوع الصّدمة، ممّا يظهر عمق الأثر وطول أمده.
ضعف الحساب الجاري والاستقرار المالي
يتأثّر ميزان المدفوعات في الدّول النّفطيّة مباشرةً عند تراجع الأسعار، إذ تنخفض عائدات الصّادرات وتقلّ كمّيّات العملة الأجنبيّة المتدفّقة إلى الدّاخل، فيزداد الضّغط على الاحتياطات النّقديّة وتتراجع قيمة العملة الوطنيّة. ومع تراجع الثّقة في الأسواق، ترتفع تكلفة الاقتراض الخارجيّ وتزداد هشاشة الاستقرار الماليّ. وإضافةً إلى ذٰلك، يؤدّي هبوط أسعار الطّاقة إلى تقليص استثمارات القطاع النّفطيّ، فيتأخّر تنفيذ مشاريع الاستكشاف والإنتاج، ممّا يقلّل النّموّ المستقبليّ ويضعف الزّخم الاقتصاديّ العامّ.
تباطؤ النمو الاقتصادي والعمالة
يتباطأ الأداء الاقتصاديّ للدّول الّتي تعتمد على النّفط بوصفه مصدرها الرّئيسيّ للدّخل عندما تهبط أسعاره، إذ تتراجع حركة الإنفاق وتقلّ فرص العمل المرتبطة بالقطاع الطّاقيّ. ويضاف إلى ذٰلك أنّ الأنشطة المساندة كالنّقل والصّناعة والخدمات تتأثّر بدورها بسبب انكماش الاستثمار الحكوميّ والشّركات الخاصّة. وقد أكّدت دراساتٌ اقتصاديّةٌ أنّ الدّول المصدّرة للنّفط تتكبّد خسائر مستمرّةً في النّاتج المحلّيّ حتّى بعد مرور سنواتٍ على الصّدمة السّعريّة، ممّا يجعل التّعافي أكثر بطئاً وتعقيداً.
تأثير انخفاض أسعار النفط على الدول الماسة (المستوردة)
يمنح تراجع أسعار النّفط الدّول الماسّة المستوردة للطّاقة فرصةً لتخفيف أعباء الفاتورة النّفطيّة وتحسين ميزانها التّجاريّ، غير أنّ هٰذا الانخفاض لا يخلو من تحدّياتٍ قد تقوّض بعض مكاسبه على المدى البعيد. [1]
انخفاض فاتورة الاستيراد وتحسين الحساب الجاري
في المقابل، تستفيد الاقتصادات النّاشئة المستوردة للطّاقة من تراجع أسعار النّفط عبر انخفاض تكلفة الاستيراد. فهبوط سعر الخام يخفّف عبء الواردات ويساعد على تحسين ميزان المدفوعات، كما يقلّل من الضّغوط التّضخّميّة النّاتجة عن ارتفاع أسعار الوقود. وتشير تقارير وكالة الطّاقة الدّوليّة إلى أنّ انخفاض أسعار النّفط يدعم النّموّ في بعض الاقتصادات المتقدّمة والنّامية معاً، وإن كان تأثيره أكبر حيث تعتمد الدّول على الطّاقة المستوردة لتشغيل صناعاتها وتحريك قطاعاتها الإنتاجيّة. وبذٰلك تستفيد المؤسّسات من خفض تكاليف الإنتاج والنّقل، فتتحسّن القدرة التّنافسيّة وتزداد معدّلات النّموّ المحلّيّ.
دعم النمو الاقتصادي وتخفيف التضخم
يسهم انخفاض أسعار النّفط في تخفيض تكاليف الوقود والكهرباء والنّقل، الأمر الّذي ينعكس إيجاباً على أسعار السّلع والخدمات ويزيد القوّة الشّرائيّة للمستهلكين. ومع تراجع الضّغوط التّضخّميّة، تتاح للبنوك المركزيّة مساحةٌ أوسع لتطبيق سياساتٍ تحفيزيّةٍ تنشّط الاقتصاد وتعزّز الاستثمار. غير أنّ هٰذا الأثر الإيجابيّ لا يعمّم على جميع الدّول المستوردة، إذ تظهر بعض الدّراسات أنّ الفوائد قد تكون محدودةً إذا ترافق انخفاض أسعار النّفط مع ضعفٍ في الطّلب العالميّ أو تباطؤٍ في حركة التّجارة الدّوليّة.
مخاطر تراجع أسعار النفط
على الرّغم من المكاسب قصيرة الأجل، تواجه الدّول المستوردة للطّاقة مخاطر غير مباشرةٍ ناتجةً عن استمرار انخفاض الأسعار. فمن جهةٍ، يؤدّي تراجع الاستثمار في قطاع الطّاقة إلى تقليص الإمدادات مستقبلاً، ممّا يرفع احتمالات ارتفاع الأسعار لاحقاً بشكلٍ مفاجئٍ. ومن جهةٍ أخرى، غالباً ما يرتبط انخفاض أسعار النّفط بتراجع الطّلب العالميّ، وهو ما قد ينعكس سلباً على صادرات الدّول النّاشئة واستثماراتها الأجنبيّة، لتتراجع بذٰلك المكاسب الّتي حقّقتها من انخفاض الكلفة الطّاقيّة.
خاتمة
تظهر التّجربة أنّ أسعار النفط تشكّل عنصراً حاسماً في توازن الاقتصادات النّاشئة، سواء أكانت مصدّرةً أم مستوردة. فعندما تهبط الأسعار، تتأثّر الدّول المصدّرة بانكماش إيراداتها وتباطؤ نموّها، بينما تنال الدّول المستوردة فرصةً مؤقّتةً لخفض التّكاليف وتحسين الأداء الماليّ. ومع ذلك، يبقى تأثير تراجع أسعار النفط رهين طبيعة الصّدمة، ومدى تنوّع الاقتصاد، وقدرته على امتصاص التّقلبات الدّوريّة. لذا، لا بدّ للدّول النّاشئة من تبنّي سياساتٍ اقتصاديّةٍ مرنةٍ تراعي التّوازن بين الاستقرار الماليّ والنّموّ المستدام، وأن تسرّع في تنويع مصادر دخلها واستثمار عوائد النّفط في القطاعات الإنتاجيّة. فعندئذٍ، يمكنها أن تتحوّل من متلقٍّ سلبيٍّ لتقلّبات السّوق إلى لاعبٍ فاعلٍ قادرٍ على تحويل الأزمات إلى فرصٍ تنمويّةٍ حقيقيّة.
-
الأسئلة الشائعة
- هل انخفاض أسعار النفط دائم أم مؤقت؟ انخفاض أسعار النفط غالباً يكون مؤقتاً، إذ يعتمد على عوامل السوق العالمية مثل العرض والطلب، والسياسات الجيوسياسية، والتغيرات في الإنتاج من قبل دول أوبك. وعندما تستقر الأسواق أو يتعافى الطلب العالمي، تبدأ الأسعار بالارتفاع من جديد.
- كيف يمكن للدول المصدرة للنفط أن تتعامل مع انخفاض الأسعار؟ يجب أن تعمل الدول المصدرة على تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على العائدات النفطية عبر تطوير قطاعات مثل الصناعة والسياحة والتكنولوجيا. كما ينبغي أن تنشئ صناديق سيادية لتخفيف أثر الصدمات السعرية المستقبلية.