من الحدس إلى الذكاء: كيف أثر التحول الرقمي على عالم التسويق؟
في معركة السّوق الحاميّة، لا يكفي التّواجد فقط، بل يجب أن تكون الأسرع والأذكى في فهم البيانات وقيادة المستقبل نحو صنع علاماتٍ تجاريّةٍ لا يمكن نسيانها

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
على مدى عقودٍ طويلةٍ، تحكّم الحدس والخبرة في توجيه قرارات المسوّقين. كغيري من العاملين في المجال، كُنتُ أعتمد على النّجاحات السّابقة لتحديد الخطوة التّالية. ولكن في واقع اليوم التّنافسيّ، صار الاعتماد على الأحاسيس وحدها عبئاً وليس ميّزةً، وأصبح التّفوّق رهيناً بالتّحليلات التّنبؤيّة، والتّخصيص الفائق، والقدرة على التّفاعل الفوريّ.
لم يعد السّؤال حول ما إذا كان ينبغي للعلامات التّجاريّة أن تتوجّه نحو التسويق المبني على البيانات، بل حول ما إذا كان بإمكانها المخاطرة بعدم تبنّي ذلك.
من الغريزة إلى الذكاء: تطور التسويق
لطالما كان التسويق مزيجاً بين الفنّ والعلم، غير أنّ كفة الميزان باتت تميل بجلاءٍ إلى كفّة العلم. فما كان نافعاً بالأمس، أو حتّى في الرّبع المنصرم، قد يغدو اليوم بلا جدوى. إنّ القدرة على تحليل كميّاتٍ مهولة من البيانات، والتقاط الاتّجاهات في لحظتها، وتخصيص التّفاعل على اتّساعه، قد حوّلت التسويق إلى علمٍ دقيقٍ لا يقبل التّراخي. والعلامات الّتي لا ترتقي بآليّاتها، لا تبقى في مكانها، بل تنزلق في دوّامة تأخّرٍ مستمرٍّ.
التحليلات التنبؤية: الانتقال من الاستجابة إلى تشكيل الطلب
كان التّسويق، عبر تاريخه، فعلاً تفاعليّاً بالدّرجة الأولى؛ لا يتحرّك إلّا استجابةً لتحوّلات سلوك المستهلك بعد وقوعها. غير أنّ التّحليلات التّنبؤيّة أعادت رسم المشهد بالكامل، إذ باتت تمكّن العلامات التجارية من استشراف ما يرغبه العملاء قبل أن يعيه هؤلاء بأنفسهم.
وبالاستناد إلى التّعلّم الآليّ والأنماط السّلوكيّة التّاريخيّة، بات بوسع الشّركات التّنبؤ بمسارات الشّراء، ورصد مؤشّرات الانفصال المحتمل، وضبط استراتيجيّات التّسعير بدقّةٍ تقارب العلميّة. والنتيجة؟ نهجٌ استباقيٌّ لا يلاحق التّغيّرات فحسب، بل يسهم في صناعتها.
والأبلغ دلالةً، أنّ عمالقة التّجزئة، وعلى رأسهم "أمازون" (Amazon)، يوظّفون النّماذج التّنبؤيّة لرصد ذروات الطّلب قبل وقوعها، وتجهيز المخزون بشكلٍ استباقيٍّ، واقتراح المنتجات استناداً إلى أنماط استهلاكٍ دقيقةٍ تُقاس بأدقّ التّفاصيل السّلوكيّة.
التخصيص الفائق مطلب أساسيّ
لم يعد التّخصيص المعتمد على الذكاء الاصطناعي يقتصر على إدراج اسم العميل ضمن رسائل البريد الإلكتروني، بل تجاوزه إلى تقديم تجارب سياقيّةٍ متفرّدةٍ عند كلّ نقطة تماسٍ. حتّى في سوق الأعمال، لم تعد التّوقّعات محصورةً في العموميّات، بل بات أصحاب القرار يترقّبون محتوىً وعروضاً تُفصّل خصيصاً لتناسب احتياجاتهم الدّقيقة.
على سبيل المثال، تستثمر "هب سبوت" (HubSpot) في تحليل البيانات السّلوكيّة لتخصيص تدفقّات البريد الإلكترونيّ، وتوصية المحتوى، وتعديل نماذج التّسعير بما يتماشى مع تفاعل العميل المحتمل. أمّا في عام 2025، فمن المرتقب أن يفتح الذكاء التوليدي آفاقاً أوسع، حيث سيتمكّن المسوّقون من إنتاج محتوىً ديناميكيٍّ ينبض بالحيوية، ويتكيّف لحظيّاً مع هويّة العميل وموقعه على خارطة الشّراء؛ هذا المستوى من الدقّة لا يضمن التّفاعل وحسب، بل يسرّع دورات البيع ويعزّز معدّلات التّحويل بفاعليّةٍ لافتةٍ.
الرشاقة هي عملة النجاح اليوم
قدرة العلامات على تعديل استراتيجياتها التسويقية فورًا بناءً على أداء الحملات أو تغيرات السوق أو توجهات المستهلكين، هي ما يرسّخ القفزات النوعية. في ظل قيام المشترين بتثقيف أنفسهم مسبقًا وتأخير تفاعلهم مع فرق المبيعات، فإن العلامات الأكثر رشاقة لا تنتظر التقارير الربعية؛ بل تستند إلى بيانات لحظية مثل اتجاهات البحث ومشاعر العلامة التجارية لضبط الرسائل وتوزيع الميزانيات وتخطيط المخزون خلال أيام فقط.
الأتمتة والذكاء: هامش التقدّم
تكمن القفزات النّوعيّة في قدرة العلامات التجارية على تعديل استراتيجيّاتها التّسويقيّة في اللّحظة ذاتها، استجابةً لأداء الحملات، أو لتقلّبات السّوق، أو لتحوّلات سلوك المستهلكين. ففي زمنٍ بات فيه المشترون يسبقون البائعين بخطوةٍ، يثقّفون أنفسهم ذاتيّاً، ويؤجلّون التّفاعل مع فرق المبيعات، لم يعد التّريّث حتّى صدور التّقارير الرّبعية خياراً متاحاً.
تعتمد العلامات الأكثر رشاقةً اليوم على البيانات اللّحظيّة -من اتّجاهات البحث إلى مؤشّرات مشاعر الجمهور- لتعيد صياغة رسائلها، وتعيد توزيع ميزانيّاتها، وتخطّط مخزونها خلال أيّامٍ، لا أسابيع. تلك السّرعة في الاستجابة لم تعد ميّزةً تنافسيّةً، بل شرطاً أساسيّاً للبقاء في صدارة المشهد.
شركة Siemens مثال للتطبيق الفعلي
استخدمت شركة "سيمينس" (Siemens) الأتمتة والذكاء الاصطناعي لتبسيط رعاية العملاء المحتملين، وتخصيص المحتوى على نطاقٍ واسعٍ، وتعميق التّفاعل. ومن خلال بوتات محادثةٍ آليّةٍ وتدفّقات بريدٍ ذكيّةٍ، تضمن وصول المعلومة الملائمة في الوقت المناسب. وبفضل التّحليلات التّنبؤيّة، تتّجه فرق المبيعات إلى الأولويّات الأكثر قيمةً، ممّا يعزّز معدّلات التّحويل ويقلّل الجهد اليدويّ المبذول.
المستقبل ملكٌ للمدفوعين بالبيانات
أصبح التسويق اليوم ميداناً عالي المخاطر، لا مكان فيه للأحاسيس العابرة، بل للذّكاء المتّقد والقرارات المبنيّة على بصيرةٍ. فالعلامات التّجاريّة الّتي ستتقدّم الصفوف ليست بالضّرورة الأضخم حجماً، بل الأذكى ذهناً: تلك الّتي تُتقن تسخير التّحليلات التّنبؤيّة، وتُجيد فنّ التّخصيص الفائق، وتتميّز برشاقةٍ لحظيّةٍ، وتوظّف الذكاء الاصطناعي بكفاءةٍ تُضاعف أثرها وتُسرّع خطاها نحو الرّيادة.
- الخيار واضحٌ: تطوّر أو تزول.
نبذة عن المؤلفة
ياسمين ميلبس، نائب الرّئيس للتسويق في "لوسيديا" (Lucidya)، واحدةٌ من أسرع شركات تجربة العملاء القائمة على الذكاء الاصطناعي نموّاً في المنطقة. تُشرف على استراتيجيّة العلامة والنّموّ في دول الخليج، وتقود موقع لوسيديا كمنصّةٍ رائدةٍ في استخبارات تجربة العملاء. تشمل مسؤوليّاتها توليد الطّلب، واستراتيجيّات الدّخول للأسواق، والمحتوى، والعلامة، وكلّ ذلك يتركز على تحقيق أثرٍ استراتيجيٍّ وقابلٍ للقياس.
بمسيرةٍ تمتدّ لأكثر من عقدين في قطّاعي التكنولوجيا والاتّصالات، شغلت ياسمين مناصب تسويقيّةً رفيعةً في مؤسّساتٍ عالميّةٍ مرموقةٍ، من بينها: "إنفوبِب" (Infobip)، و"إتش آي دي غلوبال" (HID Global)، و"أورانج تيليكوم" (Orange Telecom). وتُعرف بقدرتها الفذّة على بناء استراتيجيات تسويق عالية الأداء، وإطلاق علاماتٍ تجاريّةٍ في أسواقٍ جديدةٍ، وتحويل أكثر المفاهيم التّقنية تعقيداً إلى رسائل واضحةٍ آسرةٍ تُعجّل بالنّموّ وتُحفّز التّوسّع.
وقد نالت ياسمين عدّة جوائز مرموقةٍ تقديراً لتميّزها في استراتيجيات التسويق، والقيادة الملهمة، والتّأثير الفاعل في مشهد الأعمال. كما تصدّرت أغلفة عددٍ من أبرز المطبوعات الإقليميّة والعالميّة. وهي عضوٌ نشطٌ في المجلس العالميّ للمدراء التسويقيين (Global CMO Council) وجمعيّة المرأة في التّقنية، فضلاً عن كونها مؤسّسةً، ومستشارةً، ومرشدةً، تكرّس جهودها لدعم النّساء في مجالات التّقنية وريادة الأعمال النّاشئة في المنطقة.