الرئيسية الريادة تحول دور المدير المتوسط: حجر الأساس في مستقبل العمل

تحول دور المدير المتوسط: حجر الأساس في مستقبل العمل

يقدّم تشارلز كاسيلا رؤيةً معمّقةً لإعادة تعريف دور المدير الوسيط، موضّحاً كيف يمكن لهذا الدّور أن يتجاوز مجرّد الإشراف على الأداء ليصبح ركيزةً أساسيّةً في بناء ثقافةٍ مؤسّسيّةٍ قويّةٍ، خصوصاً في بيئة أسواق الشرق الأوسط الدّيناميكيّة

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.

مكان العمل في حالة تغيّرٍ مستمرٍّ؛ فعبر الصّناعات والمناطق، تتلاشى الهياكل الهرميّة القديمة لتفسح المجال لهياكل أكثر مرونةً وسرعةً، ممّا يجعل الموظّفون يطالبون بمزيدٍ من الغاية والمرونة والانخراط من مؤسّساتهم. وفي هذا المشهد المتحوّل، يبرز دورٌ واحدٌ تحت المجهر بشكلٍ خاصٍّ: المدير المتوسّط.

لطالما صُوّر على نحو كاريكاتيري كعنق زجاجةٍ بيروقراطيٍّ أو مراقبٍ للعمليّات، وغالباً ما يجد المدير المتوسط نفسه عالقاً بين طموح القيادات وواقع الصّفوف الأماميّة. ومع ذلك، بعيداً عن كونه زائداً عن الحاجة، يشهد دوره إعادة ابتكارٍ عميقةً. ولا يظهر هذا بوضوحً أو إلحاحً أكثر من المنطقة، حيث تعيد التّحوّلات الاقتصاديّة الطّموحة والتّغيرات الدّيموغرافيّة والرّؤى الوطنيّة تشكيل نسيج العمل ذاته.

الأهمّية المتوسّطة

تقليديّاً، كان يُقاس أداء المدراء المتوسّطين بقدرتهم على ضمان الالتزام، وإتمام العمليّات، ومراقبة الأداء؛ فقد كانوا يشكّلون القنوات التي تتدفّق عبرها المعلومات صعوداً وهبوطاً في الهيكل التّنظيميّ. ولكن اليوم، لم يعد هذا الدّور الضّيق كافياً.

تبدّلت التّوقعات الملقاة على عاتق المدراء بشكلٍ جذريٍّ، لتستلزم منهم أن يكونوا حاملي الثّقافة، مطوّري الأفراد، وروابط الاستراتيجيّة؛ فقد أصبح التّدريب، والإلهام، وصقل المواهب عناصر أساسيّةً في مهامّهم إلى جانب تحقيق نتائج أعمالٍ طموحةٍ؛ فتحوّل الدّور من مجرّد فرض النّظام إلى قيادةٍ أكثر إنسانيّةً.

في تقريرها الأخير عن اتّجاهات رأس المال البشريّ في الشّرق الأوسط لعام 2025، وجدت شركة " ديلويت" (Deloitte) -الشّركة العالميّة للخدمات المهنيّة الّتي أعمل بها- أنّ المؤسّسات في المنطقة بدأت تدرك هذا التّحوّل بشكلٍ متزايدٍ، إذ تسارع المؤسّسات اعتماد الرّقمنة وتجربة نماذج عملٍ جديدةٍ، ويبرز المدراء المتوسّطون كطبقةٍ محوريّةٍ يمكن أن تصنع الفارق في نجاح هذه التّحوّلات أو إفشالها.

مهارات جديدة للإدارة

كيف يظهر هذا الابتكار على أرض الواقع؟ أوّلاً، يتطلّب مجموعةً أوسع من المهارات أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ فلم يعد الذّكاء العاطفيّ والتّعاطف مجرّد مهاراتٍ ناعمةٍ، بل أصبحت قدراتٍ قياديّةً أساسيّةً. كما أنّ القدرة على الإدارة عبر الوظائف والثّقافات ضروريّةٌ في منطقةٍ متنوّعةٍ كالشّرق الأوسط، حيث تضمّ الفرق غالباً موظّفين من أجيالٍ وجنسيّاتٍ متعدّدةٍ.

ولا تقلّ أهميّة الطّلاقة الرّقميّة؛ فالمدراء يتطوّرون بوصفهم مترجمين وممكّنين للبيئة الرّقميّة في مكان العمل. ويجب ألّا يقتصر الأمر على إلمامهم بالتّقنية فحسب، بل أن يكونوا قادرين على استخدامها لتمكين التّعاون، وتعزيز الأداء، وترسيخ الشّموليّة. وفوق كلّ ذلك، على المدراء النّاجحين في بيئة اليوم احتضان الغموض. فالتّغيير مستمرٌّ، وربّما تشكّل القدرة على توفير الطّمأنينة في أوقات الغموض وعدم الاستقرار أعظم مساهمةٍ لهم.

من عنق الزّجاجة إلى مضاعف التّأثير

غالباً ما يُنظر إلى المدراء في المستويات الوسطى على أنّهم عبءٌ تنظيميٌّ، يعيقون الابتكار ويتمسّكون بالأساليب القديمة. غير أنّ هذه النّظرة مجحفةٌ؛ فعندما يُمنح هؤلاء الصّلاحيّات والدّعم بالشّكل الصّحيح، يتحوّلون إلى محرّكاتٍ فاعلةٍ للثّقافة المؤسّسيّة ومضاعِفين حقيقيّين للابتكار.

فمن خلال قيادتهم اليوميّة تُترجَم الرّؤيّة التّنفيذيّة إلى سلوكيّاتٍ ملموسةٍ في بيئة العمل، وغالباً ما تُعدّ مؤشّراتٍ معنويّات الموظفين -من الشّعور بالانفصال إلى الإرهاق- مقياساً مبكّراً لجودة الإدارة قبل أن تكشفها الاستطلاعات أو التّقارير. وبحكم موقعهم كحلقة وصلٍ بين الوظائف، يجمع المدراء الرّؤى بين مختلف الأقسام ويبتكرون حلولاً تدفع عجلة التّقدّم.

كما أنّ إعادة تعريف هذا الدّور ليست ترفاً لغويّاً، بل ضرورة استراتيجيّة. ففي الشّرق الأوسط، حيث تراهن الحكومات بجرأةٍ على الاقتصاد الرّقميّ والطّاقة المتجدّدة وتنمية المهارات المستقبليّة، سيغدو المدراء حلقةً أساسيّةً في تحويل هذه الرّؤى الطّموحة إلى واقعٍ ملموسٍ داخل بيئة العمل.

الضّرورة التّنظيميّة

إذا أرادت المؤسّسات أن ينهض المدراء المتوسّطون بهذا الدّور الموسّع، فعليها دعمهم بطريقةٍ مختلفةٍ. ويبدأ ذلك بكيفيّة قياس الأداء؛ فبدل التّركيز فقط على النّتائج أو الالتزام، ينبغي أن تعكس المقاييس التّعاون، والتّوجيه، والأثر الثّقافيّ. ويجب الاعتراف بالمدراء الّذين ينجحون في تطوير المواهب وتعزيز الشّموليّة ومكافأتهم.

كما يمثّل التّعلم المستمرّ أولويّةً أخرى؛ فكثيراً ما تركّز برامج تطوير القيادة على القادة في القمّة. ومع ذلك، غالباً ما تأتي أعلى عوائد الاستثمار من تجهيز المدراء المتوسّطين بالمهارات اللّازمة لقيادة الفرق، والتّكيّف مع التّغيّير، واستثمار التّقنية بفعاليّةٍ.

ويتعيّن على المؤسّسات أيضاً إعادة تصميم العمل لتمكين المدراء، لا لإرهاقهم. ويعني ذلك توفير أدواتٍ تقلّل الأعباء الإداريّة وتعزّز الرّؤية، بدلاً من زيادة متطلّبات التّقارير. ويشمل ذلك أيضاً تعزيز الأمان النّفسيّ، بحيث يشعر المدراء بالدّعم عند التّجربة، واتّخاذ القرارات، وحتّى الفشل كجزءٍ من عمليّة التّعلّم.

عبر السّعوديّة، والإمارات، وقطر، تكتشف المؤسّسات أنّ الموظّفين أكثر انشغالاً من أيّ وقتٍ مضى، ومع ذلك تبقى النّتائج الحرجة صعبة التّحقيق. ويُظهر تقرير " ديلويت " حول اتّجاهات رأس المال البشريّ في الشّرق الأوسط لعام 2025 هذا التّناقض بوضوحٍ؛ ففي حين يشعر 74% من المدراء عالميّاً بالتّمكين لتقديم ملاحظاتٍ حول كيفيّة جعل العمل أكثر قيمةً، يقول 34% فقط من الموظّفين الشّيء نفسه، ويشعر 31% بشكلٍ لافتٍ بعدم التّمكين مطلقاً. وتظهر تكلفة هذا الانفصال في أيّام عملٍ مزدحمةٍ بالاجتماعات، وسلاسل البريد الإلكترونيّ، وتدفّقات العمل المبعثرة التي تحجب التّركيز العميق والاستراتيجيّ.

كما تتصرّف بعض الحكومات والشّركات بحسمٍ؛ فقد نجحت شركة النّفط السّعودية العملاقة "أرامكو" (Aramco) في تقليص مدّة التّوظيف بنسبة 30% وتعزيز جودة المرشّحين بنسبة 25% عبر اعتماد أدوات التّوظيف القائمة على الذّكاء الاصطناعيّ، بينما أدّت استثمارات الشّركة العالميّة الرّائدة في الكيماويّات "سابك" (SABIC) في تقنيات الموارد البشريّة إلى ارتفاع رضا الموظّفين بنسبة 20%. وبالتّوازي، تُخطّط 78% من الشّركات السّعوديّة لزيادة إنفاقها على تقنيات الموارد البشريّة خلال ثلاث سنواتٍ، وقد رقمنت منصّة "بياناتي" (Bayanati) في الإمارات 95% من خدمات الموارد البشريّة الفيدراليّة، فيما يعمل مكتب الخدمة المدنيّة (Civil Service Bureau) في قطر على تحديث أنظمة 85,000 موظّفٍ في القطّاع العامّ عبر شراكةٍ مع شركة SAP العالميّة الرّائدة في برمجيّات المؤسّسات. وتجسّد هذه الخطوات مجتمعةً كيف أصبح استعادة القدرة التّنظيميّة أمراً حيويّاً في السّباق لتحقيق الرّؤى الوطنيّة.

لماذا يمكن للشرق الأوسط أن يقود؟

يشكّل إعادة ابتكار الإدارة ظاهرةً عالميّةً، لكن للشّرق الأوسط ظروفاً فريدةً تجعله أرضاً خصبةً للتّغيير بشكلٍ خاصٍّ؛ فمع واحدٍ من أصغر القوى العاملة سنّاً في العالم، ومستويّات ٍعاليةٍ من تبنّي التّقنية، ورؤىً وطنيّةٍ جريئةٍ مثل رؤية السعودية 2030 ورؤية الإمارات 2031، لا تقيّده الهياكل التّنظيميّة التّقليديّة بنفس القدر الّذي يحدّ الاقتصادات الأكثر نضجاً.

ويتيح ذلك فرصةً لإعادة تعريف الإدارة في القرن الحادي والعشرين، ليس بتقليد النّماذج الغربيّة القديمة، بل ببناء أساليب تتوافق مع تطلّعات المنطقة وواقعها. ويمكن للمدراء المتوسّطين -إذا مُنحوا الصّلاحيّات- أن يشكّلوا الجسر بين السّياسة والتّطبيق، والاستراتيجيّة والتّنفيذ، والطّموح والواقع.

دعوة للعمل: استثمروا في مدرائكم

كان السّؤال الّذي طرحته في تقرير ديلويت الشرق الأوسط الأخير بسيطاً: هل ما زال لدور المدراء قيمةٌ؟

الجواب، في اعتقادي، نعم بلا شكٍّ. ولكن، بشرط أن نكون مستعدّين لإعادة التّفكير وإعادة ابتكار مفهوم الإدارة. في بيئة العمل اليوم في الشّرق الأوسط، لم يعد المدراء المتوسّطون مجرّد منفّذي مهامٍّّ أو قنوات معلوماتٍ، بل أصبحوا حاملي الثّقافة، وروابط التّواصل، ومدرّبين قادرين على إطلاق إمكانات الأفراد والمؤسّسات على حدٍّ سواء.

بالنّسبة للقادة في المنطقة  تتضّح الأوّلويّة بتمكين المدراء بالثّقة والصّلاحيّات، ومساءلتهم ليس فقط عن تحقيق النّتائج، بل أيضاً عن ترسيخ ثقافة المؤسّسة. ولن يُرسم مستقبل العمل في الشّرق الأوسط فقط على أيدي القادة الجريئين في القمّة، بل أيضاً على يد المدراء المتوسّطين الّذين يجسّدون الطّموح في أفعالٍ يوميّةٍ. فإعادة الابتكار ليست خياراً، بل ضرورة.

عن الكاتب

تشارلز كاسيلا (Charles Casella) هو مديرٌ أوّّلٌ ومدير مشاركٌ في "ديلويت" (Deloitte) الشّرق الأوسط.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 7 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: