السعودية تقود ثورة الاقتصاد بلا نقد: هل تواكبها الشركات؟
حين تتلاقى التّحوّلات التّقنيّة مع التّطلّعات التّنمويّة، يتحوّل ضبط الإنفاق المؤسسيّ إلى مفتاحٍ يفتح أبواب الكفاءة والحوكمة والازدهار

ها المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
تمضي المملكة العربيّة السّعودية بخطىً واثقةً نحو تحقيق رؤيتها في بناء اقتصادٍ بلا نقدٍ، حيث لم يعد الأمر مجرّد توجّه تقنيٍّ، بل مشروعٍ استراتيجيٍّ يعيد صياغة قواعد اللّعبة الاقتصاديّة. ففي إطار برنامج تطوير القطّاع الماليّ (Financial Sector Development Program – FSDP)، وضعت المملكة هدفاً طموحاً يقضي بأن تصبح 70% من جميع المعاملات غير نقديّة مع نهاية عام 2025. هذا الرّقم ليس مجرّد إحصائيّةٍ، بل انعكاسٌ لتحوّلٍ عميقٍ في سلوك المستهلكين، وإشارةٍ إلى ثورةٍ أوسع تطال بيئة الأعمال وتدفعها إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التّطوّر والحداثة.
لم يعد الضّغط موجَّهاً إلى المستهلكين وحدهم لاعتماد الأنظمة الماليّة الرّقميّة، بل باتت الشّركات أيضاً مطالبةً بالانتقال إلى نموذجٍ رقميٍّ أوّلاً. فبينما قادت ابتكارات نقاط البيع النّقاش حول التّمويل الرّقميّ، ظلّ جانب الإنفاق المؤسّسيّ -حيث تتركّز معظم مواطن القصور التّشغيلية- مهمَلاً إلى حدٍّ كبيرٍ.
تفرض إلزاميّة الفوترة الإلكترونيّة في السعودية -الّتي تقودها هيئة الزكاة والضّريبة والجمارك (ZATCA)- واقعاً جديداً يُعيد صياغة آليّات إصدار الشّركات لمستنداتها الماليّة وإدارتها. ومع دخول النّظام مرحلته الثّانيّة من التّنفيذ، أصبح التّكامل مع الأنظمة الحكوميّة والتّقارير الفوريّة شرطاً أساسيّاً، الأمر الّذي يدفع المؤسّسات إلى مراجعة بنيتها الماليّة التّقليديّة، الّتي لطالما اتّسمت بالتّعقيد واستنزاف الموارد.
لم تعد الممارسات القديمة كالفوترة اليدويّة، أو تتبّع النّفقات بشكلٍ منفصلٍ، أو التّسويات الشّهرية البطيئة، قابلةً للتّطبيق في عالمٍ رقميٍّ يقوم على الفوريّة والشّفافيّة. فاليوم، تحتاج الشّركات إلى أدواتٍ تمنحها رؤيةً لحظيّةً لإيراداتها ومصروفاتها معاً، بما يُتيح إعداد تقارير أسرع وأكثر دقّةً، ويضمن التّوافق الكامل مع متطلّباتٍ تنظيميّةٍ تتطوّر على نحوٍ متسارعٍ. ومن يجرؤ على تبنّي هذا التّحوّل، سيجد فيه فرصةً لتحديث عمليّاته، لا فقط للالتزام باللّوائح، بل للعمل بذكاءٍ أكبر وكفاءةٍ أعلى.
لقد أثبتت النّماذج التّقليديّة في مسك الدّفاتر قصورها، إذ تقتصر على تسجيل ما أُنفق في الماضي، بدلاً من متابعة ما يجري في الحاضر. غير أنّ هذا الواقع بدأ يتغيّر، مع دخول البطاقات المؤسّسيّة الذّكيّة وأدوات التّسوية الآليّة إلى المشهد، لتمنح الشّركات القدرة على الانتقال من رقابةٍ ماليّةٍ بأثرٍ رجعيٍّ إلى تحكّمٍ مباشرٍ وفوريٍّ في نفقاتها.
ويكتسب هذا التّحوّل أهميّةً مضاعفةً في منطقة الخليج، حيث تتسارع إيقاعات الأعمال وتتشظّى مراكز اتّخاذ القرار على نحوٍ متزايدٍ. ففي بيئةٍ تمتدّ أنشطتها بين مدنٍ متعدّدةٍ، وتتشابك فيها نفقات السّفر مع منظومات المشتريات عبر فرقٍ متفرّقةٍ، تأتي الأنظمة اللّحظيّة لتُعيد الانضباط إلى المشهد، إذ تقلّص مخاطر الإنفاق الزّائد والاحتيال والأخطاء البشريّة، وتمنح في الوقت نفسه سرعةً في اتّخاذ القرار لم تكن ممكنةً من قبل. ومع هذا، فإنّها تُتيح للفرق هامشاً واسعاً من الاستقلاليّة، دون أن تُفلت من قبضة منظومةٍ مركزيّةٍ تُحكم الرّقابة الماليّة وتضمن التّوازن بين الحريّة والضّبط.
وفي المملكة العربيّة السّعوديّة على وجه الخصوص، يشهد النّظام البيئيّ للشّركات النّاشئة ازدهاراً متسارعاً؛ فبفضل الصّناديق الحكومية المخصّصة مثل "منشآت" (Monsha’at)، والأطر التّنظيميّة الدّاعمة، دخل عددٌ غير مسبوقٍ من روّاد الأعمال إلى السّوق. غير أنّ وتيرة النّموّ السّريعة تجلب معها ضغوطاً ماليّةً متزايدةً، فيما يظلّ ضعف إدارة الإنفاق أحد أبرز التّهديدات الّتي تواجه الشّركات النّاشئة في مراحلها الأولى.
لا تزال الكثير من الشّركات النّاشئة تعتمد على الجداول الحسابيّة، والموافقات اليدويّة، والتّقارير المتفرّقة، وهي أدواتٌ يمكن أن تتحوّل سريعاً إلى فوضىً ماليّةٍ خانقةٍ تُربك التّدفقات النّقديّة. ومع اتّساع نطاق عمل المؤسّسين، تغدو القدرة على تتبّع الإنفاق وضبطه والتّنبؤ به أمراً حاسماً. وهنا تبرز أهميّة الأدوات الرّقميّة الّتي تُتيح رقابةً فوريّةً وضوابط آليّةٍ، بما قد يشكّل الفارق بين استنزاف رأس المال وبين بناء مسار نموٍّ مستدامٍ.
فالتّحوّل إلى الرّقمنة لا يرتبط بالسّرعة أو سهولة الاستخدام فحسب، بل يتصّل أيضاً بالذّكاء. إذ تولّد كلّ معاملةٍ ماليّة بيانات، وهذه البيانات، متى جُمعت وحُلّلت بشكلٍ صحيحٍ، تتحوّل إلى أصلٍ استراتيجيٍّ بالغ القيمة. بدءاً من إعداد الميزانيّات وعمليات التدقيق، مروراً بالتّخطيط الاستثماريّ وتعزيز المساءلة على مستوى الأقسام، باتت بيانات الإنفاق في قلب القرارات الماليّة الرّشيدة. ومع توافر المنصّات المناسبة، يستطيع المدراء الماليّون وقادة إدارات التّمويل تحديد مواطن القصور، وقياس التّكاليف وفق معايير دقيقةٍ، والكشف عن فرصٍ جديدةٍ لخلق القيمة، بما يدعم استمراريّة النّموّ ويضمن استدامته.
عن الكاتب
يُعَدّ أيهم غوراني، الشّريك المؤسِّس لشركة "بيمو" (Pemo)، واحداً من أبرز الوجوه الشّابة في مشهد التّكنولوجيا الماليّة بالمنطقة. انطلاقاً من مقرّه في دبي، قاد غوراني خلال الأعوام الثّلاثة الماضية رحلة بناء وتطوير المنصّة الشّاملة لإدارة نفقات الشّركات، لتصبح إحدى الحلول الرّائدة الّتي تُعيد صياغة مفهوم الإنفاق المؤسّسيّ.
بفضل خلفيته التقنيّة المتينة ورؤيته العمليّة، أشرف غوراني على أكثر من 300 تحديثٍ في البنية البرمجيّة لبيمو، محافظاً على وتيرة ابتكارٍ متسارعةٍ توازن بين الاستمراريّة في التّطوير وتقديم حلولٍ عمليّةٍ عالية الكفاءة. هذا النّهج جعله لاعباً محوريّاً في تمكين الشّركات من إدارة مواردها الماليّة بذكاءٍ، وتعزيز حضور بيمو كمنصّةٍ سبّاقةٍ في تلبية متطلّبات الأسواق المتغيّرة.