الرئيسية المال اقتصاد النية: كيف تغيّر الشفافية سلوك المستهلكين؟

اقتصاد النية: كيف تغيّر الشفافية سلوك المستهلكين؟

حين تحوّلت الأسواق إلى مرآةٍ للقيم، أصبح المستهلك يبحث عن الصّدق والمسؤوليّة الأخلاقيّة قبل أيّ عرضٍ أو تخفيضٍ أو إعلانٍ

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

أطلق مفهوم اقتصاد النّيّة موجةً جديدةً في عالم الأعمال المعاصر، إذ لم يعد المستهلك يكتفي بجودة المنتج أو بمستوى السّعر، بل صار يبحث بتأنٍّ عن نوايا الشّركات، وعن مدى التزامها بالقيم المشتركة، والشّفافيّة في الممارسات، والمسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه المجتمع. وبذٰلك شكّل اقتصاد النّيّة تحوّلاً جذريّاً في طبيعة الأسواق، حيث لم تعد القرارات الشّرائيّة تقوم على المعايير المادّيّة وحدها، بل ارتبطت بالثّقة والوعي والانسجام القيميّ بين المستهلك والعلامة التّجاريّة. ومن هنا برز ما يعرف أيضاً باقتصاد القصد أو اقتصاد النّوايا، وهو النّموذج الّذي يضع نيّة الشّركة وسلوكها الأخلاقيّ في صميم القرار الشّرائيّ.

ما هو اقتصاد النية ولماذا برز اليوم؟

برز اقتصاد النّيّة بوصوفه استجابةً مباشرةً للتّحوّلات التّكنولوجيّة والاجتماعيّة الّتي جعلت المعلومات متاحةً على نطاقٍ غير مسبوقٍ؛ فلم يعد المستهلك يتلقّى الرّسائل التّسويقيّة بشكلٍ سلبيٍّ، بل صار قادراً على الوصول إلى تفاصيل دقيقةٍ عن الشّركات، بدءاً من مصادر الموادّ الخام وانتهاءً بطريقة معاملة الموظّفين. وبفعل هٰذه الشّفافيّة الواسعة، اضطرّت الشّركات إلى إعادة التّفكير في استراتيجيّاتها، فوجدت نفسها أمام معادلةٍ صعبةٍ: كيف تحافظ على الرّبح وفي الوقت نفسه تلتزم بالقيم؟ يقوم اقتصاد النّيّة على أساسٍ واضحٍ، وهو أنّ الثّقة باتت تمثّل العملة الأهمّ في السّوق الحديثة، وأنّ الشّركة الّتي تفشل في بناء صورةٍ صادقةٍ لنواياها تخسر ولاء المستهلكين حتّى لو قدّمت منتجاتٍ جيّدةً وبأسعارٍ منافسةٍ.

كيف تؤثر الشفافية على سلوك المستهلكين؟

غيّرت الشّفافيّة بعمقٍ طبيعة العلاقة بين المستهلكين والشّركات، فلم يعد القرار الشّرائيّ يقوم على الإعلان أو السّعر وحدهما، بل صار المستهلك يطلب دليلاً ملموساً على صدق الشّركة. ولأنّ اقتصاد النّيّة رسّخ ثقافة التّحقّق، بدأ الأفراد يبحثون في خلفيّات العلامات التّجاريّة، فيقرؤون المراجعات الرّقميّة، ويتابعون تجارب الآخرين على منصّات التّواصل، ويقارنون بدقّةٍ بين ما تصرّح به الشّركة رسميّاً وما يكشف عنها من مصادر مستقلّةٍ.

ومع تزايد وفرة المعلومات، تبنّى المستهلك سلوكاً أكثر نقديّةً ووعياً، فصار يفحص السّياسات البيئيّة للشّركات، ويتأكّد من التزاماتها الاجتماعيّة، ويولي اهتماماً متزايداً بمستوى احترامها لحقوق العمّال في سلاسل التّوريد. وعندما تكشف الشّركة نواياها الحقيقيّة وتظهر التزامها الفعليّ بما تعلن عنه، يكافئها المستهلك بولاءٍ طويل الأمد حتّى لو كان السّعر أعلى من المنافسين. أمّا حين تخفي الشّركة الحقائق أو تمارس التّضليل، فإنّ المستهلك يعاقبها بالعزوف أو بالمقاطعة، الأمر الّذي يثبت أنّ قوّة الشّفافيّة تفوق أيّ حملةٍ تسويقيّةٍ تقليديّةٍ.

ولم تقتصر التّأثيرات على قرارات الشّراء وحدها، بل امتدّت لتجعل المستهلك يربط بين اختياراته الاستهلاكيّة وهويّته الشّخصيّة. فلم يعد المنتج مجرّد سلعةٍ، بل أصبح رمزاً يعكّس القيم الّتي يتبنّاها الفرد. ولذٰلك يفضّل الكثيرون شراء منتجاتٍ صديقةٍ للبيئة أو دعم شركاتٍ تجسّد العدالة الاجتماعيّة، حتّى لو استلزم ذٰلك دفع تكلفةٍ إضافيّةٍ. ومع ندرة الثّقة في عالم اليوم، صارت الشّركات النّاجحة هي تلك الّتي تبني سمعتها على الصّدق والوضوح لا على الشّعارات البرّاقة. وهكذا أسهمت هٰذه التّحوّلات في بروز نمطٍ جديدٍ من الاستهلاك الواعي، رسّخ مكانة اقتصاد النّيّة كإطارٍ يعيد تعريف العلاقة بين العرض والطّلب ويحوّل الشّفافيّة إلى معيارٍ رئيسٍ يحكم السّلوك الشّرائيّ في الأسواق. [1]

تحديات تواجه اقتصاد النية

وعلى الرّغم ممّا حمله اقتصاد النّيّة من مزايا وإيجابيّاتٍ، فقد ظلّ هٰذا النّموذج محاطاً بتحدّياتٍ معقّدةٍ أعاقت ترسّخه بشكلٍ كاملٍ. فقد مثّل ما يعرف بالتّسويق الأخلاقيّ المبالغ فيه، أحد أبرز هٰذه التّحدّيات، إذ تلجأ بعض الشّركات إلى التّظاهر بالالتزام بالقيم البيئيّة والاجتماعيّة، في حين تواصل ممارساتها التّقليديّة الّتي تناقض ما تروّج له. ومن خلال هٰذا التّناقض انفتحت فجوةٌ واضحةٌ بين القول والفعل، دفعت المستهلكين إلى التّشكيك في صدق كثيرٍ من الشّعارات المرتفعة.

ولم يقف الأمر عند هٰذا الحدّ، بل أضافت التّكاليف عبئاً آخر على الشّركات، إذ إنّ الالتزام بالشّفافيّة الحقيقيّة يتطلّب استثماراتٍ كبيرةً في تتبّع سلاسل التّوريد، ونشر التّقارير الدّوريّة، وتطبيق معايير الإنتاج المستدام. وفي ظلّ اقتصاد النّوايا، وجدت الشّركات نفسها أمام معضلةٍ حادّةٍ: إمّا أن تحافظ على مستوى عالٍ من الشّفافيّة وتخاطر بزيادة التّكاليف، أو أن تفضّل تخفيض الأسعار وتفقد ثقة جمهورها.

كما زاد انتشار الأخبار المضلّلة وحملات التّشويه عبر الإنترنت من تعقيد المشهد، إذ يجد المستهلك نفسه أحياناً عاجزاً عن التّحقّق من صدق نوايا الشّركات بسبب تضارب المعلومات. وقد أسهمت هٰذه الظّاهرة في جعل الثّقة أكثر هشاشةً، حيث يمكن لسمعة شركةٍ كاملةٍ أن تنهار في غضون أيّامٍ قليلةٍ بفعل اتّهاماتٍ غير مثبتةٍ. ولأنّ الثّقة تمثّل العمود الفقريّ لاقتصاد القيم، فإنّ هٰذه الهشاشة تعدّ تهديداً خطيراً. [2]

الخلاصة

أعاد اقتصاد النّيّة صياغة العلاقة بين الشّركة والمستهلك، وحوّل الشّفافيّة إلى عاملٍ حاسمٍ في بناء الثّقة واتّخاذ القرارات الشّرائيّة. وأثبت هٰذا النّموذج أنّ القيم والصّدق والنّوايا تمثّل ركائز لا غنىً عنها في بناء ولاء المستهلكين، وأنّ الشّركات الّتي تتخلّى عنها تفقد مكانتها مهما بلغت جودة منتجاتها. ومع اتّساع رقعة الوعي وتطوّر التّكنولوجيا، سيواصل اقتصاد القصد أو اقتصاد النّوايا النّموّ ليصبح القاعدة الّتي تحكم الأسواق العالميّة. وهكذا يتّضح أنّ الاقتصاد الحديث لم يعد مقتصراً على الأرقام والأرباح، بل أصبح قائماً على النّيّة والشّفافيّة، ليغدي اقتصاد النّيّة محرّكاً أساسيّاً يعيد تشكيل سلوك المستهلكين ويرسم ملامح مستقبل الأعمال.

  • الأسئلة الشائعة

  1. ما الفرق بين اقتصاد النية والتسويق التقليدي؟
    يقوم التّسويق التّقليديّ على التّرويج المباشر للمنتجات والخدمات بالاعتماد على السّعر والجودة والإعلانات، بينما يقوم اقتصاد النية على كشف نوايا الشّركة الحقيقيّة والالتزام بالقيم والشّفافيّة في الممارسات. بذلك يبني الاقتصاد الجديد علاقة ثقةٍ طويلة الأمد تتجاوز مجرّد البيع السّريع.
  2. هل ينجح اقتصاد النية في الأسواق النامية مثل نجاحه في الأسواق المتقدمة؟
    ينجح اقتصاد النية بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ففي الأسواق المتقّدمة يولي المستهلك أهميّةً كبيرةً للقيم والشّفافيّة، بينما يركّز المستهلك في الأسواق النّامية غالباً على السّعر المباشر. ومع ذلك، يزداد وعي المستهلكين تدريجيّاً في كلّ مكانٍ، ممّا يعزز فرص انتشار هذا النّموذج حتّى في الأسواق الأقلّ تطوّراً.
تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 5 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: