من السخرية إلى النجاح: كيف صنعت ماريا برونا علامتها المميزة؟
حين تحوّلت لحظة سخريةٍ في فعاليةٍ مهنيّةٍ بدبي إلى شرارة نجاحٍ، أثبتت ماريا برونا أنّ الإصرار يمكن أن يحوّل أبسط الأفكار إلى مشروعٍ ناجحٍ يغيّر النّظرة نحو ريادة الأعمال

كان من المفترض أن تكون مجرّد مقدّمةٍ عابرةٍ، إلّا أنّ الوضع تغيّر حين أعلنت "ماريا برونا" (Maria Pruna)، مالكة شركة "ماي كار كير" (My Car Care) في الشارقة، خلال حدثٍ تواصليٍّ في دبي أنّها تدير مشروع غسيل سياراتٍ؛ فعندها، ضحك الشّخص المقابل لها.
استرجعت ماريا برونا لاحقاً تلك اللّحظة في منشورٍ لها على لينكد إن قائلةً: "استهانت بالمبلغ واعتبرته شيئاً تافهاً لا يستحقّ اهتمامها. وعندما سألتها عن سبب ضحكها، لم تُجب. كانت اللّحظة صعبةً ومحفوفةً بالإحراج. لم أحضر ذلك الحدث ليُحكم عليّ، بل جئت لأتعلّم وأنمو".
سرعان ما لامست قصّتها القلوب على الإنترنت، وانتشر منشورها بسرعةٍ، لتسلّط الضّوء على ما هو أبعد من تجربتها الشّخصيّة، موجّهةً سؤالاً أوسع: لماذا نستهين أحياناً بالأعمال التّجاريّة لمجرّد حجمها أو بساطتها الظّاهريّة؟
في مقابلةٍ مع "عربيةInc. "، أعادت ماريا برونا طرح النّقاش حول تقدير الأعمال الصّغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء؛ فقالت: "في الإمارات، يميل النّاس إلى الانبهار بالأعمال البرّاقة والفاخرة، ويتجاهلون الشّركات الّتي يصفونها بالمملّة، مع أنّ لها الحقّ الكامل في أن تكون جزءاً فاعلاً من المشهد التّجاريّ". وأضافت: "الواقع أنّ هذه النماذج التجارية مربحةٌ ومؤهَّلةٌ للنّموّ المستدام. فمن المتوقّع أن يرتفع سوق خدمات غسيل السّيارات في الإمارات من 348.5 مليون دولارٍ في 2024 إلى 545.4 مليون دولارٍ بحلول 2030، بينما يُقدَّر حجم السوق على المستوى العالميّ بحوالي 59.26 مليار دولارٍ بحلول 2032 بعد أن كان 35.26 مليار دولارٍ في 2022. ولكن، يفتقد كثيرون هذه الفرص التّجاريّة الثّابتة بسبب ضيق النّظر والرّغبة في نتائج سريعةٍ واسعة النّطاق، متجاهلين إمكانات هذه القطّاعات الصّلبة".
مع ذلك، لا يعني هذا أنّ إدارة مشروع غسيل سيارات أمرٌ يسيرٌ. إذ تؤكّد ماريا برونا أنّ نجاح هذا النّوع من الأعمال يتطلّب وقتاً للنّموّ والتّوسّع، ليس فقط على صعيد تقديم الخدمات، بل أيضاً في بناء قاعدة العملاء؛ فتقول: "يتوقّع معظم النّاس إيراداتٍ فوريّةً بمجهودٍ ضئيلٍ. ولكن، الواقع أنّ غسيل السّيارات يحتاج إلى إدارةٍ مثل أيّ عملٍ آخر: تحتاج إلى شخصٍ لبناء العلامة التّجاريّة وحضورها على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وآخر لتطوير الأعمال وجذب العملاء الجدد، وثالث لوضع الاستراتيجيّات قصيرة وطويلة المدى. في حالتي، كلّ هذه الأدوار أقوم بها بنفسي، لأنّني لا أستطيع توظيف أحد سوى محاسبي ومدير الجودة". كما تشير برونا إلى أنّ محدوديّة الموارد والسّيولة النّقديّة -خاصّةً في السّنة الأولى- تتطلّب من أصحاب المشاريع بذل جهودٍ استثنائيّةٍ لضمان استمرار أعمالهم وتثبيت مكانتها في السّوق.
ماريا برونا ليست بغريبةٍ عن تحدّيات ريادة الأعمال؛ فقبل انتقالها إلى الإمارات، خاضت عالم المشاريع أثناء إقامتها في بلجيكا؛ فتقول: "بعد تجربة طلاقٍ مؤلمةٍ في 2022، بعت حصّتي في المنزل الّذي كنتُ أعيش فيه، وكان عليّ أن أقرّر: هل أستثمر مالي في شقةٍ ببلجيكا، أم في مشروعٍ تجاريٍّ؟" وتضيف: "لم يكن لديّ أيّ خبرةٍ سابقةٍ في إدارة الأعمال، لكنّني كنتُ بحاجةٍ إلى تغييرٍ. طوال حياتي، كنتُ 'مطيعةً'، أستمع للعائلة وللقواعد الاجتماعيّة، وأحاول الانسجام مع المجتمع باتّباع وصفة والديّ وأجدادي: تُنهي الجامعة، تتزوج، تشتري بيتاً، تبني أسرةً، وتعيش حياتك في مكانٍ وروتينٍ واحدٍ كلّ يومٍ. حياةٌ سهلةٌ ومستقرّةٌ. لكن هذه الوصفة أفرغت منزلي من الحياة، وأدخلتني في حالة اكتئابٍ، وأثقلت كاهلي بالمسؤوليّات. كنتُ أمام خيارين: إمّا الاستمرار في الطّريق الّذي تعلّمته طوال حياتي، أو خوض تجربةٍ جديدةٍ بالكامل رغم المخاطر؛ فاخترت الخيار الثّاني، وبمشاركة شريك حياتي، اشترينا أوّل مشروعٍ لغسيل السّيارات في بلجيكا".
اقتحمت رونا عالم ريادة الأعمال بخطوةٍ جريئةٍ، لكنّها اعترفت بأنّ العيش مع هذه المخاطرة كان تحدّياً مختلفاً تماماً؛ فتقول: "منذ اللّحظة الأولى، طُعنت قراراتي بالتّشكيك من قِبل العائلة والأصدقاء". وتضيف: "كانت متلازمة المحتال رفيقتي الدّائمة خلال الأشهر السّتة الأولى من إدارة الشركة."
ورغم ذلك، أصرّت رونا على المضي قدماً، وسرعان ما بدأت جهودها تؤتي ثمارها: اكتسبت ثقة العملاء، ونمت أعمالها، وارتكز المشروع على أسسٍ صلبةٍ. وتؤكّد قائلةً: "حين رأيتُ ثمرة جهودي، بدأتُ أثق بنفسي. ومع نموّ ثقتي، شعرتُ أنّ السّماء ليست سوى نقطة بدايةٍ."
مهّد هذا الإيمان العميق بنفسها الطّريق لخطوتها التّالية، عندما انتقلت من بلجيكا إلى الإمارات في مطلع هذا العام، واشترت غسّالة سيّاراتٍ في الشارقة وحوّلتها إلى مشروعها الجديد "ماي كار كير". تقدّم الشّركة خدماتٍ شاملةً تتراوح بين الغسيل التّقليديّ والتّلميع والتّشميع، وصولاً إلى تنظيف السّيارات الفاخرة والعناية بها في المنازل، وتمكّنت من بناء قاعدةٍ قويّةٍ من العملاء المخلصين، كما تصفها رونا.
بالنّظر إلى مسيرة رونا، يتضّح الآن لماذا تركت تلك اللّحظة في فعاليّة التّواصل المهنيّ في دبي أثراً عميقاً عليها، ولماذا قرّرت تحويلها إلى تأمّلٍ عامٍّ على وسائل التّواصل الاجتماعيّ. تقول رونا: "كان منشور لينكدإن ينبع من وعيي بأنّ هذا الموقف قد يتكرّر مع أيّ سيدة أعمالٍ أخرى، وأنّ من واجبي فضح هذا النّوع من السّلوكيّات."
وتضيف: "أردت أن أكون صوتاً يشجّع رائدات الأعمال على الدّفاع عن أنفسهنّ في لقاءات العمل، حتّى أمام أشخاصٍ قد يحاولون ترهيبهنّ. كنت أسعى لأن أكون نموذجاً حيّاً، يوضّح كيف تستطيع امرأةٌ تدير غسّالة سيّاراتٍ أن تبني علامةً تجاريّةً لمشروعها، رغم محاولات إسكاتها أو التّنمّر عليها أو السّخرية منها".
قرّرت رونا مشاركة تجربتها على وسائل التّواصل الاجتماعيّ لتذكير زميلاتها في عالم الأعمال بعدم السّماح لأيّ شخصٍ بتقليل شأن جهودهنّ في ريادة الأعمال. لكنّها لم تكن تتوقّع أبداً مدى الصّدى الّذي سيحدثه منشورها؛ فتقول: "لم أحلم يوماً بأن يتحوّل منشوري إلى ظاهرةٍ انتشاريّةٍ، وأن يثير كلّ هذا الكمّ من التّفاعلات، خصوصاً في قسم التّعليقات."
وتتابع: "بيّن هذا التّفاعل لي مدى اهتمام النّاس بهذا الموضوع؛ فهم يتّفقون جميعاً على أنّ السّلوكيّات السّيئة والتّعاملات الاستهتاريّة لا مكان لها في بيئة العمل. كان هدفي من المنشور إشعال نقاشٍ جادٍّ حول آداب التّعامل في الأعمال، لا سيّما في فعاليّات التّواصل المهنيّ، وكذلك تسليط الضّوء على التّحدّيات الّتي تواجه رائدات الأعمال في الإمارات عند بدء مشاريعهنّ. وأردت أن يكون هذا دافعاً لمزيدٍ من القيادات النّسائيّة للانضمام إلى الحوار، والتّحدّث عن تجاربهنّ ومسيرتهنّ المهنيّة في الإمارات. فرائدات الأعمال غالباً ما يكنّ الأكثر هشاشةً أمام الرّفض والسّخريّة، وأقلّ حظّاً في أن يُؤخذن على محمل الجدّ، خصوصاً عندما يملكن مشروعاً تقليديّاً في صناعةٍ يغلب عليها الطّابع الذّكوريّ".
لقد قلبت هذه التّجربة مسار تفكير رونا بالكامل فيما يخصّ حضورها في دوائر ريادة الأعمال اليوم. ففي الماضي، كانت تتردّد قبل أن تتحدّث عن الصّعوبات الّتي تواجهها في إدارة مشروعها، أمّا الآن فباتت تقف بثقةٍ لتسلّط الضّوء على كلّ الجهد الّذي تبذله في بناء مشروعها؛ فتقول: "مشروعنا ليس مجرّد وجودٍ على الإنترنت، بل هو كيانٌ تقليديٌّ فعليٌّ، وعملاؤنا لا يجدوننا بسهولةٍ؛ أحتاج إلى ثلاثة أضعاف الوقت والجهد للتّرويج لعلامتي التّجاريّة."
وتتابع: "لذلك، عندما أجد نفسي جالسةً في ركن الغرفة في المرّة القادمة، في انتظار أن يُعرّفوا بي في فعاليّةٍ للتّواصل المهنيّ، أرجو أن تأخذوا الوقت الكافي لفهم طبيعة عملي قبل التّقليل من قيمته. ففي النّهاية، نحن من نحافظ على سياراتكم نظيفةً، لامعةً، وجاهزةً لتترك الانطباع الصّحيح أمام العملاء، وكلّ ذلك بهدف إتمام الصّفقة الّتي قد تصل قيمتها إلى مليون دولارٍ".
بعد أن اجتازت رونا حقبةً من الشّكوك، والتّقليل من شأنها، ومتطلّبات الحفاظ على مشروعها حيّاً، أصبحت أكثر وضوحاً بشأن ما يجب أن يتمسّك به كل رائد أعمالٍ أثناء بناء مشروعه؛ فتقول: "على المؤسّسين ألّا يتخلّوا أبداً عن الإيمان بمشاريعهم الصّغيرة، خصوصاً في مراحلها الأولى، مهما واجهوا من تعليقاتٍ سلبيّةٍ أو غياب الثّقة في منتجهم أو خدمتهم."
وتضيف: "يجب أن يكرّسوا أنفسهم بالكام -100%- كلّ يومٍ، لأعمالهم، وأن يواصلوا التّرويج لها بلا كللٍ أو مللٍ. فبعض النّاس يبيعون مشاريعهم بخسارةٍ بعد عامٍ واحدٍ، لمجرّد أنّهم لا يريدون أن يلتزموا بها. لذلك، نصيحتي الذّهبيّة هي أن يخرجوا إلى الشّوارع، يحضروا فعاليّات التّواصل المهنيّ والمؤتمرات، يتحدّثوا إلى الجيران والأصدقاء، ويبنوا حضوراً متيناً لعلامتهم التّجاريّة على الإنترنت. يبدو هذا سهلاً، لكن معظم روّاد الأعمال يتوقّعون النّتائج دون جهدٍ حقيقيٍّ. امضوا بلا كللٍ؛ فقد يأتيكم عميلٌ واحدٌ من الطّراز الرّفيع، ليشكّل نقطة الانطلاق الحقيقيّة لمشروعكم الّذي سيحلّق إلى آفاقٍ جديدةٍ."