ما وراء البريق: هل تكشف المطابخ المتواضعة سر النكهات في دبي؟
تستكشف عرفة أحمد، المتخصّصة بسرد قصص الطّعام، ملامح الثّقافة الغذائيّة في دبي عبر مطابخها المحليّة ومطاعمها التّقليديّة، لتروي التّاريخ والثّقافة المخبّأة وراء كلّ وجبةٍ

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.
في مدينةٍ تتنافس فيها المطاعم الحاصلة على نجوم ميشلان على جذب الزّبائن، ويُرفع فيها مستوى الطّعام الرّاقي إلى أعلى المعايير، تروي عرفة أحمد قصّةً مختلفةً عن الطّعام.
تقول أحمد، المولودة في الهند والنّاشئة في دبي، لمجلة "عربية .Inc" إنّها رغم اعتبارها الإمارات موطناً لها منذ انتقال والديها في السّبعينيات، لم تكتشف شغفها بسرد قصص الطّعام إلا بعد قضاء 9 سنواتٍ في الدّراسة والعمل بالولايات المتّحدة. فعند عودتها إلى دبي في 2010، بدأت مدونةً للطّعام لتوثّق رحلتها في إعادة اكتشاف المدينة. وتستذكر قائلةً: " آنذاك، كان التّركيز منصبّاً على المطاعم الرّاقية والنّمط الغربيّ في الطّهي، بينما ظلّت ثقافات الطّعام العميقة الّتي تزدهر في أرجاء المدينة مهمّشةً؛ فقد تجاهلنا المطاعم الصّغيرة في الأحياء القديمة، ومطابخ الشّرق الّتي تحمل إرثاً غنيّاً، والأماكن اليوميّة الّتي اكتفت بإطعام النّاس بصدقٍ وهدوءٍ، بعيداً عن أضواء الجوائز والشّهرة".
تقول أحمد إنّ تلك المدونة شكّلت البذرة لكلّ ما تلاها من مشاريع، بدءاً من إطلاقها شركة Frying Pan Adventures مع شقيقتها فريدة عام 2013، الشّركة الّتي تقدّم جولاتٍ لتذوّق الطّعام في دبي، مروراً بمساهماتها المستمرّة في المنشورات حول التّراث الغذائيّ، واستكشافها لقصص الطّعام في دبي من خلال مشاركتها في تقديم بودكاست Deep Fried، وصولاً إلى ظهورها في برامج الطّعام عبر منصّاتٍ مثل: Travel Channel وNetflix . وتضيف أحمد: "أصبح كلّ مشروعٍ بوابةً جديدةً للبحث والسّرد. بالنّسبة إليّ، أن تكون راوٍ للطّعامٍ لا يعني التّوقّف عند الطّبق، بل فهم التّاريخ والمجتمع والطّقوس وأصل الكلمات وحتّى السّياسة المرتبطة بالطّبق، إذ يمكن لطبقٍ واحدٍ أن يكشف كنزاً من القصص إذا كنت مستعدّاً لطرح الأسئلة الصّحيحة".
أطلقت أحمد مشروعها الأحدث، Ditch the Silver، وهي سلسلةٌ على يوتيوب من إنتاج شركة Ti22 Films في دبي، ويُعرَض كذلك على شبكة التّرفيه الإقليميّة OSN. يعرض المشروع على الشّاشة تجربةً مماثلةً لتلك الّتي تقدّمها شركة Frying Pan Adventures لزوّار المدينة وسكّانها، حيث يُمكن للمشاهدين الانغماس في تجربة الطّعام والثّقافات المحليّة بطريقةٍ حيّةٍ وتفاعليّةٍ. وتصف أحمد السّلسلة بأنّها تجربةٌ رقميّةٌ تحاكي نوع التّجارب الغذائيّة الّتي تقدّمها جولاتها المباشرة مع شركة Frying Pan Adventures. ولا ترى في هذا المشروع انفصالاً عن مسيرتها السّابقة، بل بداية فصلٍ جديدٍ يستمرّ في استكشاف الموضوعات نفسها، مع اتّساع نطاقه وتوسّع تغطيته؛ فتقول: "أدعو النّاس للخروج معي لاستكشاف ثقافات الطّعام في أرجاء المدينة، وغالباً ما يعني ذلك الابتعاد عن الصّورة المصقولة لدبي الّتي اعتدنا رؤيتها".
تدعو أحمد جمهورها للاحتفاء بالقصص الغذائيّة المتواضعة والغنيّة ثقافيّاً في دبي، تلك القصص الّتي غالباً ما تبقى بعيدةً عن الأضواء الإعلاميّة؛ فتقول: "أعتقد أنّ أجمل قصص الطّعام تختبئ في زوايا بسيطةٍ من المدينة، وقد لا تصل هذه القصص أبداً إلى أدلّة السّفر الفاخرة، لكنّها تحمل في طيّاتها نكهاتٍ وثقافةً وروابط عاطفيّةً عميقةً بالطّعام. أمّا الجانب الرّاقي للطّعام مهمٌّ ومليءٌ بالشّغف، لكنّه يحظى بالفعل بكلّ الأضواء، في حين أنّني أسعى إلى تقديم تجربةٍ مختلفةٍ لدبي، تعكس طفولتي البسيطة حيث تُعاش الحياة بأصالةٍ وتواضعٍ، وتكشف للنّاس وجهاً آخر للمدينة، أقرب إلى الواقع والإنسانيّة".
لقد شكّلت خلفية أحمد أساساً قويّاً في رحلتها كراويةٍ للطّعام، وهي تعترف بأنّ مفهوم "المحليّ" في مدينةٍ عالميّةٍ مثل دبي لا يقتصر على مطبخٍ واحدٍ. وتشدّد على أنّ التّجربة المحليّة الحقيقيّة تعني تقدير الطّيف الكامل للثّقافات الموجودة في المدينة؛ فتقول: "يمكنك أن تبدأ اليوم بفطورٍ تركيٍّ، وتتناول غداءً بيروفيّاً، وتنهيه بعشاءٍ إندونيسيٍّ، ومع ذلك سيظلّ هذا يوماً نموذجيّاً لدبي. لا يوجد قالبٌ واحدٌ للطّابع المحليّ، ويكمن جمال المدينة في تنوّعها". وتضيف أحمد أنّ التّجربة المحليّة تتجاوز مجرّد الأطباق، لتتجسّد في القدرة على اكتشاف الأماكن الأقلّ شهرةً والزّوايا المخفية الّتي لا يعرفها كثيرون؛ فتقول: "بالنّسبة إليّ، يعني الأكل المحليّ معرفة كيف أتنقلّ بين الزّوايا الصّغيرة والمطاعم المخفيّة الّتي نادراً ما تُدرج في خطط السّياح. سواء كانت أزقّةً قرب السّوق أو أماكن مخفيّةً في الكرامة، فإنّ المحليّ يشعر بالرّاحة عند عبوره إلى الجانب القديم من المدينة، واستكشاف الأماكن الّتي صمدت بصمتٍ أمام اختبار الزّمن".
شاهد أيضاً: أهمية بنوك الطعام في تعزيز التنمية المستدامة،
ينبع جوهر عمل أحمد من قناعتها بأنّ رواية الطّعام لا تقتصر على حفظ الوصفات، بل تشمل أيضاً الحفاظ على الطّقوس والممارسات المرتبطة بها، إذ يتركز معظم عملها على استكشاف التّراث الغذائيّ وحمايته. وترى أنّ الطّعام يشكّل رابطاً حيّاً بالأجيال السّابقة، فلا يقتصر على الوجبات اليوميّة، بل يرافقنا في أهمّ اللّحظات الحياتيّة: الاحتفالات، وطقوس الانتقال، والتّجمعات العائليّة؛ فتوضّح قائلةً: "عندما أفهم الصّورة الكاملة لأيّ طبقٍ -كيف نشأ، متى يُقدّم، وما دوره في الثّقافة- أجد نفسي أكثر ارتباطاً عاطفيّاً به، وأدرك سحره الخفيّ. خذوا القهوة العربيّة، على سبيل المثال؛ فهي ليست مجرّد مشروبٍ، بل تشكّل محور طقوس الضّيافة الإماراتيّة، وعروض الزّواج. ولا يقتصر الأمر على الإمارات فقط؛ فلكلّ مجتمعٍ طريقته الخاصّة في التّعبير عن الضّيافة عبر الطّعام، وهو ما يضفي طابعاً فريداً على كلّ تجربةٍ".
ومن هنا تأتي أهميّة استكشاف الأماكن والأطباق الأقلّ شهرةً، حيث يمكن اكتشاف التّراث المخفي خلف كلّ طبقٍ. وتشرح أحمد قائلةً: "أثناء تصوير سلسلتنا Ditch the Silver، تعرّفت على المزيد من هذه القصّص: كيف يحضّر الأوزبك أنواعاً مختلفةً من البلوف للاحتفالات الكبيرة، وكيف لا يكتمل أيّ احتفالٍ في نيجيريا دون الجولوف رايس، وكيف كان سمك الماكريل المحشوّ على طريقة غوا نتيجةً للاحتلال البرتغاليّ".
تتجاوز أهميّة الطّعام كونه طقساً للاحتفال بالمناسبات أو وسيلةً لتخليد التّاريخ، لتصبح محوراً رئيسيّاً في استدعاء الذّكريات والحنين إلى الماضي. فتقول موضّحةً: "الطّعام ليس مجرّد مكوّناتٍ، بل يعكس العائلة، والتّاريخ، والسّياسة، والهجرة، والثّقافة؛ وهذا ما أسمّيه "عامل الجدّة"، لأنّه عندما يتحدّث النّاس عن طبقٍ أحبّوه من جدّتهم، لا يتعلّق الأمر أبداً بمجرّد الطّعم، بل بالشّعور والذّكريات المرتبطة بشخصٍ أو مكانٍ أو لحظةٍ معيّنةٍ. هذه العلاقة العاطفيّة هي ما أحرص على الحفاظ عليه".
وتستثمر أحمد هذا الارتباط العاطفيّ كأداةٍ إرشاديّةٍ من نوعٍ خاصٍّ، تساعد النّاس على استكشاف المدينة عبر الطّعام، والأماكن الّتي تقدّمه كنقاطٍ مرجعيّةٍ على الطّريق؛ فتقول: "في صلب هذه العمليّة، تكمن القدرة على نسج القصص الّتي تحرّكهم بطريقةٍ تشبه الحنين. كبشرٍ، نحن بطبيعتنا متجاوبون مع القصّص. لذلك، إذا عرفت كيف تحكي قصّة الطّعام بشكلٍ جيّدٍ، لا يمكنك فقط استثارة خيال النّاس، بل أيضاً التّأثير على الطّريقة الّتي يكتشفون بها المدينة ويتناولون طعامها. وأفضل دليلٍ على ذلك هو عندما أتلقّى تعليقاً من مسافرٍ أو ساكنٍ يقول إنّهم شعروا بالإلهام لزيارة مطعمٍ عرضته، وأنّهم وقعوا في حبه هم أيضاً".
رغم اهتمام أحمد العميق بالاحتفاء ببساطة الطّعام وتراثه الّذي تعرضه باستمرارٍ من خلال مشاريعها، تدرك أنّ الإشباع بالنّسبة للكثيرين يرتبط بالبذخ والفخامة. لكن لأولئك المتذوّقين والمسافرين الفضوليّين الّذين يسعون إلى اكتشاف آفاقٍ جديدةٍ، تقدّم قصص أحمد تجربةً متكاملةً تمزج بين الماضي والحاضر، وتُعيد للنّكهات المنسيّة مكانتها في المشهد الثّقافيّ؛ فتقول: "في مدينةٍ تفتح فيها مطاعمٌ جديدةٌ كلّ أسبوعٍ، وحيث تسيطر الاتّجاهات الفيروسيّة على المحادثات اليوميّة، يصبح إحياء النّكهات القديمة وسيلةً للحفاظ على حضور الثّقافات العريقة. فالأشياء الّتي لا يُتحدّث عنها، والّتي لا تدخل في مفرداتنا اليوميّة، سرعان ما تُنسى وسط كلّ هذا الضّجيج. ولكن عندما تُحكى قصّة الطّعام بإتقانٍ، فإنّها لا تجذب النّاس فحسب، بل تدفعهم لاستكشاف المدينة بأعينٍ جديدةٍ، وتحوّل كلّ طبقٍ إلى بوّابةٍ للذّكريات والتّجارب، ومرآةٍ للتّاريخ والثّقافة".