الرئيسية الريادة حين تتحدث البيانات: من هو مؤسس الشركة الناجحة؟

حين تتحدث البيانات: من هو مؤسس الشركة الناجحة؟

رغم هيمنة صورة المؤسّس الشّاب في الإعلام، تكشف البيانات أنّ النّضج والخبرة والتّعليم والموقع الجغرافيّ عوامل حاسمةٌ في فرص نجاح الشّركات النّاشئة

بواسطة فريق عربية.Inc
images header

هذا المقال متوفّرٌ باللّغة الإنجليزيّة من هنا.

تحوّلت الصّورة النّمطيّة لمؤسّسٍ شابٍ في 20 من عمره، يرتدي سترةً بغطاء رأسٍ، ويُشيّد شركةً ناشئةً تقدّر قيمتها بمليار دولارٍ من داخل غرفته في السّكن الجامعيّ، إلى أيقونةٍ ثقافيّةٍ معاصرةٍ تُحاط بهالةٍ من الإعجاب والاحتفاء. وتتوالى القوائم الّتي تُمجّد هذه النّماذج، كـ قائمة "الثلاثين تحت الثلاثين" (30 Under 30)، وتتنافس المجلات العالميّة في تسليط الأضواء على شبابٍ يُقدَّمون بوصفهم رموزاً للابتكار، وروّاداً يكسرون التّقاليد ويعتلون مسرح ريادة الأعمال بخطىً متسارعةٍ.

ولا ريب أن عدداً من ألمع روّاد الأعمال في عصرنا المعاصر سطعت نجومهم في سنٍ مبكرةٍ؛ فمارك زوكربيرغ أطلق "فيسبوك" وهو لم يتجاوز 19 من عمره، من داخل أسوار جامعة هارفارد، وبيل غيتس ترك مقاعد الدّراسة في 20 ليؤسّس "مايكروسوفت" (Microsoft)، في حين شرع إيلون ماسك في تأسيس "Zip2" وهو في الثانية والعشرين، أمّا بول غراهام، المؤسّس الشّريك لحاضنة "واي كومبيناتور" (Y Combinator)، فيردّد باستمرارٍ أن ّ"العمر الذي يُفقد فيه اهتمام المستثمرين بك هو 32 عاماً".

ولكن وسط هذا السّرد المُنمّق، يبرز تساؤلٌ جوهريٌّ: هل النّجاح حكرٌ على المبتدئين فعلاً؟ الواقع الإحصائي يُكذّب هذه الرّواية؛ فالبيانات، بوضوحها وصرامتها، ترسم صورةً مغايرةً تماماً.

الأرقام تروي قصة مختلفة

وفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركيّ، واحدةٌ من كلّ خمس شركات ناشئة تُمنى بالفشل سنويّاً. وعند النّظر إلى قصص النّجاح الكبرى، نجد أنّ كثيراً منها ينتمي إلى مؤسّسين تجاوزوا عتبة العشرينيات بسنواتٍ. فما الّذي يُرجّح كفّة النّجاح إذاً؟

هل يُعادل الشباب النجاح؟

إحصائيّاً: لا. ففي دراسةٍ نُشرت في Harvard Business Review، تَبيّن أنّ متوسّط عمر مؤسّس الشّركة النّاشئة النّاجحة هو 45 عاماً، بل وتشير دراساتٌ موازيةٌ إلى أنّ احتمال أن يُطلق الشّخص مشروعاً ناجحاً عند سنّ الأربعين يفوق نظيره في الخامسة والعشرين بما يعادل 2.1 مرّة. غير أنّ هذه الأرقام لا تنطق بحقيقةٍ واحدةٍ؛ بل تتلوّن بحسب طبيعة القطّاع. فشركات البرمجيّات مثلاً غالباً ما تستقطب مؤسّسين في سنٍّ أصغر، بمتوسطٍ يقارب الأربعين، بينما تتطلّب ميادين أخرى -كصناعات النّفط والغاز أو التّكنولوجيا الحيويّة- خبراتٍ أعمق، وغالباً ما يقف خلفها مؤسّسون تجاوزوا السّابعة والأربعين من أعمارهم. أمّا الصّناعات الموجّهة مباشرةً للمستهلك، وفي مقدّمتها منصّات التّواصل الاجتماعيّ، فتظلّ بطبيعتها أكثر جذباً للعقول الشّابة.

ورغم هذا التّنوّع، لا تزال النّظرة السّائدة في أوساط رأس المال الاستثماريّ تميل إلى المفاضلة لصالح المؤسّس الشاب، ذلك "المتّقد الذهن"، الّذي لا تثقله التزاماتٌ أسريّةٌ، ولا تُشغله قيود الحياة، فيُقبِل على المشروع بكلّ طاقته، مدفوعاً باعتقادٍ راسخٍ بأنّ الشّباب مرادفٌ للتّجدّد، والابتكار، والاستعداد للمخاطرة.

لكن على الضفّة المقابلة، كثيراً ما تُحمّل الخبرة -والعمر معها- صفاتٍ مجحفةً؛ فتُربط بالجمود، أو بالتّردّد، أو بانخفاض القدرة على التّكيّف، في حين أنّ البيانات تُفنّد هذا التّصوّر، وتُعيد الاعتبار للخبرة بوصفها رصيداً لا يُقدّر بثمنٍ. فلئن خُصِّصت الأضواءُ للمبتدئين، فإنّ دفّة النّجاح، في كثيرٍ من الأحيان، تُمسَك بحكمة أصحاب التّجربة.

الخبرة: ميزة تنافسية حقيقية

إذا كان متوسّط عمر المؤسّس النّاجح يناهز منتصف الأربعينات، فما السّرّ الكامن خلف هذا النّضج؟ الجواب باختصارٍ: الخبرة التّراكميّة. عند هذا المفصل، تبدأ الحكاية الرّومانسيّة حول الشّباب والمعجزات في التّصدّع. صحيحٌ أنّ كثيراً من الأسماء اللّامعة في عالم ريادة الأعمال قد شقّوا طريقهم في سنٍ مبكّرةٍ، غير أنّ إنجازاتهم الأكثر تأثيراً ونضجاً لم تشرق إلّا في مراحل لاحقةٍ من أعمارهم. فها هو ستيف جوبز، الّذي شارك في تأسيس "آبل" (Apple) وهو في الحادية والعشرين، لم يُطلق منتج الشّركة الأيقونيّ "آيفون" (iPhone)، الّذي أعاد رسم ملامح التّكنولوجيا الحديثة، إلا وهو في الثّانية والخمسين. ورونالدو موشاوار، أسّس "سوق.كوم" (Souq.com) في سنّ السّابعة والثّلاثين، قبل أن يُتوّج هذا الجهد باستحواذ "أمازون" (Amazon) على المنصّة في صفقةٍ فارقةٍ. أمّا هنري نستله، فكان في عامه الثّاني والخمسين عندما قدّم منتجه الغذائيّ الأوّل، الّذي سيحمل اسمه ويصبح لاحقاً رمزاً عالميّاً في الصّناعة.

إنّ العمر لا يُقاس بعدد السّنين فحسب، بل بما يراكمه من بصيرةٍ إداريّةٍ، ونضجٍ ماليٍّ، ودرايةٍ دقيقةٍ بتعقيدات العمل المؤسّسي؛ فالمؤسّسون الّذين قضوا أعواماً في ميادين محدّدةٍ لا يملكون المعرفة فحسب، بل يُحسنون توظيفها؛ فهم يستندون إلى رصيدٍ من العلاقات الواسعة -مع المستثمرين، والموجّهين، والعملاء المحتملين- ويمتلكون من الحنكة ما يُجنّبهم أخطاء البداية، ويُهيّئهم لاقتناص الفرص حين تلوح. بل تشير الأرقام إلى ما هو أبعد من ذلك: روّاد الأعمال الذين سبق لهم تأسيس شركاتٍ تزيد احتمالات نجاحهم بنسبة 50% عند إطلاقهم مشروعاً جديداً، مقارنةً بأولئك الذين يقتحمون المجال للمرّة الأولى.

وما يجدر التّنويه إليه أنّ أصحاب التّجربة لا يفتقرون إلى المرونة كما يُروّج، بل هم غالباً أسرع في التّعلّم، أقدر على التّكيّف، وأعمق فهماً لتقلّبات السّوق.

التعليم: أساس لا يمكن تجاهله

تبدو قصّة «مراهقٍ نابغةٍ يترك الدّراسة ليبني إمبراطوريّةً بمليار دولارٍ» أكثر إثارةً وجاذبيّةً من سرد حكاية «رجلٍ حاصلٍ على شهادةٍ من جامعةٍ مرموقةٍ يحقّق نجاحاً تجاريّاً مستداماً». ونحن مفتونون بحكايات التّمرّد وكسر القواعد، مثل قصة ريتشارد برانسون الّذي تحدّى النّظام، لكن الحقيقة التي تكشفها الأرقام والحقائق تفيد بأنّ معظم المؤسّسين النّاجحين كانوا طلّاباً مجتهدين، نالوا شهاداتٍ جامعيّةً، واستفادوا بوضوحٍ من منظومة التّعليم العالي.

تُشير الدّراسات بوضوحٍ إلى الدّور المحوريّ للتّعليم في تعزيز فرص نجاح الشّركات النّاشئة؛ إذ إنّ 92% من مؤسّسي شركات التّكنولوجيا في الولايات المتّحدة يحملون شهادة بكالوريوس على الأقل، وأكثر من نصفهم (56%) يمتلكون درجاتٍ متقدّمةً. هذه الخلفية التّعليميّة تزوّدهم بمهارات التّفكير التّحليليّ، وحلّ المشكلات، والمعرفة التّقنية الضّروريّة لتأسيس شركاتهم وتوسيع نطاقها بثقةٍ واحترافيّةٍ.

وليس هذا فحسب، بل إنّ التّعليم يشكّل جسراً نحو بناء شبكات دعمٍ متينةٍ وفرص تمويلٍ حيويّةٍ؛ فقد خرجت العديد من قصص النّجاح من حاضناتٍ جامعيّةٍ وبرامج متخصّصةٍ، تقدّم الإرشاد والتّوجيه، وتوفّر التّمويل، وتفتح الأبواب أمام الباحثين والمواهب المتميّزة. ومن أبرز هذه البرامج: «StartX» في جامعة ستانفورد، و«MIT Sandbox»، و«مركز ريادة الأعمال» بجامعة نيويورك.

واللّافت أنّ المؤسّسين ذوي الخلفيّات الأكاديميّة يهيمنون بوضوحٍ في قطّاعاتٍ تقنيةٍ متقدّمةٍ، مثل: الذكاء الاصطناعي، والتّكنولوجيا الحيويّة، والتّكنولوجيا الماليّة، حيث لا يقبل النّجاح دون التّخصّص والخبرة العميقة.

في النّهاية، لا يمكن النّظر إلى التّعليم كترفٍ أو خيارٍ ثانويٍّ، بل هو الأساس المتين الّذي يرتكز عليه أغلب المؤسّسين النّاجحين، وحجر الزّاوية في بناء قصص النّجاح الحقيقيّة.

الموقع الجغرافي: العامل المُغفل

الخبرة والتّعليم وحدهما لا يكفيان لضمان النّجاح؛ فاختيار المؤسّس لموقع انطلاق شركته يلعب دوراً حاسماً في فرص نجاح المشروع؛ فبيئات الابتكار ليست متساويةً، إذ تختلف مستويات التّمويل، والبنية التّحتيّة، والدّعم الحكوميّ، وحاضنات الأعمال بشكلٍ كبيرٍ من منطقةٍ إلى أخرى. خذ على سبيل المثال «سيليكون فالي»؛ هذه البيئة المشبعة برأس المال، والمواهب، والخبرة، والتّنظيمات الدّاعمة، إضافةً إلى ثقافةٍ تشجعّ على المخاطرة والفشل والابتكار، تجعلها واحةً مثاليةً لروّاد الأعمال.

أمّا في منطقة الشّرق الأوسط، فقد بدأت الإمارات العربيّة المتّحدة، وبالأخصّ مدن دبي وأبوظبي والشّارقة، في ضخّ استثماراتٍ ضخمةٍ في بنية ريادة الأعمال عبر مبادراتٍ رائدةٍ مثل: «Dtec»، و«Hub71»، و«DIFC FinTech Hive»، الّتي توفّر للمؤسّسين سهولة الوصول إلى التّمويل، والإرشاد، وشبكات الدّعم الحيويّة. وقد ساهمت هذه البيئة الدّاعمة في بروز قصص نجاحٍ ملهمةٍ مثل: «Careem»، و«Kitopi»، و«Fetchr».

مَن هو المؤسس الأكثر احتمالاً للنجاح؟

رغم أنّ العناوين الإعلاميّة تميل إلى تسليط الضّوء على روّاد الأعمال الشّباب، وتحتفي بمن يقتحمون عالم الأعمال في مقتبل العمر، إلّا أنّ الصّورة الّتي ترسمها البيانات تختلف جذريّاً عن هذا السّرد الرّومانسيّ. فبحسب ما كشفته أبحاث Harvard Business Review، فإنّ من يتمتّعون بالحظوة الحقيقيّة في مشهد الشّركات النّاشئة ليسوا بالضّرورة الأصغر سنّاً، بل أولئك الّذين يجمعون بين خبرةٍ عمليّةٍ متراكمةٍ، وتعليمٍ أكاديميٍّ راسخٍ، وموقعٍ جغرافيٍّ استراتيجيٍّ يمدّهم بالدّعم والتّمويل والفرص.

ومع التّحوّلات المتسارعة الّتي يشهدها مشهد ريادة الأعمال حول العالم، لعلّ الوقت قد حان لتفكيك أسطورة "العبقريّ الشّاب"، الّتي كثيراً ما تُروى على حساب الحقيقة. لقد آن الأوان لتوجيه الأضواء نحو المؤسّسين الّذين يحملون معهم رؤيةً ناضجةً، وخبرةً ميدانيّةً، واتّزاناً استراتيجيّاً يُترجم الأفكار إلى إنجازاتٍ مستدامةٍ.

عن الكاتب

هانس كريستنسن ليس مجرّد اسمٍ في عالم ريادة الأعمال، بل هو أحد مهندسي المنظومات الرّياديّة في المنطقة. يشغل حاليّاً منصب نائب الرّئيس ومدير مركز دبي التّكنولوجي لريادة الأعمال (Dtec)، أكبر حاضنةٍ للشّركات التّكنولوجيّة النّاشئة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتّابعة لواحة دبي للسيليكون.

على مدى أكثر من عقدٍ، قاد كريستنسن مسيرة توسّع Dtec، داعماً أكثر من 2300 شركةٍ ناشئةٍ، ويحتضن اليوم نحو 1000 مشروعٍ من أكثر من 75 دولةً، ضمن بيئةٍ حيويّةٍ تحتضن قطّاعاتٍ محوريّةٍ تشمل التّنقّل، والرّوبوتات، والذّكاء الاصطناعيّ، والأمن السّيبرانيّ. رؤيته لا تقتصر على دعم الشّركات النّاشئة فحسب، بل تمتدّ إلى بناء منظومةٍ متكاملةٍ تُعزّز الاستدامة والابتكار على المدى الطّويل.

وقبل قيادته لـ Dtec، أدار كريستنسن حاضنة "سيمنز إن كيوباتور" (Siemens nCubator)، وخاض بنفسه تجربة ريادة الأعمال، حيث أطلق ثلاث شركاتٍ ناشئةٍ استطاعت جمع استثماراتٍ تفوق 10 ملايين دولارٍ. أمّا من حيث التّأهيل الأكاديميّ، فهو يحمل درجة البكالوريوس من "جامعة بنتلي" (Bentley University)، ودرجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة "هالت الدّوليّة للأعمال" (Hult International Business School)، في مزيجٍ يجمع بين الرّؤية الميدانيّة، والخبرة الإداريّة، والتّكوين الأكاديميّ الرّاسخ. كريستنسن يُجسّد المثال الحيّ على أنّ الرّيادة لا تصنعها الأعمار، بل تُصقلها التّجارب، وتُثريها الرّؤية الاستراتيجيّة المتّزنة.

تابعونا على قناتنا على واتس آب لآخر أخبار الستارت أب والأعمال
زمن القراءة: 9 دقائق قراءة
آخر تحديث:
تاريخ النشر: