الثبات تحت الضغط: 5 استراتيجيات لمساعدة القادة على الازدهار في الأزمات
حين تضيق دوائر اليقين وتشتدّ الأزمات، لا يصبح النّجاح رهناً بالقدرات فحسب، بل بمرونة القائد وقدرته على الثّبات وسط العاصفة

في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات وتتوالى التّحدّيات على نحوٍ يضع القادة في قلب العاصفة، لم يعد الحديث عن الضّغوط أمراً استثنائيّاً، بل واقعاً يوميّاً يفرض نفسه بقوّةٍ. ومع ازدياد حدّة الإرهاق المهنيّ وارتفاع معدّلات الاحتراق الوظيفيّ، يبرز سؤالٌ جوهريٌّ: كيف يمكن للقادة أن يظلّوا صامدين، بل وأن يقودوا فرقهم نحو الازدهار وسط هذا الاضطراب؟ يكمن الجواب في "المرونة تحت الضغط"؛ تلك المهارة الّتي لا تُمنح بالوراثة، بل تُكتسب بالممارسة والتّدريب. وهنا تبرز 5 استراتيجيّاتٍ محوريّةٍ تفتح أمام القادة الطّريق لبناء قدرةٍ داخليّةٍ صلبةٍ، وصياغة فرق عملٍ أكثر تماسكاً وقوّةً في مواجهة الأزمات.
التّركيز على دائرة التّأثير
حين تعصف الأزمات، تميل المنظّمات إلى الشّعور بالعجز أمام قوىً كبرى خارجةٍ عن إرادتها: تقلّبات الاقتصاد العالميّ، التّوتّرات الجيوسياسيّة، أو الطّفرات التّكنولوجيّة الّتي تعيد تشكيل المشهد بوتيرةٍ متسارعةٍ. إذ يقع كثيرٌ من القادة في فخّ محاولة مواجهة هذه القوى، فيستنزفون جهدهم وجهد فرقهم في معارك خاسرةٍ. والحقيقة أنّ القيادة الرّشيدة لا تُقاس بقدرتها على وقف هذه التّيارات الجارفة، بل بوعيها بحدود الممكن، وتوجيه طاقتها نحو المساحات الّتي يمكن التّأثير فيها مباشرةً؛ فالتّركيز على ما بين يديك، لا على ما يفلت منك، هو أوّل مفاتيح الصّمود تحت الضّغط.
حين ينشغل القادة بما يتجاوز قدرتهم على التّأثير، يستنزفون طاقتهم في الفراغ، ويهدرون موارد كان يمكن استثمارها فيما يقع فعلاً تحت سيطرتهم؛ فالقوّة الحقيقيّة للقيادة لا تُقاس بقدرتها على مواجهة التّحوّلات الكبرى كالتّقلّبات الاقتصاديّة أو التّغيّرات الجيوسياسيّة أو الطّفرات التّقنيّة، بل بقدرتها على إدراك حدود الممكن، وتوجيه الانتباه نحو المساحات الّتي يُمكن التّحكّم فيها أو التّأثير عليها.
وهنا تبرز 3 أسئلةٍ تُشكّل بوصلةً لأيّ قائدٍ يبحث عن وضوح الرّؤية وسط العواصف:
- ما النّتائج الّتي نملك السّيطرة الكاملة عليها؟
- ما العوامل الخارجيّة الّتي نستطيع التّأثير فيها جزئيّاً عبر أفعالنا؟
- وأيّ قوى علينا الاعتراف بوجودها والتّكيّف معها كما هي؟
لا يعني الاعتراف بهذه الحدود التّخلّي عن الطّموح، بل يفتح المجال لتوجيه الطّاقة نحو تحقيق الأثر الأقصى؛ فعندما يتمكّن القادة من تحديد ما هو خارج نطاق السّيطرة بوضوحٍ، لا يكتفون برسم مساحات الفعل الممكنة، بل يؤدّون وظيفةً نفسيّةً بالغة الأهميّة: إذ يساعد هذا الاعتراف على تقبّل الحقائق الصّعبة، والحدّ من الإنكار والأمانيّ الحالمة الّتي كثيراً ما تُثقل كاهل القادة في أوقات الأزمات.
اتّباع الرّؤية التّمكينيّة
ليست الأزمة بحدّ ذاتها ما يكسِر عزيمة الفرق، بل الطّريقة الّتي يختار القادة من خلالها أن يروها ويُعيدوا صياغتها؛ فالقائد القادر على بثّ نظرةٍ مُحفِّزةٍ لا يلجأ إلى التّفاؤل الزّائف أو قلب الأخبار السّيئة إلى قصصٍ ورديّةٍ، بل يوازن بين الواقعيّة والشّفافيّة من جهةٍ، وبين بثّ روح الطّمأنينة والقدرة على الفعل من جهةٍ أخرى. فالمصارحة الصّادقة بتحدّيات اللّحظة هي أساس إدارة الأزمات، لكن فعاليّة القيادة تتجلّى في قدرتها على تحويل الخطر إلى فرصةٍ، والعقبة إلى حافزٍ.
حين وجدت شركة "أدوبي" (Adobe) نفسها أمام التّحوّل العاصف إلى الحوسبة السّحابيّة، لم تتعامل معه كتهديدٍ يطوي صفحة برامجها التّقليديّة، بل طرح قادتها سؤالاً مختلفاً: "كيف يمكن أن يفتح لنا هذا التّحوّل آفاقاً أوسع لبناء علاقةٍ أعمق مع عملائنا؟" وكانت الإجابة ولادة نموذج الاشتراك الرّقميّ الّذي غيّر وجه الشّركة ورفع أسهمها إلى مستوياتٍ قياسيّةٍ.
وبالنّهج نفسه، يستطيع القادة وسط الاضطرّابات السّوقيّة أن يسألوا: "أليس هذا هو الوقت المثالي لتسريع تحسيناتٍ طالما أجّلناها؟"، أو وسط شحّ الموارد أن يتساءلوا: "ما الذي يمكننا التّخلّص منه من تعقيداتٍ لم تعد تضيف قيمةً؟
وعندما تشتدّ الضّغوط التّنافسيّة، قد يتساءل القادة: "هل يمكن أن نكتشف قدراتٍ لم نكن ندرك وجودها في داخلنا؟" فإذا ما ترسّخ هذا النّمط من التّفكير في ثقافة المؤسّسة، يبدأ الأفراد تلقائيّاً في البحث عن فرصٍ للنّموّ وسط التّحدّيات ذاتها. وهكذا تنشأ ثقافةٌ مؤسسيّةٌ موجّهةٌ نحو التطوير المستمرّ، وهي بدورها تشكّل حجر الأساس لنجاحٍ مستدامٍ في عالمٍ يتّسم بعدم اليقين.
الحفاظ على الاتّجاه وتحفيز العمل
في أوقات الاضطراب، يواجه القادة تحدّياً جوهريّاً يتمثّل في توجيه الانتباه بعيداً عن مصادر القلق نحو ما يغذّي الحافز والطّاقة ويحفّز العمل الفعّال؛ فحين يسيطر الشّعور بالتّهديد، ينجرف النّاس نحو التّركيز على المخاطر ويضعف لديهم الشّعور بالابتكار والقدرة على التّكيف. هونا يبرز دور القائد الواعي الّذي يفهم الدّيناميّات النّفسيّة للتّهديد ويستثمرها في دعم الفريق.
يتمثّل السّلوك القياديّ الأوّل في وضوح الهدف: يجب أن يكون كلّ فردٍ في الفريق على درايةٍ دقيقةٍ بالأولويّات المؤسّسيّة والأهداف الجماعيّة، مع إعادة التّأكيد عليها باستمرارٍ لضمان تناغم الجهود وتحقيق التّكامل بين مختلف فرق العمل. أمّا السّلوك الثّاني، فيكمن في تعزيز الإيجابيّة بشكلٍ متواصلٍ. فالتّركيز على النّجاحات الصّغيرة والتّقدّم المحقّق، وبدء الاجتماعات بمراجعة المكاسب الأخيرة ومعالم التّقدّم والفرص الجديدة، يخلق بيئة عملٍ محفّزةً. وللحفاظ على الزّخم والرّوح المعنويّة، يصبح الاعتراف بمساهمات الفريق وتمجيدها ممارسةً دوريّةً، ما يمنح كلّ عضوٍ شعوراً بالقيمة ويشجّعهم على البذل المستمرّ.
لا تقتصر هذه الممارسات على التّخفيف من التّوتر، بل تحوّل الطّاقة السّلبيّة إلى دافعيّةٍ وإبداعٍ، وتضع الأساس لفريقٍ قادرٍ على مواجهة الأزمات بثقةٍ وفعاليّةٍ.
التوجّه نحو الخارج وبناء الرّوابط
في أوقات الأزمات، تميل النّفس البشريّة إلى الانغلاق والتّركيز على الذّات، ما يحدّ من القدرة على رؤية الصّورة الكبرى واتّخاذ القرارات الواعية. لذلك يبرز دور القائد في توجيه فرق العمل نحو الخارج، لتعميق الفهم وبناء شبكةٍ من الرّوابط والتّواصل الفعّال.
يمكن للقادة تحقيق ذلك عبر وضع تحدّيات المؤسّسة ضمن سياقٍ أوسع يشمل الصّعوبات الّتي تواجه مؤسّساتٍ أخرى؛ فكثيرٌ من المشكلات التي تعانيها الشّركات ليست فريدةً، بل هي مشتركةٌ بين عددٍ من الجهات. على سبيل المثال، شركة خدماتٍ تسعى لدمج الذّكاء الاصطناعيّ تتعرّض للضّغوط نفسها الّتي تواجه القطّاع بأكمله، وشركة منتجاتٍ استهلاكيّةٍ تحاول التّكيّف مع بيئةٍ تضخميّةٍ ليست سوى واحدةً من آلاف الشّركات الّتي تمرّ بنفس التّجربة.
عند إدراك الفرق بأنّ “نحن جميعاً في نفس القارب”، يتحوّل الشّعور بالعزلة والفشل إلى تحدٍّ مشتركٍ، ما يخفّف الضّغط النّفسيّ ويستبدل الخجل بالتّماسك والتّضامن، ويمنح الفرق القدرة على مواجهة الصّعاب بثقةٍ ووعيٍ وإبداعٍ.
يعزّز هذا التّوجّه نحو الخارج إمكانيّات الحلول التّعاونيّة الّتي قد تغيب عن القادة والمؤسّسات المعزولة؛ فالقادة قادرون على نسج شراكاتٍ صناعيّةٍ، ومبادراتٍ لتبادل الموارد، وإقامة منصّاتٍ لحلّ المشكلات بشكلٍ جماعيٍّ. ومن الأمثلة على ذلك إطلاق "تحالف التّحدّيات" بين مؤسّساتٍ غير متنافسةٍ تواجه ضغوطاً مماثلةً، يتشاركون فيه الحلول، ويوحّدون الموارد لإجراء البحوث، وينسّقون استجاباتهم المشتركة للتّحدّيات القطّاعيّة؛ فمن خلال هذا التّشاور الواسع والتّعاون المدروس، تصبح المشكلات البنيويّة أكثر قابليّةً للإدارة والتّحكّم.
الاهتمام بالصّحّة البدنيّة
أثناء حرصهم على رعاية فرقهم وقيادة مؤسّساتهم، يغفل القادة أحياناً عن العناية بأنفسهم، رغم أنّ الصّمود الذّهنيّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصّحّة الجسديّة؛ فالحالة البدنية للقائد تؤثّر مباشرةً في قدرته على اتّخاذ القرارات وضبط العواطف. على سبيل المثال، يتّخذ القادة الّذين يعانون من نقص النّوم غالبًا قراراتٍ ضعيفةً، ويكافحون للسّيطرة على انفعالاتهم، وينقلون أنماط عملٍ غير مستدامةٍ إلى فرقهم.
ينبثق من هذا تحدٍ قياديّ يتجاوز حدود العناية الشّخصيّة ليصبح استراتيجيّةً ضروريّةً؛ فالقادة الّذين يسعون للحفاظ على أداءٍ مرتفعٍ يحتاجون إلى الاستثمار بوعي في صحّتهم الجسديّة وصحّة فرقهم. حتّى التّعديلات البسيطة -مثل تحسين جودة النّوم، وممارسة النّشاط البدنيّ المنتظم، واتّباع نظام غذائيٍ متوازنٍ، وقضاء الوقت في الطّبيعة- يُمكن أن تحدث فرقاً ملموساً في الأداء، وتعزز القدرة على الصّمود، وتدعم رفاهيّة الأفراد على المدى الطّويل.
يقف القادة في موقعٍ فريدٍ يمكّنهم من قيادة ثقافة الاهتمام بالصّحّة والرّفاهيّة؛ فعندما يجسّدون عادات عملٍ صحيّةً ومستدامةً، يمنحون فرقهم الإذن بالعمل بطريقةٍ أكثر توازناً واستدامةً. ومن أجل تحقيق ذلك، يمكن للقادة تنظيم اجتماعاتٍ أثناء المشي، واستغلال أوقات إجازاتهم بانتظامٍ، ومناقشة أهميّة الرّاحة والاستشفاء بشكلٍ صريحٍ مع فرقهم، مؤكّدين أنّ الاهتمام بالرّفاهيّة جزءٌ لا يتجزّأ من الأداء والنّجاح المستدام.