التجارة الإلكترونية في الإمارات: نمو سريع وفرص ريادة
تحوّلت الإمارات إلى مركزٍ إقليميٍّ للتّجارة الإلكترونيّة بفضل استراتيجيّاتٍ حكوميّةٍ، وبنيةٍ رقميّةٍ قويّةٍ، وفرصٍ استثماريّةٍ تقودها الابتكارات الماليّة

تحلّق التجارة الإلكترونية في الإمارات العربيّة المتّحدة على إيقاع إستراتيجيّاتٍ وطنيّةٍ طموحةٍ تتطلّع إلى ترسيخ اقتصادٍ رقميٍّ يدرّ ما لا يقلّ عن خمس النّاتج المحلّيّ غير النّفطيّ بحلول 2031. وفي حين تتسارع وتيرة التّسوّق عبر الإنترنت بين المقيمين والسّوّاح معاً، يغدو هذا القطّاع محرّكاً أساسيّاً لفرص ريادة الأعمال، ومنصّةً لتجارب شرائيّةٍ تتجاوز المعايير الإقليميّة إلى معايير عالميّةٍ رفيعةٍ. وتبيّن أحدث الأرقام أنّ قيمة المعاملات قد بلغت 32.3 مليار درهمٍ إماراتيٍّ (حوالي 8.8 مليارات دولار) في 2024، مع توقّعاتٍ بتخطّي 50.6 مليار درهمٍ في 2029، وفقاً لتقرير "تقرير التجارة الإلكترونيّة في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا 2024" (E-Commerce Report in the MENA Region 2024) الّذي أصدرته "إي زد دبي" (EZDubai) بالتّعاون مع "يورومونيتور إنترناشيونال" (Euromonitor International).
حجم سوق التجارة الإلكترونية
تتمتّع دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بأساسٍ رقميٍّ هو الأقوى في المنطقة؛ فوفق تقرير "الرّقميّ 2025 – الإمارات" (Digital 2025 – UAE) الصّادر عن "داتا ريبورتال" (DataReportal) يصل معدّل استخدام الإنترنت إلى 99 % من السّكّان، أي 11.1 مليون مستخدمٍ فعليٍّ مطلع 2025، كما تسجّل الدّولة سرعات اتّصالٍ خليويٍّ متوسّطةً تتجاوز 324 ميغابت/ثانية، ما يؤمّن أرضيّةً مستقرّةً للتّجارة الإلكترونيّة.
ويتعزّز هذا الانتشار الإلكترونيّ بنسبة اقتناء هواتفٍ ذكيّةٍ تقدّر بـ91.9 %، وفق بيانات "جلوبل ميديا إنسايت" (Global Media Insight) للعام 2024؛ أي أنّ ما يزيد على 9.6 ملايين شخصٍ يحملون هاتفاً ذكيّاً يسمح لهم بالتّسوّق أينما كانوا، وهٰذا يخلق قاعدةً جماهيريّةً تفضّل الرّاحة والشفافيّة على أساليب الشّراء التّقليديّة.
أمّا من حيث القيمة، فقد بلغ إنفاق التّسوّق عبر الإنترنت 32.3 مليار درهم (8.8 مليار دولار) في 2024، ويتوقّع أن يتجاوز 50.6 مليار درهم (13.8مليار دولار) بحلول 2029 بمعدّل نموٍّ مركّبٍ 9.4 % سنويّاً، حسب إصدار "تقرير التّجارة الإلكترونيّة في منطقة مينا 2024" الذي أطلقته إي زد دبي. ويظهر التّقرير أنّ ثلثي الإنفاق الإجماليّ يتركّز في ثلاث فئاتٍ رئيسيّةٍ:
- الأزياء والإكسسوارات (Apparel & Footwear).
- الإلكترونيّات الاستهلاكيّة (Consumer Electronics).
- منتجات العناية المنزليّة (Home Care).
تعدّ هذه التّركيبة انعكاساً لتوجّهات المستهلك الإماراتيّ؛ فلدى الشّباب الوافد والمواطن على حدٍّ سواءٍ قدرةٌ شرائيّةٌ مرتفعةٌ ورغبةٌ دائمةٌ في اقتناء أحدث الموضات والتّقنيّات، بينما يزداد الطّلب على منتجات العناية المنزليّة بفعل ارتفاع نسبة العائلات النّاشئة واعتمادهم على خدمات التوصيل السّريع. [1]
يشار إلى أنّ المسار البيانيّ لقيمة السّلّة الشّرائيّة الإِلكترونيّة يشهد نموّاً مطّرداً، إذ أسهم انتشار برامج "اشتر الآن وادفع لاحقاً" (BNPL) إلى جانب الدّفع عبر المحافظ الرّقميّة في رفع متوسّط الإنفاق لكلّ معاملةٍ إلى مستوياتٍ تعدّ الأعلى ضمن دول مجلس التّعاون الخليجيّ. ويعدّ ذلك مؤشّراً على تنامي ثقة المستهلكين، واستقرار البنية التّحتيّة للدّفع الإلكترونيّ، المدعومة بأنظمة الحماية الّتي وفّرها المشروع الوطنيّ للأمن السّيبرانيّ.
في المحصّلة، يجسّد تشابك معدّلات انتشار الإنترنت، واختراق الهواتف الذّكيّة، وعمق القدرة الشّرائيّة، البيئة المثلى لنموّ التّجارة الإلكترونيّة في الإمارات، موفّراً فرصاً ذهبيّةً لـريادة الأعمال ومؤسّساً لمكانةٍ إقليميّةٍ رائدةٍ تجمع بين الابتكار وتتكامل مع طموحات الاقتصاد الرّقميّ في المنطقة.
الإطار التنظيمي وعمق الثقة
ترتكز ثقة المستهلك في سوق التّجارة الإلكترونيّة الإماراتيّة على إطارٍ تشريعيٍّ محكمٍ واضح المعالم؛ فقد أصدرت الحكومة القانون الاتّحاديّ رقم 46 لسنة 2021 تحت عنوان "المعاملات الإلكترونيّة وخدمات الثّقة"، الّذي أسند إلى التّوقيع الرّقميّ حجّيّةً قانونيّةً تامّةً، وأقام سجلّاً وطنيّاً لمزوّدي خدمات الثّقة المعتمدين. مهّد هذا التّنظيم الطّريق لاعتماد نظام هويّةٍ رقميّةٍ موحّدةٍ يبسّط عمليّات التّحقّق من هويّات الشّركات والمستهلكين على حدٍّ سواءٍ، ويُزيل أيّ التباسٍ قانونيٍّ بشأن مشروعيّة العقود الإلكترونيّة والتّعاملات العابرة للحدود.
ولتعزيز حماية الطّرف الأضعف -أي المشتري- اعتمد المشرّع الإماراتيّ حزمةً جديدةً من اللّوائح التّنفيذيّة في أكتوبر 2023، تكمل "قانون حماية المستهلك" الصّادر أساساً في 2020. تُلزم هذه اللّوائح التّجّار بالإفصاح المُسبق عن جميع الرّسوم، وتحديد سياسات الإرجاع بوضوحٍ، كما تطبّق معايير لائحة حماية البيانات الأوروبيّة (GDPR) على معالجة بيانات العملاء، مع منح "الهيئة الاتّحاديّة للمنافسة والاستهلاك" صلاحيّة فرض غراماتٍ فوريّةٍ على أيّ تلاعبٍ سعريٍّ أو خلف وعودٍ تسويقيّة، حيث يشكّل هٰذا المزيج من التّصديق الإلكترونيّ الصّارم والحماية الاستهلاكيّة حلقة الأمان الأولى الّتي بناؤها ضروريٌّ لازدهار التّجارة الرّقميّة.
على المستوى الاستراتيجيّ، وضعت دبي "استراتيجيّة التّجارة الإلكترونيّة" في 2019 بهدف دعم النّاتج المحلّيّ بنحو 12 مليار درهم، وجعل الإمارات محوراً لوجستيّاً عالميّاً من خلال خفض كلفة العمليّات 20% وتبسيط الإجراءات الجمركيّة والمنطقيّة الحرّة. وفي الإطار الاتّحاديّ الأوسع، تراهن استراتيجيّة الاقتصاد الرّقميّ على رفع مساهمة الاقتصاد الرّقميّ من 11.7% إلى ما يتجاوز 20% من النّاتج غير النّفطيّ خلال عقدٍ من الزّمن، تحت إشراف "مجلس الاقتصاد الرّقميّ" برئاسة عمر بن سلطان العلماء، ممّا يضمن انسياب الاستثمارات التّقنيّة ويعمّق بنى الابتكار في كافّة القطّاعات. [2]
أمّا في مجال البنية التّحتيّة الّتي تحدّد كفاءة سلاسل التّوريد، فتعدّ منطقة "إي زد دبي" في "دبي ساوث" نموذجاً رائداً يجسّد تكامل البنى الّلوجستيّة الحديثة، إذ تدمج بين المخازن الآليّةالمبرّدة ومراكز التّخليص الجمركيّ الفوريّ، ما يقلّص زمن التّوصيل العابر للقارّات إلى نحو أربع ساعاتٍ فقط، ويُتيح لتجّار التّجزئة العالميّين تجميع مخزوناتهم تحت سقفٍ جمركيٍّ واحدٍ في الخليج، ممّا يعزّز من مرونة التّوزيع وسرعته.
وبالقرب منها، تبرز "دبي كومرسيتي" (Dubai CommerCity) باعتبارها أوّل منطقةٍ حرّةٍ مخصّصةٍ بالكامل للتّجارة الرّقميّة في الشّرق الأوسط، حيث توفّر مساحاتٍ مخصّصةً لعمليات "التّعبئة الدّقيقة" (Micro-Fulfillment) الّتي تخدم الطّلبات السّريعة، إلى جانب حزمٍ استشاريّةٍ تسهّل إجراءات التّراخيص، مع إعفاءاتٍ ضريبيّةٍ تمتدّ لعشرين عاماً، وحقّ التّملّك الأجنبيّ الكامل بنسبة 0، ما يجعلها وجهةً جاذبةً لروّاد الأعمال الدّوليّين الرّاغبين في الانطلاق من الإمارات.
ولدعم المرحلة النّهائيّة لتوصيل الطّلبيّات، أطلقت شركة "أرامكس" (Aramex) شراكةً تجريبيّةً مع شركة "دروناميكس" (Dronamics) لتشغيل طائراتٍ مسيّرةٍ قادرةٍ على حمل شحناتٍ تصل إلى 350 كغ، وقطع مسافاتٍ تصل إلى 2,500 كم، ما يسهم في خفض كلفة التّوصيل الآخريّ بنسبةٍ قد تصل إلى %50، ويسرّع من وتيرة التّسليم داخل الأسواق المحليّة والإقليميّة على حدٍّ سواءٍ.
تكتمل بهذه السّلسلة التّشريعيّة والاستراتيجيّة والبنيويّة حلقة الثّقة في سوق الإمارات الرّقميّ؛ يطمئنّ المستهلك إلى الحماية القانونيّة، ويستفيد التّاجر من بيئةٍ ممكّنةٍ تُخفض التّكاليف وتقلّص الإجراءات، في حين تسهم المنصّات اللوجستيّة المتطوّرة في توصيل المنتج بجودةٍ وسرعةٍ تنافس أفضل المعايير العالميّة؛ ليترسّخ بذلك موقع الإمارات كقبلةٍ رائدةٍ للتّجارة الإلكترونيّة في الشّرق الأوسط.
نظم الدفع والمحافظ الرقمية
تسير الإمارات بخطىً واثقةٍ نحو بناء مجتمعٍ شبه نقديٍّ، تزداد فيه هيمنة الدّفع الرّقميّ على المعاملات اليوميّة. فوفقاً لتحليل شركة "رولاند برجر" (Roland Berger)، تجاوز عدد مستخدمي المحافظ الرّقميّة في دول الخليج 38 مليون شخصٍ في عام 2024، مع توقّعاتٍ بتحقيق نموٍّ سنويٍّ مركّبٍ يقدّر بنحو 34% حتّى نهاية العقد.
وفي داخل الدّولة، تراجعت حصّة الدّفع عند الاستلام من إجمالي المعاملات إلى أقلّ من الثّلث، بعد أن كانت الخيار الأكثر شيوعاً قبل خمس سنواتٍ؛ إذ تبيّن بيانات "شوردجز" (Shorages)، المستندة إلى تحليل 30,000 طلبٍ، أنّ نسبة الدّفع نقداً عند التّسليم هبطت إلى %31.6 فقط بحلول منتصف 2024، مقابل 68.4% للمدفوعات المُسبقة.
ويُعزى هذا التّراجع بشكلٍ رئيسيٍّ إلى توسّع استخدام حلول الدّفع اللاتلامسي، مثل "آبل باي" (Apple Pay) و"سامسونغ باي" (Samsung Pay) و"محفظة اتصالات" (Etisalat Wallet)، التي أسهمت في ترسيخ ثقة المستهلك في الدّفع الآمن والسّريع. ووفقاً لتقرير "وورلدباي 2024" (Worldpay 2024)، من المتوقّع أن تستحوذ المحافظ الرّقميّة على 42% من إجمالي إنفاق التّجارة الإلكترونيّة في الإمارات بحلول عام 2027، لتتفوّق لأوّل مرةٍ على بطاقات الائتمان من حيث الاستخدام.
في الوقت ذاته، رسّخت خدمات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" (BNPL) حضورها بقوّةٍ في السّوق؛ فبحسب تقريرٍ لـ"فاست كومباني الشّرق الأوسط" (Fast Company ME)، يسهم هذا النّموذج التّمويلي في رفع متوسّط قيمة السّلّة الشّرائيّة بنسبةٍ تتراوح بين %20 و30%، لا سيّما في فئات الأزياء والإلكترونيّات، وذلك بفضل إتاحته للتّقسيط الفوريّ دون فوائد، وتبسيطه لإجراءات الاعتماد الائتمانيّ. [3]
وبهذا المزيج المتكامل -من محافظ رقميّةٍ تحلّ محل النّقد، وخدماتٍ ماليّةٍ مصغّرةٍ تقدَّم عبر تطبيقاتٍ ذكيّةٍ، وخيارات تقسيطٍ مرنةٍ- يتشكّل الأساس الماليّ الجديد الّذي يمهّد لانطلاقةٍ نوعيّةٍ في مشهد التّجارة الإلكترونيّة الإماراتيّة خلال السّنوات القليلة القادمة. [3]
المنظومة التنافسية وأبطال السوق
على صعيد المنصّات، تعدّ شركة "نون" (Noon) أبرز اللّاعبين المحليّين في مشهد التّجارة الإلكترونيّة في الإمارات؛ فقد أظهرت مذكرةٌ بحثيّةٌ حديثةٌ صادرةٌ عن شركة "ريدسير" (Redseer Strategy Consultants) أنّ نون انتزعت موقع الصّدارة في تجارة التّجزئة الإلكترونيّة داخل الدّولة، مدعومةً بشبكة توصيلٍ في اليوم نفسه وتطبيق البقالة الفوريّة "ناو ناو" (NowNow)، وهو ما أسهم في زيادة معدّلات تكرار الشّراء وتعزيز الولاء لدى العملاء.
ويعود هذا التقدّم أيضاً إلى استثماراتها المتنامية في متاجر افتراضيّة مدعومةً بتقنيات الذكاء الاصطناعي، تستخدم لتوقّع حجم المخزون ومواءمة الأسعار مع الطّلب الفوريّ، ما يعزّز كفاءة العرض ويقلّل من الهدر اللّوجستيّ.
ومن جهةٍ أخرى، تواصل "أمازون.إيه إي" (Amazon.ae) ترسيخ حضورها كمنافسٍ عالميٍّ بواجهةٍ محليّةٍ؛ إذ تجاوزت صافي إيراداتها عبر الإنترنت 769.8 مليون دولارٍ أمريكيٍّ خلال عام 2024، وفق بيانات قاعدة "إي كوميرس دي بي" (eCommerce DB). وقد استفادت المنصّة من برنامج "أنجز بواسطة أمازون" (Fulfilled by Amazon)، الّذي يُتيح للبائعين الإماراتيّين التّوسّع إلى أسواقٍ خليجيّةٍ مجاورةٍ دون الحاجة إلى استثماراتٍ لوجستيّةٍ ضخمةٍ.
إلى جانب هذين العملاقين، تنشط في السّوق طبقةٌ متناميّةُ من الشّركات الدّاعمة، تشمل منصّات الدّفع الفوريّ، ومزوّدي خدمات الشّحن متعدّد النّماذج، واللّوجستيّات الذّكيّة، وهي جهاتٌ تسهم في إعادة تشكيل سلاسل القيمة وتمنح التّجّار النّاشئين فرصاً ملموسةً للدّخول السّريع إلى السّوق واقتناص شرائح استهلاكيّةٍ متنوّعةٍ بوتيرةٍ متسارعةٍ.
سلوك المستهلك وتوجهات الشراء
تحوّل الهاتف الذّكيّ إلى البوّابة الأولى لاكتشاف المنتجات والعلامات التجارية لدى المستهلك الإماراتي؛ فبحسب تقرير "التّسوّق الاجتماعي في الإمارات 2024" (United Arab Emirates Social Commerce 2024) الصّادر عن شركة "ريسرش آند ماركتس" (Research and Markets)، يقضي المستخدمون في الإمارات نحو ثلاث ساعاتٍ يوميّاً على المنصّات الاجتماعيّة، ويبحث حوالي 79% منهم عن منتجاتٍ أو علاماتٍ تجاريّةٍ عبر هذه القنوات قبل اتّخاذ قرار الشّراء، فيما يؤكّد 54% أنّهم يتعرّفون إلى منتجاتٍ جديدةٍ من خلال المحتوى المنشور على هذه المنصّات نفسها.
يدفع هذا السّلوك البحثيّ -المعزّز بتأثير المؤثّرين وتجارب الواقع المعزّز- بقوّةٍ نحو نموّ قطّاع التسوق الاجتماعي، والّذي يتوقّع أن يتضاعف حجم معاملاته داخل الإمارات من مليارٍ و220 مليون دولارٍ أمريكيٍّ في عام 2024 إلى مليارٍ و286 دولارٍ أمريكيٍّ بحلول عام 2029، بحسب ما أوردته "بزنس واير" (Business Wire).
ونتيجةً لهذا التّحوّل، لم تعد رحلة الشّراء مجرّد عمليّةٍ تقليديّةٍ، بل باتت تجربةً رقميّةً معزّزةً ومخصّصةً: يبدأ المستخدم بمشاهدة فيديو قصيرٍ، ثم ينتقل إلى متجرٍ افتراضيٍّ ثلاثي الأبعاد، ويتمّ الدّفع بنقرةٍ واحدةٍ باستخدام محفظةٍ رقميّةٍ، وكلّ ذلك خلال أقل من دقيقتين.
لا تسرّع هذه الدّيناميكيّة الحديثة فقط من معدّلات التّحويل، بل ترفع أيضاً معدّل الاحتفاظ بالعملاء، بفضل اتّساع منظومات الولاء الّتي تديرها كبرى المنصّات الرّقميّة في المنطقة.
ترسّخ الإمارات بهذه الركائز الثّلاث -نظم دفعٍ تتطوّر بسرعةٍ، ومنافسةٌ محليّةٌ دوليّةٌ محتدمةٌ، وسلوك مستهلكٍ يميل إلى التّجربة الرّقميّة الغامرة- مكانتها كأكثر أسواق التّجارة الإلكترونيّة نضجاً في الشّرق الأوسط، وتفتح أمام روّاد الأعمال نافذةً واسعةً لابتكار منتجاتٍ وخدماتٍ تتوافق مع هذا المشهد المتغيّر بوتيرةٍ متسارعةٍ.
فرص ريادة الأعمال والاستثمار
تفتح التّحوّلات السّريعة في مشهد التّجارة الإلكترونيّة الإماراتيّة آفاقاً واسعةً لثلاثة مساراتٍ استثماريّةٍ تعدّ اليوم من الأعلى هامشاً للنّموّ، وتستقطب اهتمام روّاد الأعمال والمستثمرين على حدٍّ سواء.
يتمثّل المسار الأوّل في التّمويل الابتكاريّ؛ فبعد تراجع الاعتماد على الدّفع عند الاستلام، برز سوق "اشتر الآن وادفع لاحقاً" كنموذجٍ تمويليٍّ سريعِ الانتشار، مع معدّل نموٍّ سنويٍّ مقدّرٍ بـ18.5%، وتداولٍ يتجاوز مليارين و400 مليون دولارٍ أمريكيٍّ في عام 2024، وفقاً لتقرير "بزنس واير" (Business Wire).
ورغم هذا التّقدّم، لا تزال هناك فجوةٌ واضحةٌ في تمويل الائتمان الاستهلاكيّ على الإنترنت تقدّر بنحو ستة مليارات درهمٍ، بحسب تقديرات شركات التّمويل الرّقميّ. لذلك، تتسابق شركاتٌ جديدةٌ مثل صندوق "كلَب" (Klub)، الّذي أطلق مظلّة ائتمانٍ بقيمة مليار درهمٍ تحت إشراف "سوق أبوظبي العالمي"، لطرح حلولٍ بديلةٍ، تشمل القروض الإيراديّة وتمويل الفواتير، بهدف دعم الشّركات النّاشئة ذات النّموّ السّريع.
أمّا المسار الثّاني فيرتبط بخدمات دعم البائعين، وهي قطّاعٌ متسارع التّطوّر يعتمد على تحليل البيانات والذّكاء الاصطناعيّ، ويشمل أدواتٍ لتتبّع سلوك المستهلك، وإدارة الحملات الإعلانيّة، واستوديوهات الواقع المعزّز الّتي تتيح عرض المنتج داخل التّطبيق قبل الشّراء. وتشير دراسةٌ صادرةٌ عن شركة "ماكينزي" (McKinsey) إلى أنّ التّخصيص القائم على البيانات قادرٌ على خفض تكلفة اكتساب العميل (CAC) بما يصل إلى 50%، بينما تسجّل بعض الحالات في منطقة الخليج انخفاضاً فعليّاً بحدود 30% عند اعتماد هذه الحلول. ومع ارتفاع متوسّط قيمة السّلّة الشّرائيّة الرّقميّة، يصبح تحسين تكلفة اكتساب العميل عنصراً حاسماً في تعظيم العائد على الاستثمار لدى تجّار الأزياء والإلكترونيّات. [4]
يتعلّق المسار الثّالث بالبنية اللّوجستيّة المتقدّمة، وتحديداً في نموذج المخازن المصغّرة الآليّة. هذه المراكز -الّتي تتراوح مساحتها بين 465 و1,860 متراً مربّعاً- مجهّزةٌ بروبوتاتٍ قادرةٍ على تنفيذ ما يصل إلى 600 طلبٍ في السّاعة، ما يتيح إنجاز الطّلبات داخل المدن في أقلّ من ساعةٍ، وبتكلفةٍ تشغيليّةٍ أقلّ بنسبة 50% مقارنةً بالمخازن التّقليديّة، وفقاً لمعايير "غوتزو آركيتكتس" (Guzzo Architects). ويضاف إلى ذلك قرب هذه المنشآت من التّجمّعات السّكنيّة، إلى جانب دعم خطة "لوجستيات خضراء 2030"، الّتي تشجّع على خفض الانبعاثات، ما يجعل هذه المخازن حجر الأساس في أيّ استراتيجيّةٍ تستهدف التّوصيل فائق السّرعة داخل الإمارات.
كلّ هذه المسارات مدعومةٌ ببنيةٍ حاضنةٍ نشطةٍ، حيث توفّر برامجٌ مثل "إنوفيست الشرق الأوسط" (Innovest Middle East) و"هب 71" (Hub71) في أبوظبي حزماً شاملةً، تتضمّن الرّخص الفوريّة، ومساحات العمل المدعومة، وتأشيرات الإقامة الذّهبيّة لروّاد الأعمال الرّقميّين. ما يقلّص زمن الانطلاق، ويسهّل دخول الشّركات النّاشئة إلى أسواق الخليج، كما تشير "فايلوري" (Failory – Incubator List).
باختصارٍ، فإنّ من يجمع بين تمويلٍ مرنٍ، وتسويقٍ ذكيٍّ مؤتمتٍ، وسلسلة توريدٍ تعتمد على مخازن مصغّرةٍ فعّالةٍ، يمتلك اليوم النّافذة الأوسع لاقتناص فرصةٍ من سوقٍ إلكترونيّةٍ مرشّحةٍ لتجاوز خمسين مليار درهمٍ بحلول عام 2029.
التحديات الرئيسية وسبل التجاوز
تواجه التّجارة الإلكترونيّة في الإمارات العربيّة المتّحدة ثلاثة تحدّياتٍ مفصليّةً تؤثّر بشكلٍ مباشرٍ في تنافسيّة السّوق الرّقميّ وتعيق فرص التّوسّع والاستدامة، ولا سيّما بالنّسبة إلى الشّركات النّاشئة.
أوّل هذه التّحدّيات هو كلفة الشّحن العابر للحدود، إذ يؤدّي ارتفاع أجور النّقل الدّوليّ إلى مضاعفة سعر المنتج النّهائيّ، ويقلّص من هوامش الرّبح، خصوصاً للمستهلك الّذي يولي السّعر أهميّةً حاسمةً في قرار الشّراء. ولمعالجة هذا التّحدّي، تعمل الدّولة على توسيع خطوط الشّحن الجوّيّ منخفض التّكاليف من خلال شراكاتٍ إستراتيجيّةٍ مع "طيران الإمارات كارغو" (Emirates SkyCargo)، إلى جانب إطلاق "جسرٍ جوّيٍّ" يربط دبي بمطاراتٍ عدةٍ، بهدف خفض زمن التّوصيل وتقليل التّكاليف اللّوجستيّة في آنٍ واحدٍ.
أمّا التّحدّي الثّاني، فهو ندرة الكفاءات التّقنيّة، وهو ما يبطئ وتيرة الابتكار داخل الشّركات النّاشئة، ويحدّ من قدرتها على تطوير منتجاتٍ رقميّةٍ تنافسيّةٍ بسرعةٍ. ولمواجهة هذا النّقص، اعتمدت الحكومة "تأشيرة الإقامة الزّرقاء" (Blue Residency)، والمخصّصة لخبراء الاقتصاد الرّقميّ، ورصدت لها 100 ألف تأشيرةٍ حتّى عام 2030، في خطوةٍ تهدف إلى تعزيز جاذبيّة الدولة للمواهب العالميّة، وزيادة المخزون المحليّ من المهارات المتخصّصة.
ويتعلّق التّحدّي الثّالث بتشتّت الأطر التّشريعيّة بين الإمارات السّبع؛ فعدم التّناسق في القوانين والإجراءات يفاقم من كلفة الامتثال، ويربك جداول التّشغيل والاستثمار، لاسيما بالنّسبة إلى المشاريع الرّياديّة ذات الامتداد الاتّحاديّ. ولحلّ هذه الإشكاليّة، أطلقت بوّابة "إمارات بايز" (Emirates Biz) الإلكترونيّة، الّتي توفّر منصّةً موحّدةً لإصدار الرّخص التّجاريّة والرّقميّة في غضون 48 ساعةً فقط، ما يقلّص الإجراءات البيروقراطيّة، ويمهّد الطّريق أمام توسّعٍ أسرع وأكثر كفاءةً لروّاد الأعمال.
وبهذه الحلول المتكاملة- اللّوجستيّة، والبشريّة، والتّشريعيّة- ترسّخ الإمارات مكانتها كمركزٍ إقليميٍّ متقدّمٍ للتّجارة الإالكترونيّة، وتؤسّس لبنيةٍ رقميةٍ تواكب التّحديات العالميّة وتحفّز الابتكار والنّموّ المستدام.
آفاق مستقبلية
تشير أحدث التّوقّعات إلى أنّ الإمارات ستصبح في مقدّمة الاقتصادات الّتي تتبنّى الدّفعات الرّقميّة على نطاقٍ واسعٍ، إذ يرتقب أن تعالج نظامات الدّفع الفوريّ والمحافظ الإلكترونيّة نحو 80% من معاملات التّسوّق عبر الإنترنت بحلول 2027، ، وفق بيانات "إيه سي آي وورلدوايد" (ACI Worldwide) الّتي تقدّر حصّة 12% للمدفوعات الفوريّة و42% للمحافظ الرّقميّة في تجارة-التّجزئة الإلكترونيّة.
يتعزّز هذا الزّخم التّقنيّ بإطلاق "الدرهم الرّقميّ" (Digital Dirham) الّذي أعلنت عنه مصرف الإمارات المركزيّ ليدخل حيّز التّداول في الرّبع الأخير من 2025، مستنداً إلى تحالفٍ تقنيٍّ مع "جي 42 كلاود" (G42 Cloud) و"آر ثري" (R3) لضمان تسوية المعاملات على السّجلّ الموزّع بسرعةٍ تقرب من الفوريّة، ممّا يمهّد الطّريق لمنصّات تجارةٍ إلكترونيّةٍ قادرةٍ على قبول العملة الرّقميّة في الوقت الفعليّ وضخّ سيولةٍ أرخص كلفةً وأعلى أماناً.
في مجال اللّوجستيّات، تتّبع دبي خطّة تنصّ على تحويل 30% من أسطول سيّارات الأجرة واللّيموزين إلى مركباتٍ كهربيّةٍ أو هيدروجينيّةٍ بحلول 2030، تليها نسبة 50% في 2035، مع توسعة الاختبار لحافلاتٍ عامّةٍ تعمل بالهيدروجين والكهرباء، وهو ما سيخفّض البصمة الكربونيّة لسلسلة الإمداد بما لا يقلّ عن 12% سنويّاً، وفق هيئة الطّرق والمواصلات "آر تي إيه" (RTA).
يشير خبراء الشّحن إلى أنّ ملّاك أسطول "الميل الأخير" في التّجارة الإلكترونيّة -ولا سيما نون وأمازون.إيه إي- بدأوا يدمجون مركباتٍ كهربيّةً خفيفة الوزن تتوافق مع محطّات التّزويد بالهيدروجين المزمع إقامتها على طرق الشّحن الرّئيسيّة، ما يعيد تشكيل معادلة الكلفة لصالح المستهلك ويفتح الباب أمام مفاهيم الشّحن النّظيف في المنطقة.
على صعيد تجارب المشتري الرّقميّة، يتوقّع أن يستحوذ الميتافيرس على 1% من سوق السّلع الفاخرة العالميّة بحلول 2030، ما يمثّل فرص عائداتٍ تناهز 50 مليار يورو للعلامات الّتي تطوّر متاجر افتراضيّةً ثلاثيّة الأبعاد تسمح للمشتري بمعاينة المنتج وتجربته قبل الشّراء. [5]
وفي دراسةٍ أخرى لـ"أدوبي" (Adobe) تبرز أنّ العلامات الّتي تقدّم تجارب شخصيّةً ومحاكاةً افتراضيّةً تستفيد من نموٍّ في الإيرادات يبلغ 1.7 مرّةً سنويّاً مقارنةً بالشّركات التّقليديّة، إلى جانب زيادة معدّل الاحتفاظ بالعملاء على نحوٍ ملموسٍ. وعليه، فإنّ تكامل عوالم المتافيرس مع مواقع البيع الإلكترونيّ يهيّئ لطورٍ جديدٍ تصبح فيه تجربة الشّراء أكثر تفاعلاً وغمراً، ما يرفع مدّة بقاء الزّائر على المنصّة ويضاعف فرص البيع المتقاطع. [5]
إجمالاً، ترسّخ هذه المستجدّات صورة الإمارات كوجهةٍ مستقبليّةٍ للتّجارة الإلكترونيّة المستدامة والآمنة، حيث يتقاطع الابتكار الماليّ مع الحلول والتّجارب الغامرة ليصنع بيئة تسوّقٍ رقميٍّ تحاكي طموحات المستهلك الجديد وتضع معايير جديدةً للقطّاع في الشّرق الأوسط.
الخلاصة
أثبتت الإمارات أنّ الاستثمار المنهجيّ في البنى التّحتيّة، والتّشريعات الدّاعمة، وبيئات الابتكار هو السّبيل لجعل التّجارة الإلكترونيّة أداةً رئيسيّةً لتنويع الاقتصاد الوطنيّ. ومع تلاقي مسارات التّسوّق عبر الإنترنت وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، تتحوّل الدّولة إلى حاضنةٍ طبيعيّةٍ لأفكار ريادة الأعمال الطموحة. لن تحسم المنافسة المستقبليّة بكبر المنصّة فحسب، بل بقدرتها على ابتكار تجارب مدمجةٍ وموثوقةٍ ومستدامةٍ، تلبّي حاجات العميل وتحتوي تحدّيات الغد في آنٍ واحدٍ.
-
الأسئلة الشائعة
- كم تبلغ قيمة سوق التجارة الإلكترونية في الإمارات؟ تبلغ قيمة سوق التجارة الإلكترونية في الإمارات 32.3 مليار درهم في 2024، ويتوقّع أن تتجاوز 50.6 مليار درهم في 2029.
- ما أكثر القطاعات استهلاكاً في التجارة الإلكترونية؟ كثر القطاعات استهلاكاً في التجارة الإلكترونية: الأزياء والإلكترونيات ومنتجات العناية المنزليّة.
- ما نسبة استخدام الدفع عند الاستلام اليوم؟ نسبة استخدام الدفع عند الاستلام اليوم أقل من 15%، بسبب انتشار المحافظ الرّقميّة والدّفع الفوريّ.
- ما أبرز المنصات الإلكترونية في الإمارات؟ أبرز المنصات الإلكترونية في الإمارات: نون (Noon) وأمازون (Amazon).
- ما أهم التحديات التي تواجه السوق؟ أهم التحديات التي تواجه السوق: تكلفة الشّحن، ونقص الكفاءات التّقنية، وتفاوت التّشريعات بين الإمارات.
- ما أبرز فرص الاستثمار في التجارة الإلكترونية؟ أبرز فرص الاستثمار في التجارة الإلكترونية: التّمويل المرن (BNPL)، وخدمات دعم البائعين، والمخازن المصغّرة الذّكيّة.