هل تحسم البنية التحتيّة معركة الذكاء الاصطناعي؟
بين الأرقام الهائلة والاستثمارات الجريئة، تنسج خيوط مرحلةٍ جديدةً قد تغيّر شكل الاقتصاد والعقل البشريّ

سجّلت شركتا "ميتا" (Meta) و"مايكروسوفت" (Microsoft) أرباحاً ضخمةً يوم الأربعاء، ما عزّز مكانتهما كقوّتين مهيمنتين في عالم التّكنولوجيا الكبرى. ولٰكن اللّافت في هٰذه النّتائج لم يكن الأرقام نفسها، بل ما تكشفه خطط الإنفاق الطّموحة لكلٍّ منهما بخصوص سباق الذكاء الاصطناعي.
في الرّبع الأوّل من العام، تجاوزت الشّركتان التّوقّعات على جميع المستويات: حيث سجّلت ميتا أرباحاً للسّهم الواحد بلغت 6.43 دولاراً، بينما كانت التّوقّعات تشير إلى 5.28 دولاراً فقط، وذٰلك حسب استطلاعٍ أجرته شركة "إل إس إي جي" (LSEG). كما حقّقت الشّركة إيراداتٍ بقيمة 42.31 مليار دولارٍ، متفوّقةً على التّقديرات الّتي بلغت 41.40 مليار دولارٍ. أمّا مايكروسوفت، فقد أعلنت عن أرباحٍ للسّهم بلغت 3.46 دولارٍ، متجاوزةً التّوقّعات البالغة 3.22 دولارٍ، وبلغت إيراداتها 70.07 مليار دولارٍ، وهو رقمٌ يفوق التّوقّعات الّتي كانت 68.42 مليار دولارٍ. وبعد هٰذه النّتائج، ارتفعت أسهم الشّركتين في التّداولات بعد الإغلاق.
أرباح الماضي مهمّةٌ، ولٰكن الأهمّ هو: إلى أين تتّجه الأموال؟ رغم أنّ هٰذه الأرقام القويّة تعكس أداءً ماليّاً ممتازاً، إلّا أنّ الأهمّ منها هو ما تعتزم كلٌّ من الشّركتين فعله بكلّ هٰذا التّدفّق النّقديّ، إذ تتضح النّظرة الحقيقيّة للمستقبل من خلال خطط الإنفاق الرّأسماليّ المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
رفعت ميتا توقّعاتها للإنفاق الرّأسماليّ في عام 2025 إلى ما يصل إلى 72 مليار دولارٍ، بعد أن كانت التّوقّعات السّابقة تبلغ 65 ملياراً. أمّا مايكروسوفت، فقد أنفقت في الرّبع الماضي وحده 16.75 مليار دولارٍ، أي بزيادةٍ مذهلةٍ بلغت 53% مقارنةً بالعام السّابق. والملفت أنّ هٰذا الإنفاق لا يذهب إلى تطوير المنتجات بشكلٍ مباشرٍ، بل يخصّ البنية التّحتيّة: مراكز البيانات، والخوادم، والقدرات الحوسبيّة العالية. وهٰذا يوضّح حقيقةً جديدةً: لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد مجالٍ تقنيٍّ، بل أصبح لعبةً تتطلّب رأس مالٍ ضخمٍ.
الذكاء الاصطناعي: ساحةٌ لمن يملك أكبر محفظةٍ استثماريّةٍ
في عالم اليوم، من يمتلك الأموال الأكثر يستطيع الحصول على أفضل البيانات، وأسرع الشّرائح الإلكترونيّة، وأوسع قاعدةٍ من المستخدمين؛ فهؤلاء يبنون أدواتٍ أقوى، ويوزّعونها على نطاقٍ أوسع، ويحكمون سيطرتهم على السّوق.
تمتلك ميتا، مثلاً، قاعدةً ضخمةً من المستخدمين تقدّر بحوالي 3 مليار شخصٍ عبر تطبيقاتها: "واتساب" (WhatsApp)، و"انستغرام" (Instagram)، و"فيسبوك" (Facebook). يعزّز هٰذا الحجم الضّخم نفسه بشكلٍ تلقائيٍّ، ممّا يمنحها قوّةً لا يستهان بها. ولذٰلك السّبب، ما يزال قطاع التّكنولوجيا في مؤشّر "إس آند بي 5000" (S&P 500) هو الأكثر تفوّقاً من حيث توقّعات الأرباح على مدى الـ12 شهراً المقبلة.
كلّما زاد عدد المستخدمين، زادت كمّيّة البيانات المتاحة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، ممّا يؤدّي إلى نماذج أفضل، وبالتّالي إلى ميزةٍ تنافسيّةٍ يصعب اختراقها. على المدى البعيد، ستبدو خسائر ميتا في قسم "ريالتي لابز" (Reality Labs)، والّتي بلغت 4.2 مليار دولارٍ، وكأنّها رقمٌ جانبيٌّ لا يستحقّ القلق.
مايكروسوفت تحوّل Azure إلى مركز ذكاء اصطناعي شامل
أمّا مايكروسوفت، فقد نجحت في تحويل خدمتها السّحابيّة "أزور" (Azure) إلى منصّةٍ متكاملةٍ للذكاء الاصطناعي؛ فقد ارتفعت إيرادات أزور بنسبة 33% خلال هٰذا الرّبع، وكان نصف هٰذا النّموّ مرتبطاً بشكلٍ مباشرٍ بالذكاء الاصطناعي. إلى جانب ذٰلك، حقّق قسم "السّحابة الذّكيّة" (Intelligent Cloud) إيراداتٍ بلغت 26.75 مليار دولارٍ، أي بزيادةٍ تجاوزت 20%. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ أغلب الشّركات النّاشئة في مجال الذكاء الاصطناعي تعتمد على بنية مايكروسوفت التّحتيّة لتشغيل خدماتها، ممّا يعزّز من هيمنتها على السّوق.
تشكّل كلّ هٰذه التّطوّرات مشهداً مخيفاً بالنّسبة للمنافسين الصّغار أو الشّركات النّاشئة الّتي تحاول اللّحاق بالرّكب. فالشّركات الكبرى، الّتي هي أصلاً غنيّةٌ وضخمةٌ، تصبح أغنى وأضخم وأكثر تقدّماً؛ فشركةٌ مثل مايكروسوفت أو ميتا يمكنها أن تستثمر 50 مليار دولارٍ سنويّاً في الذكاء الاصطناعي دون أن تكون مضطرّةً لاستخدام كلّ دولارٍ بكفاءةٍ مطلقةٍ، يكفيها فقط أن تستمرّ في الإنفاق بكثافةٍ.
وإذا استمرّت شركات التّكنولوجيا الكبرى في تحقيق نتائج مثل هٰذه على مدار عدّة أرباعٍ قادمةٍ، فإنّ الحماس وروح المبادرة وحدهما لن يكونا كافيين. ففي سباق الذكاء الاصطناعي، الأسرع هو الأكثر إنفاقاً، وميتا ومايكروسوفت تمضيان بعيداً في الصّدارة.